• 0
  • مالي خلق
  • أتهاوش
  • متضايق
  • مريض
  • مستانس
  • مستغرب
  • مشتط
  • أسولف
  • مغرم
  • معصب
  • منحرج
  • آكل
  • ابكي
  • ارقص
  • اصلي
  • استهبل
  • اضحك
  • اضحك  2
  • تعجبني
  • بضبطلك
  • رايق
  • زعلان
  • عبقري
  • نايم
  • طبيعي
  • كشخة
  • صفحة 3 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
    النتائج 31 إلى 45 من 77

    الموضوع: &&[[ ... مكتبة سير أكثر من 40 صحابي رضوان الله عليهم ... ]]&&

    1. #31
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      27/ جابر بن عبد الله :


      مضى الركب يحث الخطى من يثرب إلى مكة تحدوه الأشواق و يدفعه الحنين...
      فلقد كان على موعد مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه , و كان كل من في الركب يتلهف شوقا إلى تلك اللحظة التي يسعد فيها بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام..
      ووضع يده في يده ليبايعه على السمع والطاعة...
      و يعاهده على التأييد والنصر...
      و كان في الركب شيخ من وحوه القوم أردف ورائه غلامه الصغير الوحيد , و خلف في يثرب تسع بنات , إذ لم يكن له صبي غيره...
      ولقد كان الشيخ حريصا أشد الحرص على أن يشهد غلامه الصغير البيعه...
      و ألا يفوته ذلك اليوم من أيام الله...
      أما ذلك الشيخ فهو ((عبدالله بن عمرو الخزرجي الأنصاري))...
      و أما غلامه فهو ((جابر بن عبدالله الأنصاري))...



      أشرق الإيمان في فؤاد جابر بن عبدالله وهو صغير غض فأضاء كل جانب من جوانبه...
      و مس الإسلام قلبه الصغير كما تمس قطرات الندى أكمام الزهر فَتُفَتِّحُهَا , و تُفْعِمُهَا بالشذى و العطر...
      و توثقت صِلاته بالرسول صلوات الله و سلامه عليه منذ نعومة أظفاره...


      و لما وفد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على المدينة مهاجراً ؛ تتلمذ الصبي المؤمن على يدي نبي الهدى والرحمة , فكان من أنجب من أخرجتهم المدرسة المحمدية للناس حفظاً لكتاب الله...
      وفِقْهاً في دين الله...
      ورواية لحديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
      وحسبك أن تعلم أن مسند جابر بن عبدالله يضم بين دفتيه ألفاً و خمسمائة و أربعين حديثاً...
      حفظها التلميذ النجيب , ورواها للمسلمين عن نبيهم الأعظم صلى الله عليه وسلم.
      و أن البخاريّ و مسلماً أثبتا في صحيحيهما ما ينوف على مائتين من أحاديثه تلك...
      وأنه ظلّض نصدر إشعاع و هداية للمسلمين دهراً طويلاً ؛ فلقد مد الله في حياته حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرناً من الزمان.



      لم يشهد جابر بن عبدالله ((بدرا)) ولا ((أُحداً)) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
      لأنه كان صغيراً من جهةٍ...
      ولأن أباه كان يأمره بالبقاء مع إخوته التسع من جهة أخرى , ذلك لأنه لم يكن لهن أحدٌ سواه يقوم على أمرهن.

      حَدَّث جابرٌ, قال:
      لما كانت تلك الليلة التي سبقت (( أُحدا)) دعاني أبي و قال:
      إني لا أراني إلا مقتولاً مع أول من يقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , و إني والله ما أدع أحداً أعزَّ علي منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      و إن علي دينا , فأقض ديني...
      وارحم أخواتك...
      واستوص بهن خيراً.

      فلما أصبحنا كان أبي أول قتيلٍ قتل في ((أحد)).
      فلما دفنته أتيت النبي عليه الصلاة والسلام , فقلت :
      يا رسول الله إن أبي ترك ديناً عليه...
      وليس عندي ما أفيه به إلا ما يخرجه ثمر نخيله , ولو عمدت إلى وفاء دينه من ذلك لما أديته في سنين...
      ولا مال لأخواتي أنفق عليهن منه غير هذا.
      فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , و مضى معي إلى بيدر (المكان اللذي يُكوم و يجمع فيه التمر) تمرنا و قال لي :
      ( أدع غُرماء أبيك ), فدعوتهم.
      فما زال يكيل لهم منه حتى أدى الله عن أبي دينه كله من تمر تلك السنة.
      ثم نظرت إلى البيدر فوجدته كما هو...
      كأنه لم تنقص منه تمرة واحدةٌ...



      و منذ توفي والد جابر لم تفته غزوة واحده مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
      ولقد كانت له في كل غزوة حادثة تروى و تحفظ.
      فلنترك له الكلام ليروي لنا إحدى حوادثه مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه .
      قال جابر :
      كنا يوم ((الخندق)) نحفر , فعرضت لنا صخرة شديدة عجزنا عن تحطيمها , فجئنا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقلنا :
      يا نبي الله لقد وقفت في سبيلنا صخرة صلدة , ولم تفعل معاولنا فيها شيئاً.
      فقال عليه الصلاة والسلام: ( دعوها فإني نازل إليها ).

      ثم قام , و كان بطنه معصوبا بحجر من شدة الجوع ؛ ذلك لأننا كنا أمضينا أياناً ثلاثة لم نذق خلالها طعاماً , فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام المعول , وضرب الصخرة فغدت كثيباً مهيلاً.
      عند ذلك إزداد أساي على ما أصاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من الجوع , فاتجهت إليه وقلت :
      أتأذن لي يا رسول الله بالمضي إلى بيتي ؟.
      فقال : (امض) .
      فلما بلغت البيت قلت لامرأتي : لقد رأيت برسول الله من مرارة الجوع ما لا يصبر عليه أحد من البشر , فهل عندكِ من شيءٍ ؟.
      قالت : عندي قليل من الشعير , وشاة صغيرة , فقمت إلى الشاة فذبحتها و قطعتها , و جعلتها في القدر , و أخذت الشعير فطحنته و دفعته إلى امرأتي , فعجنته فلما وجدت أن اللحم كاد ينضج...
      وأن العجين قد لان , و أوشك أن يختمر .
      مضيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , و قلت له :
      قليل من الطعام صنعناه لك يا نبي الله ؛ فقم أنت ورجل أو رجلان معك .
      فقال : ( كم هو ) ؟ .
      فوصفته له...
      فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بمقدار الطعام قال :
      ( يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم طعاماً فهلموا إليه ) ...
      ثم التفت إلي وقال : ( امض إلى زوجتك وقل لها :
      لا تُنْزِلِي قِدرك , ولا تخبزي عجينك حتى أجيء ) .
      فمضيت إلى البيت ؛ وقد ركبني من الهم والحياء ما لا يعلمه إلا الله.
      وجعلت أقول : أيجيئنا أهل الخندق على صاع من شعير ...
      و شاةٍ صغيرة ؟! .
      ثم دخلت على امرأتي و قلت : ويحكِ , لقد افتضحت...
      فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتينا بأهل الخندق أجمعين.
      فقالت : هل سألك : كم طعامك؟ .
      قلت : نعم.
      فقالت : سَرِّ عن نفسك , فالله ورسوله أعلم , فكشفت عني غمًّا شديداً بمقالتها تلك.
      وماهو إلا قليل حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم...
      ومعه الأنصار والمهاجرون , فقال لهم :
      ( ادخلوا , ولا تزدحموا ).
      ثم قال لامرأتي : ( هاتِ خابزة فلتخبز معك ...
      واغرفي من قدرك ...
      ولا تنزليها عن الموقد )
      ثم طفق يكسر الخبز , ويجعل عليه اللحم , و يقربه إلى أصحابه ...
      و هم يأكلون . حتى شبعوا جميعا .
      ثم أردف جابر قائلاً :
      أقسم بالله إنهم انفضوا عن الطعام و إن قدرنا لتفورُ ممتلئة كما هي ...
      وإن عجيننا ليخبز كما هو ...
      ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأتي :
      ( كلي ...
      واهدي ) ...
      فأكلت , وجعلت تهدي طوال ذلك اليوم كله .




      هذا ولقد ظلَّ جابر بن عبدالله الأنصاري مصدر إشعاع وهداية للمسلمين دهراً طويلاً , حيث مد الله في أجله حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرنا من الزمان .
      ولقد خرج ذات سنة إلى بلاد الروم غازياً قي سبيل الله .
      وكان الجيش بقيادة مالك بن عبدالله الخثعمي .
      وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم , ويشد من أزرهم , و يولي كبارهم ما يستحقونه من عناية و رعاية .
      فم بجابر بن عبدالله , فوجده ماشياً ...
      ومعه بغل له يمسك بزمامه , ويقوده .
      فقال له : ما بك يا أبا عبد الله ؟ ...
      لم لا تركب ؟ّ , وقد يسر الله لك ظهراً يحملك عليه .
      فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار ) .
      فتركه مالك و مضى حتى غدا في مقدمة الجيش .
      ثم التفت إليه وناداه بأعلى صوته , وقال : يا أبا عبد الله , مالك لا تركب بغلك , وهو في حوزتك ؟! .
      فعرع جابر قصده , و أجابه بصوت عال وقال :
      لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار ).
      فتواثب الناس عن دوابهم ...
      و كل منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر .
      فما رُئِيَ جيش أكثر مشاةً من ذلك الجيش .





