قصص مخترعة للوعظ تخالف العقل وتبحث عن الترغيب والترهيب
في عصر الخلافة الراشدة عصر الرعيل الأول الذين آمنوا فصدق إيمانهم واستقاموا فحسنت استقامتهم، الذين جعلوا من الإسلام سلوكا عمليا في حياتهم وأخلاقهم لم يكن الناصحون والوعاظ والخطباء يذهبون في خطبهم ومواعظهم أبعد من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكان عماد العظة والإرشاد "الكتاب والسنة" وما يدور في فلكيهما وما يستمد منهما، وقد كانت الخلافة الراشدة يقظة في منع "القصاصين" الذين يوردون القصص الديني القائم على الخرافة والإسرائيليات لتسلية العامة وخدمة أفكار مشبوهة ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة والمروزي عن ابن سيرين قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن قاصا يقص بالبصرة فكتب إليه: قال الله تعالى (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص...)". فعرف الرجل مراد "عمر" فترك القص وانقطع عما كان فيه.
وروى أبو حامد الغزالي في إحيائه: أن الإمام علي رضي الله عنه دخل البصرة فجعل يخرج القصاص من المسجد ويقول: "لا يقص في مسجدنا" حتى إذا انتهى إلى الحسن البصري وهو يعظ الناس انصرف عنه ولم يخرجه وذلك لأن الحسن كان فقيها عالما ثبتا وليس من القصاص.
وفي عصرنا الحالي وهو امتداد للعصور الإسلامية التي تلت الخلافة الراشدة ظهر بعض من المشتغلين في الوعظ والإرشاد ولا سيما من الشبان المتحمسين ممن لم يكتفوا في مواعظهم وخطبهم بالقرآن الكريم والسنة النبوية بل أخذوا يتزيدون ويتوسعون، ولعمري أن هذه الزيادة وذلك التوسع على حساب الدين! إنها القصص المؤلفة والحوادث المختلفة والحكايات الملفقة التي من صنع الخيال والتي يسردها بعض الوعاظ في مواعظهم وخطبهم بقصد الترغيب في طاعة أو الترهيب من معصية أو الدعوة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل أو لتسلية العامة وشد انتباههم فربما فيها ما يشبع نهمهم، ويثير إعجابهم ويريح فضول العوام الذين لا يتقنون التحقيق العلمي ويكرهون الدقة الفقهية ويعجبون بالأقاصيص والغرائب، ولو نظرنا لهؤلاء "القصاصين" نظرة فاحصة ناقدة لوجدنا أكثرهم ضعيف الصلة فهما وتدبرا بالكتاب السنة، قليل البضاعة من الحق كثير البضاعة من اللغو يدفعه الرياء لاختلاق الحوادث والمواقف لكي يقال عنه إنه أتى بما لم تستطعه الأوائل!، وإنه خطيب مفوه أبرع من سحبان بن وائل! وفي هذا المقام أحب أن أسرد بعضاً من الأقاصيص الدينية التي يروجها هؤلاء القصاصون بقصد الوعظ والنصيحة:
في ذات مساء وبعد صلاة العشاء قام شاب يافع يرتدي ثياب واعظ بدأ كلامه بحث الناس على التبرع والتصدق على فقراء محتاجين في كشمير المسلمة وعطر كلامه بآيات وأحاديث نبوية وليته اكتفى بهذا ولكنه استطرد في حديثه ثم أورد قصة غريبة لم استطع بلعها!! قال: "إن جنديين من الهندوس اقتحما بيتا من بيوت المسلمين في كشمير فلم يجدا فيه سوى أم وابنتها وسماها "فاطمة"!! ثم قام الجنديان باغتصاب الأم وابنتها وبعد هذا الفعل المشين قاما بقتلهما". ثم صرخ ذلك الشاب صرخة مدوية متسائلا: أتدرون ماذا قال أحد الجنديين وهو واضع رجله على وجه الأم؟! لقد قال: سوف أضع رجلي هذه على الكعبة كما أنني واضعها على هذا الوجه"!!.
لقد خطر في ذهني سؤال ملح عند سماعي لهذه القصة: من الذي نقل هذه الحادثة إلينا إذا كانت الأم وابنتها قد ماتتا ولا يوجد في المنزل سوى الجنديين الهندوسيين؟!. ربما يستطيع مروجو الحوادث المكذوبة الإجابة فيخترعون لتلك القصة أذيالا إضافية!.
ومن الأقاصيص التي تحذر من التدخين يورد بعضهم أن أحد المدخنين مات وعند غسيله وتكفينه حاول من يكفنه ثني عنقه فلم يستطع وعندما جذبه بقوة خرج من عنقه سائل أسود، اختلفت الروايات عن ماهيته فالمتفائلون يقولون إنها مادة "النيكوتين" والمتشائمون يقولون إنها مادة "الهروين"!. ولك عزيزي القارئ أن تتأمل! ومن الأقاصيص التي تحذر من "الدش" يقول أحد القصاصين في قصة وضع لها عنوان "دمعة عذراء" يقول القاص: "إن أحد الطيبين نصح جاره أن يزيل الطبق الفضائي من فوق سطحه فرد بقوله: إن طبقه لا يستقبل إلا عربسات ونايل سات" وأنه يريد أن يتابع الأخبار العالمية والمباريات الرياضية، وبعد حين من الدهر جاء لذلك الجار الطيب اتصال هاتفي فإذا به من ابنة جاره "صاحب الدش" وإذا بها تصرخ باكية قائلة: "الحق بي دخيلك إن أبي اغتصبني!!" إن هذه القصة الشنيعة المكذوبة التي تخالف العقل السليم وليس لها سند متصل والغريبة في مجتمعنا الإسلامي ولا سيما في بلادنا يحلو لمروجي الشائعات نشرها وتسويقها في المساجد والمجالس ومن المؤسف أن الأغرار من المسلمين وقعوا في حبائل هذه الأكاذيب فأخذوا ينقلونها ويكتبونها في منشورات تعلق في المساجد وفي الأماكن العامة.