      هنيئاً لجابر بن عبدالله الأنصاري :
      فقد بايع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو طفيل لم يبلغ الحلم ...
      وتتلمذ على يديه منذ نعومة أظفاره ...
      وروى حديثه فتناقلته عنه الرواة ...
      زجاهد مع رسول الله على الصلاة والسلام وهو شاب موفور الشباب ...
      وغبَّر قدميه في سبيل الله وهو شيخ طاعن في السن.
      </FONT>

    2. #32
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      28 / عبد الله بن مسعود :


      قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأصبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..

      هو اذن من الأوائل المبكرين..

      ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

      " كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
      فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..

      فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟

      قلت: نعم..

      فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..

      فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.

      فقال: انك غلام معلم"...




      **




      لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

      وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..

      بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..

      فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

      (بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).

      ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

      ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

      انه الزبير رضي الله عنه يقول:

      " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

      والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟

      فقال عبدالله بن مسعود:أنا..

      قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

      قال: دعوني، فان الله سيمنعني..

      فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..

      فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

      فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

      ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:

      هذا الذي خشينا عليك..

      فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

      قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!





      أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

      ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

      ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!




      **




      لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

      بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

      فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

      فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

      ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

      ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

      ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

      ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.

      يقول على نفسه:

      " أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..

      ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..



      ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

      " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

      ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

      يقول عليه السلام:

      " من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..

      " من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

      ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

      دعاه يوما الرسول، وقال له:

      " اقرأ عليّ يا عبد الله"..

      قال عبد الله:

      " أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

      فقال له الرسول:

      "اني أحب أن أسمعه من غيري"..

      فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

      (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

      يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

      ولا يكتمون الله حديثا)..

      فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:

      أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..



      وتحدث هو بنعمة الله فقال:

      " والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!



      ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

      " لقد ملئ فقها"..

      وقال أبو موسى الأشعري:

      " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

      ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

      يقول عنه حذيفة:

      " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...

      ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

      واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

      "يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

      قال علي:

      نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟

      قالوا:

      نعم..

      قال:

      اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..

      لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!



      وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

      " ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

      وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..



      يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

      "لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

      ذلك أن الحبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

      " لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..

      وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:

      " تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...



      وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

      فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

      وهكذا قال عنه أصحابه:

      " كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..



      ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..

      ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...



      فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!



      ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

      يقول عمرو بن ميمون:

      " اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

      ويقول علقمة بن قيس:

      " كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!

      ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

      " حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

      الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

      فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!




      **




      لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أبي جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

      " اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".

      ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..

      واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..

      ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..



      ولقد بلغ من حبهم اياه أن أحاطوا به حين أراد الخليفة عثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

      ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:

      " ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

      ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخليفة عثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت المال،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

      بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

      وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:

      " لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".

      ويقول بعض أصحاب ابن مسعود:

      " ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..




      **




      ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

      وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..

      لنستمع له مثلا وهو يلخص حياة عمر العظيمة في تركيز باهر فيقول:

      " كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

      ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

      " ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

      ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..

      ومن كلماته الجامعة:

      " خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..




      **




      هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..

      هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

      نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

      له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:

      " تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

      أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

      ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



      وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..

      وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..



      ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..



      ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..



      ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:

      " قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!




      **




      تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

      وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..

      ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!

      </FONT>

    3. #33
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      29 / جعفر بن أبي طالب :


      انظروا جلال شبابه..

      انظروا نضارة اهابه..

      انظروا أناته وحلمه، حدبه، وبرّه، تواضعه وتقاه..

      انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر..

      انظروا طهره وعفته..

      انظروا صدقه وأمانته...
      انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، ثم لا تعجبوا، فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا، وخلقا..

      أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أبي المساكين..

      أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي الجناحين..

      أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد، جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ ضمير الحياة..!!




      **




      أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين..

      وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس..

      وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة..

      فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة الى الحبشة، خرج جعفر وزوجه حيث لبيا بها سنين عددا، رزقا خلالها بأولادهما الثلاثة محمد، وعبد الله، وعوف...




      **




      وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق، الموفق باسم الاسلام ورسوله..

      ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم، بذكاء القلب، واشراق العقل، وفطنة النفس، وفصاحة اللسان..

      ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها..

      فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحيشة، لن يقلّ روعة ولا بهاء، ولا مجدا..

      لقد كان يوما فذّا، ومشهدا عجبا...




      **




      وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها، ولم يطامن كم أحقادها، هجرة المسلمين الى الحبشة، بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول، وينشرح له صدر الاسلام..



      هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين...

      وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد...




      **




      كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش الحبشة، رجلا يحمل ايمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق...

      وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة، تنشر غبيرها في كل مكان تبلغه..

      من أجل هذا، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه..

      ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة، وكبار رجال الكنيسة هناك، وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي.

      وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة، وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة، ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها اليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه..

      ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين، ويستنجدان بهم لحمل النجاشي، ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.




      **




      وفي وقار مهيب، وتواضع جليل، جلس النجاشي على كرسيه العالي، تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية، وجلس أمامه في البهو الفسيح، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة الله، وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير:

      " أيها الملك.. انه قد ضوى لك الى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، أعمامهم، وعشائرهم، لتردّهم اليهم"...

      وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله:

      " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟

      ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم، وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع..



      نهض جعفر في تؤدة وجلال، وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال:

      " يا أيها الملك..

      كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..

      وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء..

      ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا الى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث..

      فلما قهرونا، وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك"...




      **




      ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر، فملأت نفس النجاشي احساسا وروعة، والتفت الى جعفر وساله:

      " هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟

      قال جعفر: نعم..

      قال النجاشي: فاقرأه علي..

      ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة مريم، في أداء عذب، وخشوع فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته جميعا..

      ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة، التفت الى مبعوثي قريش، وقال:

      " ان هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..

      انطلقا فلا والله، لا أسلمهم اليكما"..!!




      **




      انفضّ الجميع، وقد نصر الله عباده وآرهم، في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..

      لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرّع الهزيمة، ولا يذعن لليأس..

      وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكّر ويدبّر، وقال لزميله:

      " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا، ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..

      وأجابه صاحبه: " لا تفعل، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا"..

      قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد"..

      هذه اذن هي المكيدة الجديدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة، ويضعهم بين شقّي الرحى، فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله، حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!




      **




      وفي الغداة أغذا السير الى مقابلة الملك، وقال له عمرو:

      " أيها الملك: انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما".

      واضطرب الأساقفة..

      واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة..

      ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح..

      وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون..

      ثم تفقوا على أن يقولوا الحق الذي سمعون من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لايحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..!!

      وانعقد الاجتماع من جديد، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر:

      "ماذا تقولون في عيسى"..؟؟

      ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال:

      " نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه"..

      فهتف النجاشي نصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..

      لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يسبه النكير..

      ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين:

      " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبّكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل"..

      ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش:

      " ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها...

      فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه"...!!

      وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها...

      وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم...




      **




      كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..

      وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا..

      وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:

      " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..".



      وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة، حيث اعتمروا عمرة القضاء، وعادوا الى المدينة، وقد امتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من انباء اخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضوا نحبهم شهداء أبرار..

      وطار فؤداه شوقا الى الجنة، وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!!




      **




      وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها، تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف، وللمسير..

      ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فامّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله، واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله..

      وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..

      كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة، انما هي حرب لم يخض الاسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..

      وخرج الجيش وخرج جعفر معه..

      والتقى الجمعان في يوم رهيب..



      وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة اذا احسّ في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!!

      وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في اقدام خارق.. اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة...

      وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، وراى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من الأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..!!

      وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعصار، وصوته يتعالى بهذا الرجز المتوهج:

      يا حبّذا الجنة واقترابها طيّبة، وبارد شرابها

      والروم روم، قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها

      عليّ اذا لاقيتها ضرابها

      وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش لجب..

      وأحاطوا به في اصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..

      وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه..

      في هذه اللحظة تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ..

      وحين تكّومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة، ومضى بها الى مصير عظيم..!!




      **




      وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!!

      وهكذا لقي الكبير المتعال، مضمّخا بفدائيته، مدثرا ببطولاته..

      وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة، وبمصير جعفر، فاستودعه الله، وبكى..

      وقام الى بيت ابن عمّه، ودعا بأطفاله وبنيه، فشمّمهم، وقبّلهم، وذرفت عيناه..

      ثم عاد الى مجلسه، وأصحابه حافون به. ووقف شاعرالاسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه:

      غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم

      الى الموت ميمون النقيبة أزهر

      أغرّ كضوء البدر من آل هاشم

      أبيّ اذا سيم الظلامة مجسر

      فطاعن حتى مال غير موسد

      لمعترك فيه القنا يتكسّر

      فصار مع المستشهدين ثوابه

      جنان، ومتلف الحدائق أخضر

      وكنّا نرى في جعفر من محمد

      وفاء وأمرا حازما حين يأمر

      فما زال في الاسلام من آل هاشم

      دعائم عز لا يزلن ومفخر



      وينهض بعد حسّان، كعب بن مالك، فيرسل شعره الجزل :

      وجدا على النفر الذين تتابعوا

      يوما بمؤتة، أسندوا لم ينقلوا

      صلى الاله عليهم من فتية

      وسقى عظامهم الغمام المسبل

      صبروا بمؤتة للاله نفوسهم

      حذر الردى، ومخافة أن ينكلوا

      اذ يهتدون بجعفر ولواؤه

      قدّام أولهم، فنعم الأول

      حتى تفرّجت الصفوف وجعفر

      حيث التقى وعث الصفوف مجدّل

      فتغير القمر المنير لفقده

      والشمس قد كسفت، وكادت تأفل



      وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم، فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..

      يقول أبو هريرة:

      " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...

      أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحيته..



      يقول عبدالله بن عمر:

      " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!!

      بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!!

      ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟

      أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليّا..

      انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..

      وان شئتم، فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

      " لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!!

      </FONT>

    4. #34
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      30 / حذيفة بن اليمان :

      خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..

      خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عن ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق..

      واذ هم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلا مضيئا، يركب حمارا على ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا، وهو يأكل ويمضغ طعامه..!

      وحين توسط جمعهم، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون، كاد صوابهم يطير..!!

      ولكن فيم العجب..؟!

      وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!

      الحق أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!
      وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به..

      وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:

      " اياكم ومواقف الفتن"..!!

      قالوا:

      وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!!

      قال:

      " أبواب الأمراء"..

      يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..!

      وكان استهلالا بارعا، بقدر ما هو عجيب..!!

      واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.

      وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية..




      **




      فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.

      ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..

      فلقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب...

      وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!



      فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا ارّعيل العظيم من الأصحاب..!!

      ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلوكنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة. في غير عناء..

      ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

      ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه..

      وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين..

      يقول:

      " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..

      قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

      قال: نعم..

      قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

      قال: نعم، وفيه دخن..

      قلت: وما طخنه..؟

      قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

      قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

      قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها..

      قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟

      قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..

      قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟

      قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

      أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟



      لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن،و مسالك الشرور ليتقيها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم...



      ويقول رضي الله عنه:

      " ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الانس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا...

      ومات بالباطل من كان حيا..

      ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..

      ثم يكون ملكا عضوضا..!!

      فمن الانس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق..

      ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق..

      ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق..

      ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...!



      ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:

      " القلوب أربعة:

      قلب أغلف، فذلك قلب الكافر..

      وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق..

      وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن..

      وقلب فيه نفاق وايمان، فمثل الايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!!



      وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:

      فيقول:

      " جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ان لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار..

      فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...




      **




      هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح..

      ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..

      لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشركين..!!

      وكان حذيفة يتلفت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!

      لكن القضاء كان قد حم..

      وحين عرف المسلمون، تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة، وقال:

      " يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..

      ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه..

      وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...




      **




      وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان

      بالعجز، ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل....

      في غزوة الخندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.



      كان اليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..

      فمن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟

      ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..

      ترى من يكون البطل..؟

      انه هو..حذيفة بن اليمان..!

      دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..!

      وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...

      فاقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيّم عليه الظلام،واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...

      وخشي أبوسفيان قائد قريش، أن يفجعهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:

      " يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه".

      يقول حذيفة:

      " فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له من أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

      وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!

      واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_، وأخلفتنابنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل"..

      ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون..

      يقول حذيفة:

      " لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم"..

      وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزف البشرى اليه...




      **




      ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..

      ورجل الصومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..

      وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!



      وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه..

      وفي معركة نهاوند العظمى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..

      وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول:

      " اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..

      فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عبدالله..

      وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...

      والتقى الجيشان..

      الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا..

      والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير...

      وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..

      وسقط قائد المسلمين قتيلا، سقط النعمان بن مقرّن، وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان...

      حمل الراية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..

      أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:

      " الله أكبر صدق وعده!!

      الله أكبر نصر جنده!!"

      ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار..

      هيا يا رجال بدر..

      تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..

      لقد احتفظ حذيفة بكل حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

      وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!




      **




      هذا العبقري في همته، حين تضمّه صومعته..

      والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال..

      هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورة تطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..

      وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.

      مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها..

      يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟

      انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم..

      فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..

      وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...

      وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!

      لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما:

      " ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...




      **




      وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:

      أجئتم معكم بأكفان..؟؟

      قالوا: نعم..

      قال: أرونيها..

      فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

      فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:

      " ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..

      فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!

      وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

      " مرحبا بالموت..

      حبيب جاء على شوق..

      لا أفلح من ندم"..

      وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتألقا، واخباتا...

      </FONT>

    5. #35
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      31 / حمزة بن عبد المطلب :

      كانت مكة تغطّ في نومها، بعد يوم مليء بالسعي، وبالكدّ، وبالعبادة وباللهو..

      والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه، يأوي الى فراشه مبركا، ويستريح ساعات قليلة، ثم ينهض في شوق عظيم، لأنه مع الله على موعد، فيعمد الى مصلاه في حجرته، ويظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالاته الحارّو الملحة، وأخذتها الشفقة عليه، ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم، يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته:

      " لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"..!!

      لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد، وان كان قد بدأ يشغل انتباهها، فلقد كان حديث عهد بدعوته، وكان يقول كلمته سرا وهمسا.
      كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا..

      وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والاجلال، ويطوي جوانحه على شوق عظيم الى الايمان به والسير في قافلته المباركة، لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة، وضغوط التقاليد والوراثة، والتردد بين نداء الغروب، ونداء الشروق.

      من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.




      **




      كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على بيّنة من حقيقة أمره، وجوهر خصاله..

      فهو لا يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب، بل معرفة الأخ بالأخ، والصديق بالصديق.. ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل واحد، وسن متقاربة. نشأ معا وتآخيا معا، وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة..



      ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق، فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة، وافساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش.. في حين عكف محمد على اضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق الى الله وعلى حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة الى التأمل العميق، والى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه..

      نقول لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة، فان حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه.. تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة، وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.

      في صبيحة ذلك اليوم، خرج حمزة كعادته.

      وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم، يستمع لما يقولون..

      وكانوا يتحدثون عن محمد..

      ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد، والغيظ والمرارة.

      لقد كانوا من قبل لا يبالون، أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة.

      أما اليوم، فوجوههم تموج موجا بالقلق، والهمّ، والرغبة في الافتراس.

      وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا.. ورماهم بالمبالغة، وسوء التقدير..



      وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الانس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن الأمر حتى تنام قريش، ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها، وظهر أمر ابن أخيه عليها...

      ومضوا في حديثهم يزمجرون، ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارّة، ويمتعض أخرى، وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله، كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة، وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه، ويناقشه مع نفسه من جديد...!!!




      **




      ومضت الأيام، ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..

      ثم تتحوّل همهمة قريش الى تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد..

      ان ثبات ابن أخيه ليبهره.. وان تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها، برغم ما عرفت من تفان وصمود..!!

      ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه، فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد الى وعي حمزة منفا أو سبيلا..

      فحمزة خير من عرف محمدا، من طفولته الباكرة، الى شباب الطاهر، الى رجولته الأمينة السامقة..

      انه يعرفه تماما كما يعرف نغسه، بل أكثر مما يعرف نفسه، ومنذ جاءا الى الحياة معا، وترعرعا معا، وبلغا أشدّهما معا، وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة، لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا، أو قانطا، أو طامعا،أو لاهيا، أو مهزوزا...

      وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب، بل وبرجاحة العقل، وقوة ارادة أيضا..

      ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابعة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة.. وهكذا طوى صدره الى حين على أمر سيتكشّف في يوم قريب..




      **




      وجاء اليوم الموعود..

      وخرج حمزة من داره،متوشحا قوسه، ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة، ورياضته الأثيرة، الصيد.. وكان صاحب مهارة فائقة فيه..

      وقضى هناك بعض يومه، ولما عاد من قنصه، ذهب كعادته الى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا الى داره.

      وقريبا من الكعبة، لقته خادم لعبدالله بن جدعان..

      ولم تكد تبصره حتى قالت له:

      " يا أبا عمارة.. لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا، من أبي الحكم بن هشام.. وجده جالسا هناك ، فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره"..

      ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله..

      واستمع حمزة جيدا لقولها، ثم أطرق لحظة، ثم مد يمينه الى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الكعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل.. فان هو لم يجده هناك، فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه..

      ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة، حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش..

      وفي هدوء رهيب، تقدّم حمزة من أبي جهل، ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل:

      " أتشتم محمدا، وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! الا فردّ ذلك عليّ ان استطعت"..



      وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الاهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه، وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم طالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه، ويقول ما يقوله..

      أحمزة يسلم..؟

      أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟؟

      انها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا.. فاسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالاسلام، وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ ازره، وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها..!!

      أجل أسلم حمزة، وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره، وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله، وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه، واستقبل الطريق الى داره في خطواته الثابتة، وبأسه الشديد..!




      **




      كان حمزة يحمل عقلا نافذا، وضميرا مستقيما..

      وحين عاد الى بيته ونضا عنه متاعب يومه. جلس يفكر، ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب..

      كيف أعلن اسلامه ومتى..؟

      لقد أعلنه في لحظات الحميّة، والغضب، والانفعال..