كنت في الواقع أتمنى من ذلك القاص أن يذكر اسم ذلك الأب المجرم إن استطاع لعله يلقى جزاءه!.
وفي أحد المساجد وجدت ورقة منسوخة عدة نسخ مكتوب أعلاها "هذه قصتي مع الدش" وكالعادة لم يذكر اسم الشخص ولا من روى القصة وكان مفادها أن شابا يقول عن نفسه إنه كان داعية "وملتزما" - انظر كيف يزكي نفسه - أراد أن يدخل "الدش" في بيته من أجل متابعة "المشايخ والدعاة" الذين يظهرون على شاشة الفضائيات ولكن الشيطان جره لمتابعة القنوات الأوروبية ثم استطرد قائلا: إنه انحرف وجره ذلك الانحراف إلى السفر إلى خارج المملكة - رغما عن زوجته وأبنائه - لمطاردة إحدى العاهرات ثم تفاجأ بأن أحد الفاسدين يدعوه "للنصرانية" ولكنه ببقايا من الإيمان رفض ذلك وقرر أن يقضي أسبوعين فقط في الفسق والفجور!! ثم عاد إلى المملكة بوجه وقح "كما ذكر ذلك" ثم أورد أنه قرأ كتابا يحذر من "الدش" فكان سببا في توبته ثم نصح في آخر قصته بألا يظهر المشايخ والدعاة في الفضائيات!. في رأيي أن هذه القصة مخترعة لترويج الكتاب الذي ذكر اسمه في قصته ثم لا سند لها وهذا دليل على ضعفها، ويبدو أن كاتبها يعيش في كوكب آخر غير كوكبنا إنني أستغرب كيف يطلب من الدعاة والمشايخ عدم الظهور في الفضائيات؟ هل يريد أن تتحول الفضائيات إلى "كبريهات" برامجها محصورة في المجون والعري والفيديو كليب؟، إن كاتبها لا يعرف أهمية "الفضائيات" كسلاح إعلامي فعال في زمن أصبح العالم فيه ليس "قرية" كما قيل في السابق بل "كغرفة صغيرة"! ويبدو أنه من أولئك الذين يوقنون أن دعوة الله موقوفة في المساجد فقط وهذا جهل كبير!.
ومن الأقاصيص الوعظية التي راجت في وقت سابق ومعظم الناس يعرفونها ويلوكونها في مجالسهم ثم اتضح أنها مكذوبة ومؤلفة بقصد ترهيب من يترك الصلاة قصة الرجل الميت الذي حاول الناس دفنه ولكن كلما حفروا حفرة وجدوا ثعبانا أسود وبعد السؤال والتحري وجدوا أن الميت لم يكن من المصلين!، وقد رد علماء أجلاء في بلادنا على هذه الفرية التي لطالما ضجت بها منابر وراجت بها شرائط!! وفي الختام أحب أن أذكر الأسباب التي أدت إلى رفض الكثير من الأقاصيص التي يروجها بعض الوعاظ والقصاصين:
أولا: معظم القصص تفتقد للسند، فكثير ما تروى بصيغة التمريض كقول "حكي، وقيل" وهذا يدل على أن رواة القصة مجهولون، وهذا سبب موضوعي للحكم على القصة بالضعف أو الوضع، وإذا كان في سند الحديث النبوي مجهول أو أن فيه انقطاعا فإن جمهور العلماء يحكمون عليه بالضعف أو الوضع فما بالك بحكاية أو قصة لا يبنى عليها حكم شرعي!.
ثانيا: كثير من القصص تخالف العقل المنضبط بالشرع وتصطدم مع الفطرة السليمة والمنطق القويم.
ثالثا: كما أن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة مرفوض فكذلك الترهيب أو الترغيب بالكذب مرفوض أيضا، والله طيب لا يقبل إلا طيبا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار". رواه البخاري ومسلم وأبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" الجزء الأول صفحة 38 قال: "..... ومن الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق فهذه من نزعات الشيطان، فإن في الصدق مندوحة عن الكذب، وفيما ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم غنية عن الاختراع في الوعظ، كيف وقد كره السجع وعد ذلك من التصنع" أهـ.
وأخيرا إن عظة تستغرق دقائق وهي مبنية على الكتاب وما صح من السنة النبوية أو التاريخ الإسلامي أفضل ألف مرة من خطب عصماء أو محاضرات طوال مبنية على حكايات مخترعة وأقاصيص ملفقة لا وزن لها وإشاعات في نشرها بلاء على الدين والوطن والله من وراء القصد.
عبدالله علي الشهراني
خميس مشيط