      لقد ساءه أن يساء الى ابن اخيه، ويظلم دون أن يجد له ناصرا، فيغضب له، وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم، فشجّ رأس أبي جهل وصرخ في وجهه باسلامه...

      ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل لك يغدار الانسان دين آبائه وقومه... دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا جديدا لم يختبر بعد تعاليمه، ولا يعرف عن حقيقته الا قليلا..

      صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده..

      ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا، بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات، في لحظة غضب، مثلما صنع حمزة الآن..؟؟؟



      وشرع يفكّر.. وقضى أياما، لا يهدأ له خاطر.. وليالي لا يرقأ له فيها جفن..

      وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل، يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة.

      وهكذا، لم يكد حمزة يستعمل في بحث قضية الاسلام، ويوازن بين الدين القديم، والدين الجديد، حتى ثارت في نفسه شكوك أرجاها الحنين الفطري الموروث الى دين آبائه.. والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد..



      واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة، وآلهاها وأصنامها... وعن الأمجاد الدينية التى أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلها، وعلى مكة بأسرها.

      لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..

      ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون أح أتباع هذه الدعوة، المؤمنين بها، والذائدين عنها.. فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين..؟

      لحظة غضب وحميّة..؟ أم أوقات تفكير ورويّة..؟

      وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره، ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألأة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق..



      وبدأ الانسلاخ من هذا التاريخ كله.. وهذا الدين القديم العريق، هوّة تتعاظم مجتازها..

      وعجب حمزة كيف يتسنى لانسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة.. وندم على ما فعل.. ولكنه واصل رحلة العقل.. ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلاصه وصدقه..

      وعند الكعبة، كان يستقبل السماء ضارعا، مبتهلا، مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور، كي يهتدي الى الحق والى الطريق المستقيم..

      ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول:

      ".. ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي.. وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم..

      ثم أتيت الكعبة، وتضرّعت الى الله أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب.. فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا..

      وغدوت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبت قلبي على دينه.."

      وهكذا أسلم حمزة اسلام اليقين..




      **




      أعز الله الاسلام بحمزة... ووقف شامخا قويا يذود عن رسول الله، وعن المستضعفين من أصحابه..

      ورآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين، فأدرك أنها الحرب لا محالة، وراح يحرّض قريشا على انزال الأذى بالرسول وصحبه، ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده..

      ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الأذى ولكن اسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا.. كما كان اغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها اسلام حمزة أولا. ثم اسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك الى الاسلام فدخلت فيه أفواجا..!!

      ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته، وبأسه، وحياته، لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم:

      "أسد الله، وأسد رسوله"..

      وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها حمزة..

      وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين كانت لحمزة..

      ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر، كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب..!!




      **




      وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها... ورجع أبو سفيان مخلوع القلب، مطأطئ الراس. وقد خلّف على أرض المعركة جثث سادة قريش، من أمثال أبي جهل.. وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأميّة بن خلف. وعقبة بن أبي معيط.. والأسود بن عبدالله المخزومي، والوليد بن عتبة.. والنفر بن الحارث.. والعاص بن سعيد.. وطعمة ابن عديّ.. وعشرات مثلهم من رجال قريش وصناديدها.

      وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلام... فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها، لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها.. وصمّمت قريش على الحرب..




      **




      وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى.

      وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين: الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه..

      أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب، يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة..



      ولقد اختاروا قبل الخروج، الرجل الذي وكلوا اليه أمر حمزة، وهو عبد حبشي، كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة، جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه، وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال.

      ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته.. فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم.. وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير"

      " اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق"..!!

      ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون..

      وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها، وعمها، وأخاها، وابنها.. وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر..

      من أجل هذا كانت أكثر القرشيين والقرشيّات تحريضا على الخروج للحرب، لا لشيء الا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة..!!

      ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب، ولا عمل لها الا افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به..



      ولقد وعدته ان هو نجح في قال حمزة بأثمن ما تملك المرأة من متاع وزينة، فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها، ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي:

      " كل هذا لك، ان قتلت حمزة"..!!

      وسال لعاب وحشي، وطارت خواطره توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته، فلا يصير بعد عبدا أو رقيقا، والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش، وزوجة زعيمها، وابنة سيّدها..!!

      كانت المؤمرة اذن.. وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم..




      **




      وجاءت غزوة أحد...

      والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب، وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال..

      وراح يصول ويجول، لا يريد رأسا الا قطعه بسيفه، ومضى يضرب في المشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقف بها من يشاء فتصيبه في صميمه.!!



      وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم.. وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة.. ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل، ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم.. لولا تركهم مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلها، رجالها، ونسائها بل وخيلها وابلها..!!



      لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة، واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة.. وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديدو ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش محمد ينسحب ويولي الأدبار.. ولكن المفاجأة كانت قاسية عنيفة.

      ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه..

      وأخذ يضرب عن يمينه وشماله.. وبين يديه ومن خلفه.. ووحشيّ هناك يراقبه، ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه ضربته..

      ولندع وحشيا يصف لنا المشهد بكلماته:

      [.. وكنت جلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف لحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا.. فلما التقى الانس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق.. يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقف امامه شيء، فوالله اني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني، اذ تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ اليّ يا بن مقطّعة البظور. ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه..

      عندئذ هززت حربتي حتى اذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه.. ونهض نحوي فغلب على امره ثم مات..

      وأتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت الى المعسكر فقعدت فيه، اذ لم يكن لي فيه حاجة، فقد قتلته لأعتق..]



      ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه:

      [فلما قدمت مكة أعتقت، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت الى الطائف..

      فلما خرج وفد الطائف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب. وقلت : الحق بالشام أو اليمن أو سواها..

      فوالله اني لفي ذلك من همي اذ قال لي رجل: ويحك..! ان رسول الله، والله لا يقتل أحد من الناس يدخل دينه..

      فخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني الا قائما أمامه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: أوحشيّ أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله.. قال: فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدّثته.. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك.. غيّب عني وجهك.. فكنت أتنكّب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان، لئلا يراني حتى قبضه الله اليه..

      فلما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة.. فلما التقى الانس رأيت مسيلمة الكذاب قائما، في يده السيف، فتهيأت له، وهززت حربتي، حتى اذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت فيه..

      فان كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة.. فاني لأرجو أن يغفر الله لي اذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة]..




      **




      هكذا سقط أسد الله ورسوله، شهيدا مجيدا..!!

      وكما كانت حياته مدوّية، كانت موتته مدوّية كذلك..

      فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف يكتفون أو يقتنعون، وهم الذين جنّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمّه حمزة..

      لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة.. وعندما عاد بها الى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه، مكافأة له على انجاز مهمته..





      ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر، وزوجة أبي سفيان قائد جيوش الشرك الوثنية،مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها، ثم علت صخرة مرتفعة، وراحت تصرخ قائلة:

      نحن جزيناكم بيوم بدر

      والحرب بعد الحرب ذات سعر

      ما كان عن عتبة لي من صبر

      ولا أخي وعمّه وبكري

      شفيت نفسي وقضيت نذري

      أزاح وحشي غليل صدري



      وانتهت المعركة، وامتطى المشركون ابلهم، وساقوا خيلهم قافلين الى مكة..

      ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها..

      وهناك في بطن الوادي. وا هو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم، وقدّموها قرابين مبرورة لربهم الكبير. وقف فجأة.. ونظر. فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه..



      فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحشية البشعة فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيّد الشهداء..

      وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه:

      " لن اصاب بمثلك أبدا..

      وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من موقفي هذا..".



      ثم التفت الى أصحابه وقال:

      " لولا أن تحزن صفيّة -أخت حمزة- ويكون سنّه من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير.. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمثلن بثلاثين رجلا منهم.."

      فصاح أصحاب الرسول:

      " والله لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم، مثلة لم يمثلها أحد من العرب..!!"



      ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة، يكرّمه مرة أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة الى الأبد، ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا..

      وهكذا لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآية الكريمة:

      (ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين.

      وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.

      واصبر وما صبرك الا بالله، ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يمكرون.

      ان الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون..)

      وكان نزول هذه الآيات، في هذا الموطن، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله..




      **




      كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه أعظم الحب، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب..

      بل كان اخاه من الرضاعة..

      وتربه في الطفولة..

      وصديق العمر كله..

      وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء المعركة جميعا..

      وهكذا حمل جثمان حمزة الى مكان الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءه، واحتضنت دماءه، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم جيء يشهيد آخر، فصلى عليه الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه، وجيء بشهيد ثاث فوضع الى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول..

      وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد شهيد.. والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمّه يومئذ سبعين صلاة..




      **




      وينصرف الرسول من المعركة الي بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه:

      " لكنّ حمزة لا بواكي له"..!!



      ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه، فيسرع الى نساء بني عبد الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج اليهن، ويقول

      " ما الى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم"

      ولقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة.



      فقال حسان بن ثابت:

      دع عنك دارا قد عفا رسمها

      وابك على حمزة ذي النائل

      اللابس الخيل اذا أحجمت

      كالليث في غابته الباسل

      أبيض في الذروة من بني هاشم

      لم يمر دون الحق بالباطل

      مال شهيدا بين أسيافكم

      شلت يدا وحشي من قاتل



      وقال عبد الله بن رواحة:

      بكت عيني وحق لها بكاها

      وما يغني البكاء ولا العويل

      على أسد الاله غداة قالوا:

      أحمزة ذاكم الرجل القتيل

      أصيب المسلمون به جميعا

      هناك وقد أصيب به الرسول

      أبا يعلى، لك الأركان هدّت

      وأنت الماجد البرّ الوصول



      وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة:

      دعاه اله الحق ذو العرش دعوة

      الى جنة يحيا بها وسرور

      فذاك ما كنا نرجي ونرتجي

      لحمزة يوم الحشر خير مصير

      فوالله ما أنساك ما هبّت الصبا

      بكاءا وحزنا محضري وميسري

      على أسد الله الذي كان مدرها

      يذود عن الاسلام كل كفور

      أقول وقد أعلى النعي عشيرتي

      جزى الله خيرا من أخ ونصير



      على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول الله له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:

      " رحمة الله عليك، فانك كنت وصولا للرحم فعولا للخيرات"..




      **




      لقد كان مصاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا. وكان العزاء فيه مهمة صعبة.. بيد أن الأقدر كانت تدّخر لرسول الله أجمل عزاء.

      ففي طريقه من أحد الى داره مرّ عليه الصلاة والسلام بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها، وأخوها..

      وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو، سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة..

      فنعوا اليها الزوج..والأب ..والأخ..

      واذا بها تسألهم في لهفة:

      " وماذا فعل رسول الله"..؟؟

      قالوا:

      " خيرا.. هو بحمد الله كما تحبين"..!!

      قالت:

      " أرونيه، حتىأنظر اليه"..!!

      ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول:

      " كل مصيبة بعدك، أمرها يهون"..!!




      **




      أجل..

      لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه..

      ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد، فليس في دنيا البذل، والولاء، والفداء لهذا نظير..

      سيدة ضعيفة، مسكينة، تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها.. ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال:

      " وماذا فعل رسول الله"..؟؟!!



      لقد كان مشهد أجاد الرحمن رسمه وتوقيته ليجعل منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء.. في أسد الله، وسيّد الشهداء..!!

    6. #36
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      32 /عمرو بن العاص :



      كانوا ثلاثة في قريش، اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وايذائهم أصحابه..

      وراح الرسول يدعو عليهم، ويبتهل الى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه..

      واذ هو يدعو ويدعو، تنزل الوحي على قلبه بهذه الآية الكريمة..

      ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فانهم ظالمون)..

      وفهم الرسول من الآية أنها أمر له بالكف عن الدعاء عليهم، وترك أمرهم الى الله وحده..

      فامّا أن يظلوا على ظلمهم، فيحلّ بهم عذابه..

      أو يتوب عليهم فيتوبوا، وتدركهم رحمته..

      كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء الثلاثة..
      ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم الى الاسلام..

      وتحول عمرو بن العاص الى مسلم مناضل. والى قائد من قادة الاسلام البواسل..

      وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو التي لا نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها، فان دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى، ونافح وكافح، سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا..

      وهنا في مصر بالذات، سيظل الذين يرون الاسلام دينا قيما مجيدا..

      ويرون في رسوله رحمة مهداة، ونعمة موجاة، ورسول صدق عظيم، دعا الى الله على بصيرة، وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها..

      سيظل الذين يحملون هذا الايمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا، وأي سبب، لاهداء الاسلام الى مصر، واهداء مصر الى الاسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها..

      ذلكم هو: عمرو بن العاص رضي الله عنه..

      ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوا عمرا بـ فاتح مصر..

      بيد أنا نرى في هذا الوصف تجوزا وتجاوزا، ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـ محرر مصر..

      فالاسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح، انما كان يحررها من تسلط امبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب، تانك هما:

      امبراطورية الفرس.. وامبراطورية الروم..

      ومصر بالذات، يوم أهلت عليها طلائع الاسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى..

      ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة أن:

      " الله أكبر..

      الله أكبر"..

      سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه، واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..

      فعمرو بن العاص ورجاله، لم يفتحوا مصر اذن.. انما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصايرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله، ومبادئ الاسلام..

      ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة، ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الذين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها..

      من أجل ذلك نجده يتحدث الى زعماء النصارى يومئذ وكبار أشاقفتهم، فيقول:

      "... ان الله بعث محمدا بالحق وأمره به..

      وانه عليه الصلاة والسلام، قد أدّى رسالته، ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم..

      وكان مما أمرنا به الاعذار الى الناس، فنحن ندعوكم الى الاسلام..

      فمن أجابنا، فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا..

      ومن لم يجبنا الى الاسلام، عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة..

      ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا، وأوصانا بأهلها خيرا فقال:" ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لهم ذمّة ورحما"..

      فان أجبتمونا الى ما ندعوكم اليه كانت لكم ذمة الى ذمة"...

      وفرغ عمرو من كلماته، فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:

      " ان الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم، لهي قرابة بعيدة، لا يصل مثلها الا الأنبياء"..!!

      وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان كان قادة الرومان قد حاولوا العمل لاحباطها..




      **




      وعمرو بن العاص لم يكن من السابقين الى الاسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل..
      ومن العجب أن اسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا ويحترمه بسبب تردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب..

      وسأل عاهل الحبشة عمرا، كيف لم يؤمن به ويتبعه، وهو رسول من الله حقا..؟؟

      وسأل عمرو النجاشي قائلا:

      " أهو كذلك؟؟"

      وأجابه النجاشي:

      " نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فانه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه"..؟!

      وركب عمرو ثبج البحر من فوره، عائدا الى بلاده، وميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين..

      وفي الطريق المقضية الى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا الى الرسول ليبايعه على الاسلام..

      ولم يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:

      " لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها"..

      وتقدم خالد فبايع..

      ثم تقدم عمرو فقال:

      " اني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي"..

      فأجابه الرسول عليه السلام قائلا:

      " يا عمرو..

      بايع، فان الاسلام يجبّ ما كان قبله"..

      وبايع عمرو ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.

      وعندما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، كان عمرو واليا على عمان..

      وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام، ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.




      **





      ولقد كان حب عمرو للامارة، الى حد ما، تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب..

      بل ان شكله الخارجي، وطريقته في المشي وفي الحديث، كانت تومي الى أنه خلق للامارة..!! حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:

      " ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض الا أميرا"..!

      والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق..

      وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين.. كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!

      ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...

      حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس..

      نقول: لما علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، انما أرسل اليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه الى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.

      ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للامارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد ابقاءه في الولاية لحظة.




      **




      وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية..

      حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:

      " سبحان الله..!!

      ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!

      كما كان بالغ الجرأة مقداما..

      ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن، فيظن به الجبن أو الهلع.. بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!

      ولقد كان أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله الى الشام قبل مجيئه الى مصر، قيل لأمير المؤمنين: ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:

      " لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!

      ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الاسلام.




      **




      وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.


      واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه، وحذق بديهته، ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..

      اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..

      ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.

      وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.

      لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة، كأن لم يفزعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!

      ودخل على القائد وقال له:

      لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دون مشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..

      وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!

      فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..

      وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..

      ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،

      وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..



      وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.

      أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!




      **




      وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..

      وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:

      ".. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..

      ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..

      ثم بليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ"..




      **




      ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:

      " اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر،

      والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!

      وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..



      وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الاسلام، ثوى رفاته..

      وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول مسجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الاسلام

    7. #37
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      33/ خالد بن الوليد(1) :

      ان أمره لعجيب..!!

      هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!

      ألا فلنأت على قصته من البداية..

      ولكن أية بداية..؟؟

      انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
      ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..

      فلنبدأ معه اذن من حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضوي عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..



      لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:

      " والله لقد استقام المنسم....

      وان الرجل لرسول..

      فحتى متى..؟؟

      أذهب والله، فأسلم"..

      ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:

      ".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،

      قلنا: وبك..

      قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.

      فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

      فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..

      وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..

      فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..

      قلت: يا رسول الله على ذلك..

      فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..

      وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...



      أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟

      ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..

      وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..

      أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

      مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!



      أتذكرون أنباء الثلاثة شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟

      لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..

      لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..

      وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:

      " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

      ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..

      ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".

      كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..

      هذه البقيّة هي:

      " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".

      فمن كان هذا البطل..؟



      لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..

      وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقرم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا تبعثر الفوضى صفوفه..

      ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:

      " خذ اللواء يا أبا سليمان"...

      ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..

      أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!

      هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:

      " لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..

      وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".

      ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟

      قالوا: نعم..

      واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابا مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..

      في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...

      ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..

      ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..

      وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.

      بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..

      ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!



      هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!

      وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..



      وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

      وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..

      ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..

      وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..

      ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..



      وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..

      مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات أجسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!

      كيف تمّت المعجزة..؟

      أي تفسير لهذا الذي حدث؟



      لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:

      (وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!



      ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:

      أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!

      ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..



      ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.



      وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي أبي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!

      وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..



      عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

      ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..



      لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

      ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..

      ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..

      ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

      واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!



      عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..

      ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

      ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..



      وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:

      " الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟

      اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:

      لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."

      وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..

      وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..

      ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:

      " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..



      ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..



      فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.

      وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..

      وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..

      ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..



      والتقى الجيشان:

      وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان اختلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..

      ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!



      وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!

      وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..

      ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..

      رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:

      " امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".

      وامتازوا جميعا..

      مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".

      وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..

      وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..

      وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!



      لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..

      وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..

      وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..



      وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..

      وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..

      امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!

      هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..

      ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.

      لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..

      " بسم الله الرحمن الرحيم

      من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..

      سلام على من اتبع الهدى

      أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم

      من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا

      اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة

      والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!



      وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّحوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.

      في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.

      أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..

      وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:

      " لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".

      وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..

      وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.

      ترى هل سمع الروم في الشام..؟

      وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟

      أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!



      كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..

      فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..

      وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..

      بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:

      " والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..

      وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.

      وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:

      " والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!

      وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..

      وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:

      " ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

      أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...

      هذا يوم من أيام الله..

      ما أروعها من بداية..!!

      لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

      وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!


    8. #38
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      خالد بن الوليد (2) :




      ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..

      اليوم أمير، وغدا أمير ثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

      كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..

      لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

      ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!



      ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:

      " خالد لها".!!

      وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".

      فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!

      عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

      ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!

      كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..

      كل انسحاب تنبأ به فعلوه..

      وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

      وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..

      وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...

      من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

      وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

      " من يولّي هاربا فاقتلنه"..

      وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!

      وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

      وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

      وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"

      " قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..

      فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!

      وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

      وقرر أن يرد عليه بجواب مناسب، فقال له:

      " انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!

      ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

      " الله أكبر"

      " هبّي رياح الجنة"..

      كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.

      ودار قتال ليس لضراوته نظير..

      وأقبل الروم في فيالق كالجبال..

      وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..

      ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

      فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

      " اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

      فيجيب أبو عبيدة:

      " نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

      ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!

      وهذا عكرمة بن أبي جهل..

      أجل ابن أبي جهل..

      ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:

      " لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟

      ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..

      فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،

      فيستشهدون..!!

      وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الماء، اشار بدوره لجاره. فلما انتقل اليه أشار بدوره لجاره..

      وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!

      أجل..

      لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.

      ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:

      " والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.

      واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".

      مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!

      ولكن أي عجب؟؟

      أليس ملء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟

      وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟

      وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهديا ونبلا؟



      وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

      وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر،والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟

      أليس ذلك، كذلك..؟

      اذن، هبي رياح النصر...

      هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...



      لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجه على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.

      وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:

      " يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

      هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟

      قال خالد: لا..

      قال الرجل:

      فبم سميّت بسيف الله"؟

      قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..

      فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".

      قال القائد الرومي: والام تدعون..؟

      قال خالد:

      الى توحيد الله، والى الاسلام.

      قال:

      هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟

      قال خالد: نعم وأفضل..

      قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟

      قال خالد:

      لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..

      أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

      وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:

      علمني الاسلام يا خالد"".!!!

      وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها..!!



      وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

      قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..

      ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.

      استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..

      ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..



      وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..



      وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..

      وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..

      ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...



      فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..

      ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

      وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

      ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

      أبو بكر وعمر..

      اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..

      وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..

      ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..



      لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..

      ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:

      " ان في سيف خالد رهقا"

      أي خفة وحدّة وتسرّع..

      فأجابه الصدّيق قائلا:

      " ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".

      لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..

      وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..

      فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..



      ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

      وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:

      " يا رسول الله..

      استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".

      وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

      والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..



      وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.

      فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:

      " اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".

      غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:

      " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".

      ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.

      وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:

      ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..

      كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..

      ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.

      لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

      فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:

      " يا عزّى كفرانك، لا سبحانك

      اني رأيت الله قد أهانك"..!!

      ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!

      كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

      ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..

      والا.." كفرانك لا سبحانك..

      اني رأيت الله قد أهانك"..!!



      على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

      " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!

      لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.

      نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..

      أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

      أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

      " الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟

      أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..

      ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..

      وانه ليقول:

      " ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..

      من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...



      هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...

      أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

      كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!

      هنالك قال ودموعه تنسال من عينيه:

      " لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم..

      ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!

      كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..

      أتجرون الى من أوصى..؟

      الى عمر بن الخطاب ذاته..!!

      أتدرون ما تركته..؟

      فرسه وسلاحه..!!

      ثم ماذا؟؟

      لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!

      ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

      وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..

      شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

      سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

      " ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".



      وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:

      أنت خير من ألف ألف من القوم اذا ما كبت وجوه الرجال

      أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال

      أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال



      وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:

      " صدقت..

      والله ان كان لكذلك".

      وثوى البطل في مرقده..

      ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..

      لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..



      واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...

      وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!

      ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

      لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..

      ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

      وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

      ايه يا بطل كل نصر..

      ويا فجر كل ليلة..

      لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:

      " عند الصباح يحمد القوم السرى"..



      حتى ذهبت عنك مثلا..

      وهأأنتذا، قد أتممت مسراك..

      فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!

      ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!

      ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

      " رحم الله أبا سليمان

      ما عند الله خير مما كان فيه

      ولقد عاش حميدا

      ومات سعيدا


      </FONT>

    9. #39
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      خالد بن الوليد (2) :

      ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..

      اليوم أمير، وغدا أمير ثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

      كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..

      لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

      ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!



      ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:

      " خالد لها".!!

      وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".

      فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!

      عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

      ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!

      كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..

      كل انسحاب تنبأ به فعلوه..

      وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

      وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..

      وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...

      من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

      وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

      " من يولّي هاربا فاقتلنه"..

      وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!

      وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

      وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

      وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"

      " قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..

      فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!

      وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

      وقرر أن يرد عليه بجواب مناسب، فقال له:

      " انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!

      ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

      " الله أكبر"

      " هبّي رياح الجنة"..

      كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.

      ودار قتال ليس لضراوته نظير..

      وأقبل الروم في فيالق كالجبال..

      وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..

      ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

      فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

      " اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

      فيجيب أبو عبيدة:

      " نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

      ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!

      وهذا عكرمة بن أبي جهل..

      أجل ابن أبي جهل..

      ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:

      " لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟

      ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..

      فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،

      فيستشهدون..!!

      وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الماء، اشار بدوره لجاره. فلما انتقل اليه أشار بدوره لجاره..

      وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!

      أجل..

      لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.

      ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:

      " والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.

      واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".

      مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!

      ولكن أي عجب؟؟

      أليس ملء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟

      وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟

      وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهديا ونبلا؟



      وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

      وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر،والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟

      أليس ذلك، كذلك..؟

      اذن، هبي رياح النصر...

      هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...



      لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجه على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.

      وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:

      " يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

      هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟

      قال خالد: لا..

      قال الرجل:

      فبم سميّت بسيف الله"؟

      قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..

      فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".

      قال القائد الرومي: والام تدعون..؟

      قال خالد:

      الى توحيد الله، والى الاسلام.

      قال:

      هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟

      قال خالد: نعم وأفضل..

      قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟

      قال خالد:

      لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..

      أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

      وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:

      علمني الاسلام يا خالد"".!!!

      وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها..!!



      وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

      قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..

      ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.

      استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..

      ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..



      وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..



      وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..

      وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..

      ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...



      فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..

      ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

      وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

      ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

      أبو بكر وعمر..

      اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..

      وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..

      ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..



      لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..

      ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:

      " ان في سيف خالد رهقا"

      أي خفة وحدّة وتسرّع..

      فأجابه الصدّيق قائلا:

      " ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".

      لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..

      وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..

      فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..



      ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

      وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:

      " يا رسول الله..

      استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".

      وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

      والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..



      وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.

      فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:

      " اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".

      غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:

      " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".

      ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.

      وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:

      ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..

      كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..

      ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.

      لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

      فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:

      " يا عزّى كفرانك، لا سبحانك

      اني رأيت الله قد أهانك"..!!

      ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!

      كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

      ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..

      والا.." كفرانك لا سبحانك..

      اني رأيت الله قد أهانك"..!!



      على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

      " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!

      لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.

      نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..

      أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

      أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

      " الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟

      أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..

      ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..

      وانه ليقول:

      " ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..

      من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...



      هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...

      أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

      كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!

      هنالك قال ودموعه تنسال من عينيه:

      " لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم..

      ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!

      كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..

      أتجرون الى من أوصى..؟

      الى عمر بن الخطاب ذاته..!!

      أتدرون ما تركته..؟

      فرسه وسلاحه..!!

      ثم ماذا؟؟

      لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!

      ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

      وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..

      شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

      سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

      " ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".



      وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:

      أنت خير من ألف ألف من القوم اذا ما كبت وجوه الرجال

      أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال

      أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال



      وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:

      " صدقت..

      والله ان كان لكذلك".

      وثوى البطل في مرقده..

      ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..

      لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..



      واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...

      وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!

      ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

      لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..

      ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

      وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

      ايه يا بطل كل نصر..

      ويا فجر كل ليلة..

      لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:

      " عند الصباح يحمد القوم السرى"..



      حتى ذهبت عنك مثلا..

      وهأأنتذا، قد أتممت مسراك..

      فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!

      ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!

      ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

      " رحم الله أبا سليمان

      ما عند الله خير مما كان فيه

      ولقد عاش حميدا

      ومات سعيدا

      </FONT>

    10. #40
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      34 / عمار بن ياسر :

      لو كان هناك أناس يولدون في الجنة، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..

      ثم يجاء بهم الى الأرض ليكونوا زينة لها، ونورا، لكان عمّار، وأمه سميّة، وأبوه ياسر من هؤلاء..!!

      ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الافتراض، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟

      وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال:

      " صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة"..

      بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..
      خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه..

      وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..

      وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط..

      ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..

      وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..

      وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!

      ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..

      فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.

      وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا.

      ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..

      ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!



      ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..

      وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير مبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..!

      موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!




      **




      كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..

      ولم يكن حينذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا..

      وكانت تلك مشيئة الله..

      فالدين الجديد، ملة ابراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولاته، وتضحياته ومخاطراته...

      ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!!



      انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا.

      وانها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة الى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته..

      وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للاسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية...

      فهو يقول:

      (أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟!



      (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين)؟



      (ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا، وليعلمنّ الكاذبين).



      (أم حسبتم أن تتركوا، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..)



      (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..



      (وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فباذن الله، وليعلم المؤمنين).



      أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه، أن التضحية جوهر الايمان، وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار.. انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها..

      ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده، ويرسي دعائمه، ويعطي مثله، لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية، ويزكّي نفسه بالفداء، مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين.

      ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اختارهاالعزيز الحكيم لتصوغ من تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده..




      **




      قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.

      وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:

      " يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..

      فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان..

      صبرا آل ياسر..

      فان موعدكم الجنة"..

      ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.

      فيقول عمرو بن الحكم:

      " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول".

      ويقول عمرو بن ميمون:

      " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"..

      على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار، وان فدح ظهره ودغدغ قواه..

      ولم يشعر عمار بالهلاك حقا، الا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه..

      في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.

      في لك اليوم، وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قاله فطار صوابه، وتجسمت هذه الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!



      ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة..

      لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده، لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..

      لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..

      وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا، وهاتفا به: انهض أيها البطل.. لا تثريب عليك ولا حرج..

      ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له:

      " أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟"

      أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...

      فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!!

      ثم تلا عليه الآية الكريمة:

      ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)..

      واستردّ عمّار سكينة نفسه، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما، ولم يعد يلقي له وبالا..

      لقد ربح روحه، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون..!!

      وصمد عمّار حتى حل الاعياء بجلاديه، وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!




      **




      استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها، وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه..

      ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!!

      كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..

      يقول عنه صلى الله عليه وسلم:

      : ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه".



      وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله"

      ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه، وطامعا في صفحه الجميل..!!

      وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها، ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه، فيقولون:

      لا يستوي من يعمر المساجدا

      يدأب فيها قائما وقاعدا

      ومن يرى عن الغبار حائدا



      وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

      " ما لهم ولعمّار..؟

      يدعوهم الى الجنة، ويدعونه الى النار..

      ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...



      واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون ايمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!!

      وكذلكم كان عمار..

      لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:

      " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..

      ولقد وصفه الرواة فقالوا:

      " كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما"..

      فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟!

      كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟

      لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعل.

      ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه..

      ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناكفي الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة..

      وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..

      وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..

      وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال:

      " اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..

      وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"..



      ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..

      لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا..

      يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة:

      " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره"..!!



      ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:

      " خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!

      أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي اليه المنايا والدمار..

      واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة.

      يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:

      " رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا اليّ.. فنظرت اليه، فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!!



      ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟



      اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!!

      واذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!

      واذا كانوا ولاة حملوا طعامهم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!!

      ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..

      وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!




      **




      كان الحذيفة بن اليمان، الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا، اذا اختلف الناس"..؟

      فأجابهم حذيفة، وهو يلقي بآخر كلماته:

      " عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يموت"..

      أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة، ونتتبع معالم حياته العظيمة، تعلوْا نقترب من مشهد عظيم..

      ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله، في صولته وكماله، في تفانيه واصراره، في تفوقه واقتداره، تعالْوا نبصر مشهد مشهدا يسبق هذا المشهد، ويتنبأ به، ويهيئ له...



      كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة، وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار، شعثا لربهم وغبرا، بنون بيته، ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألقت بشرا، وابتهلت حمدا لربها وشكرا..

      الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..

      فوج هنا وفوج هناك..

      والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:

      لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل

      هكذا يغنون وينشدون..

      ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:

      اللهم لا العيش الا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة

      وتغريدة ثالثة:

      لا يستوي من يعمّر مسجدا

      يدأب فيها قائما وقاعدا

      ومن يرى الغبار عنه حائدا



      انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه..

      ورسوله الطيّب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة..

      والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!

      وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها...


      **


      وبعد ثلاث و تسعين سنة من ثبات عمار على الحق, يحمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه..

      أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمّار...



      ووقف المسلمون على قبره يعجبون..

      منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح:

      " اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!!

      أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟؟!!

      وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...

      قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال:

      " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟

      قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال..

      اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار..

      واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته..

      ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة..

      أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟

      بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى..



      وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار...!

    11. #41
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      35 / مصعب بن عمير :


      هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.

      غرّّة فتيان قريش ، وأوفاهم جمالا ، وشبابا..

      يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..

      ولد في النعمة، وغذّيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.

      ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..

      ذلك الفتى الريّان، المدلل المنعّّّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الإيمان والفداء..؟

      بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.

      إنه واحد من أولئك الذين صاغهم الإسلام وربّّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..

      ولكن أيّ واحد كان..؟

      إن قصة حياته لشرف لبني الإنسان جميعا..

      لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..

      "محمد" الذي يقول إن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا إلى عبادة الله الواحد الأحد.



      وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّّ لها، ولا حديث يشغلها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.

      ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..



      ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في دار "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء إلى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...

      هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ الكبير.



      ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها إلى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!

      ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.

      ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!




      **




      كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب إلى حد الرهبة..

      ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى أمه.

      فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب إلى حين..

      أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!

      ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرا.

      وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بإيمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم عن إسلامه خبرا..



      ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..

      ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية يلى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا إلى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...



      ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.

      وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أن استرخت وترنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الإقناع..

      ولكن، إذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فإن في مقدرتها أن تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..

      وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه إغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى إلى الحبشة مهاجرا أوّّابا..



      ولسوف يمكث بالحبشة مع إخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم إلى مكة، ثم يهاجر إلى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.

      ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة إيمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من إعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب إلى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..



      خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما إن بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..

      ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..

      وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:

      " لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!



      لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها إنسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى لو يكون هذا الانسان ابنها..!!

      ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..

      وإنها لتعلم صدق عزمه إذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..

      وكشفت لحظة الوداع عن إصرار عجيب على الكفر من جانب الأم وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الإبن.. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...

      أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي"..!!

      وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياما، ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه إنسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...


      **




      وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره إلى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..

      كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل إليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..

      وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه وإخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..



      لقد جاءها يوم بعثه الرسول إليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه لم يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!

      وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون إلى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم إليهم "مصعب ابن عمير".

      لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..

      فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها. عرف أنه داعية إلى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس إلى الهدى، وإلى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه إلا البلاغ..



      هناك نهض في ضيافة "أسعد بن زرارة" يغشيان معا القبائل والبيوت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (إنما الله إله واحد)..

      ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..



      ذات يوم فاجأه وهو يعظ الناس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربته يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن إله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!

      إن آلهتهم معهم رابضة في مجاثمها وإذا احتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا إليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..



      أما إله محمد الذي يدعوهم إليه باسمه هذا السفير الوافد إليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!

      وما إن رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..

      وقف أسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:

      "ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!

      وفي مثل هدوء البحر وقوته..

      وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:

      "أولا تجلس فتستمع..؟! فإن رضيت أمرنا قبلته.. وإن كرهته كففنا عنك ما تكره".

      الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!



      كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه إلى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فإن اقتنع، تركه لاقتناعه وإن لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول إلى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..

      هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته إلى الأرض وجلس يصغي..

      ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!

      ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:

      "ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟

      وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:

      "يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد ألا إله إلا الله".

      فغاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أنه يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله..

      وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت بإسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: إذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا إلى مصعب، فلنؤمن معه، فإنهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!




      **




      لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاحا هو له أهل، وبه جدير..

      وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه إلى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون إلى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..

      وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..

      حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..

      وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء إليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..

      يد تحمل الراية في تقديس..

      ويد تضرب بالسيف في عنفزان..

      ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته إلى حيث يلقون الرسول..



      لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الختام في حياة مصعب العظيم..!!

      يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:

      [حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..

      وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..

      ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].

      وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!

      وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!

      وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والإيمان..

      كان يظن أنه إذا سقط، فسيصبح طريق القتلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..

      ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:

      (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)

      هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..




      **




      وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..

      لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!

      أو لكأنه خجلان إذ سقط شهيدا قبل أن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي إلى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!

      لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!




      **




      وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..

      وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..

      يقول خبّاب بن الأرت:

      [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة.. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر"..]..

      وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..

      وعلى الرغم من امتلاء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
      على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..

      أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:

      (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

      ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها وقال لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأأنت ذا شعث الرأس في بردة"..؟!

      وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:

      "إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".

      ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:

      "أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة، إلا ردوا عليه السلام"..




      **




      السلام عليك يا مصعب..

      السلام عليكم يا معشر الشهداء..

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
      </FONT>

    12. #42
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      35 / معاذ بن جبل :


      عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!

      ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..

      هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.

      ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..

      على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
      بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:

      " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..

      وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجهه الى اليمن:

      " بما تقضي يا معاذ؟"

      فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..

      قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟

      "أقضي بسنة رسوله"..

      قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟

      قال معاذ:" أجتهد رأيي، ولا آلوا"..

      فتهلل وجه الرسول وقال:

      " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".



      فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسترّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.

      ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".

      وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..

      فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:

      " فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".



      وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:

      " دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه. فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".



      وهذا شهر بن حوشب يقول:

      " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له"..



      ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستشيره كثيرا..

      وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:

      " لولا معاذ بن جبل لهلك عمر"..



      ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..



      فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..

      فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..

      واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..

      فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:

      " كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..



      ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!

      وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..

      فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.

      ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..



      وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!

      ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..



      كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..

      وتركه عمر وانصرف..

      وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..

      ولا يكاد يلقاه.. حتى يعانقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:

      " لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..

      وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..

      فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..

      ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..

      وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..

      وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.




      **




      ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..

      وكان عمر رضي الله عنه يقول:

      " لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعت نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم"..

      والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..

      فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..

      لإاجاب قائلا:

      " لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".




      **




      قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:

      " يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..

      أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..

      ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..

      لقيه الرسول ذات صباح فسأله:

      "كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟

      قال:

      " أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".

      قال النبي:

      :ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك"..؟؟

      قال معاذ:

      " ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..

      ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..

      وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..

      وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..

      وأهل النار في النار يعذبون.."

      فقال له الرسول:

      " عرفت فالزم"..

      أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..



      ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:

      "ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام"..




      **




      وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..

      وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:

      " احذروا زيغ الحكيم.. واعرفوا الحق بالحق، فان الحق نورا"..!!

      وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..

      قال له يوما أحد المسلمين: علمني.

      قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟

      قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..

      فقال له معاذ:

      " صم وافطر..

      وصلّ ونم..

      واكتسب ولا تأثم.

      ولا تموتنّ الا مسلما..

      واياك ودعوة المظلوم"..

      وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:

      " تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا"..



      وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

      يقول الأسود بن هلال:

      " كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..

      ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..




      **




      وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...

      وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استطاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..

      وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.

      فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:

      " الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..

      وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:

      " مرحبا بالموت..

      حبيب جاء على فاقه"..



      وسافر معاذ الى الله...

      </FONT>

    13. #43
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      36 / زيد بن الخطاب :

      جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوما، وحوله جماعة من المسلمين وبينما الحديث يجري، أطرق الرسول لحظات، ثم وجّه الحديث لمن حوله قائلا:

      " ان فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل أحد"..


      وظل الخوف بل الرعب من الفتنة في الدين، يراود ويلحّ على جميع الذين شهدوا هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل منهم يحاذر ويخشى أن يكون هو الذي يتربّص به سوء المنقلب وسوء الختام..
      ولكن جميع الذين وجّه اليهم الحديث يومئذ ختم لهم بخير، وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله. وما بقي منهم حيّا سوى أبي هريرة والرّجّال بن عنفوة.



      ولقد ظلّ أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن تصيبه تلك النبوءة. ولم يرقأ له جفن، وما هدأ له بال حتى دفع القدر الستار عن صاحب الحظ التعس. فارتدّ الرّجّال عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب، وشهد له بالنبوّة.

      هنالك استبان الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء المنقلب وسوء المصير..

      والرّجّال بن عنفوة هذا، ذهب ذات يوم الى الرسول مبايعا ومسلما، ولما تلقّى منه الاسلام عاد الى قومه.. ولم يرجع الى المدينة الا اثر وفاة الرسول واختيار الصدّيق خليفة على المسملين.. ونقل الى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الصدّيق أن يكون مبعوثه اليهم يثبّتهم على الاسلام، فأذن له الخليفة..

      وتوجّه الرّجّال الى أهل اليمامة.. ولما رأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون، فحدّثته نفسه الغادرة أن يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية، فترك الاسلام، وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود.



      وكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته.

      ذلك، لأنه استغلّ اسلامه السابق، والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول، وحفظه لآيات كثيرة من القرآن، وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.. استغلّ ذلك كله استغلالا خبيثا في دعم سلطان مسيلمة وتوكيد نبوّته الكاذبة.

      لقد سار بين الناس يقول لهم: انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" انه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر".. وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي بعده، هو مسيلمة..!!

      ولقد زادت أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا. وبسبب استغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالاسلام وبالرسول.

      وكانت أنباء الرّجّال تبلغ المدينة، فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالا بعيدا، والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها.

      وكان أكثر المسلمين تغيّظا، وتحرّقا للقاء الرّجّال صحابي جليل تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!!

      زيد بن الخطّاب..؟

      لا بد أنكم عرفتموه..

      انه أخو عمر بن الخطّاب..

      أجل أخوه الأكبر، والأسبق..

      جاء الحياة قبل عمر، فكان أكبر منه سنا..

      وسبقه الى الاسلام.. كما سبقه الى الشهادة في سبيل الله..

      وكان زيد بطلا باهر البطولة.. وكان العمل الصامت. الممعن في الصمت جوهر بطولته.

      وكان ايمانه بالله وبرسوله وبدينه ايمانا وثيقا، ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزاة.

      وفي كل مشهد لم يكن يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن الشهادة..!

      يوم أحد، حين حمي القتال بين المسلمين والمشركين والمؤمنين. راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب..

      وأبصره أخوه عمر بن الخطّاب، وقد سقط درعه عنه، وأصبح أدنى منالا للأعداء، فصاح به عمر.

      " خذ درعي يا زيد فقاتل بها"..

      فأجابه زيد:

      " اني أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"..!!!

      وظل يقاتل بغير درع في فدائية باهرة، واستبسال عظيم.




      **




      قلنا انه رضي الله عنه، كان يتحرّق شوقا للقاء الرّجّال متمنيّا أن يكون الاجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في رأي زيد، لم يكن مرتدّا فحسب.. بل كان كذّابا منافقا، وصوليا.

      لم يرتدّ عن اقتناع.. بل عن وصولية حقيرة، ونفاق بغيض هزيل.

      وزيد في بغضه النفاق والكذب، كأخيه عمر تماما..!

      كلاهما لا يثير اشمئزازه، ولا يستجيش بغضاءه، مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة، والأغراض الدنيئة.

      ومن أجل تلك الأغراض المنحطّة، لعب الرّجّال دوره الآثم، فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة ارباء فاحشا، وهو بهذا يقدّم بيديه الى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردّة..

      أضلّها أولا، وأهلكها أخيرا.. وفي سبيل ماذا..؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه، وزخرفها له هواه، ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة، لا في شخص مسيلمة بل في شخص من هو أكبر من خطرا، وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة.




      **




      وبدأ يوم اليمامة مكفهرّا شاحبا.

      وجمع خالد بن الوليد جيش الاسلام، ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟

      الى زيد بن الخطّاب.

      وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتالا مستميتا ضاريا..

      ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون.

      ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين، فعلا ربوة هناك، وصاح في اخوانه:

      " أيها الناس.. عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!!

      ونزل من فوق الربوة، عاضّا على أضراسه، زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس.

      وتركّز مصير المعركة لديه في مصير الرّجّال، فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم، باحثا عن الرّجّال حتى أبصره..



      وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من جديد، فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى، فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت..

      وأخيرا يمسك بخناقه، ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا، وكذبا، وخسّة..

      وبسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كله يتساقط، فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف..

      لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة، والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!!

      وها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة..

      وغدا سيسقط المحكم، وبعد غد مسيلمة..!!

      هكذا احدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا الدمار في صفوف مسيلمة..

      أما المسلمون، فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد، حاملا سيفه، وغير عابئ بجراحه..

      حتى الذين كانوا على شفا الموت، لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب، مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل، فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلوا، وليشهدوا النصر في روعة ختامه..

      ولكن أنّى لهم هذا، وقد تفتحت أبواب الجنّة لاستقبالهم وانهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!!




      **




      رفع زيد بن الخطاب ذراعيه الى السماء مبتهلا لربّه، شاكرا نعمته..

      ثم عاد الى سيفه والى صمته، فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة..

      ولقد أخذت المعركة تمضي لصالح المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع..



      هنالك وقد رأى زيد رياح النصر مقبلة، لم يعرف لحياته ختاما أروع من هذا الختام، فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا..

      وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقا، ومآقيه دموعا،وعزمه اصرارا..

      وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم..

      وسقط البطل شهيدا..

      بل قولوا: صعد شهيدا..

      صعد عظيما، ممجّدا، سعيدا..

      وعاد جيش الاسلام الى المدينة ظافرا..

      وبينما كان عمر، يستقبل مع الخليفة أبي بكرو أولئك العائدين الظافرين، راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه العائد..

      وكان زيد طويل بائن الطول، ومن ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا..

      ولكن قبل أن يجهد بصره، اقترب اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد..

      وقال عمر:

      " رحم الله زيدا..

      سبقني الى الحسنيين..

      أسلم قبلي..

      واستشهد قبلي".




      **




      وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر بها وينعم، فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة..

      ودائما كان يقول:

      " ما هبّت الصبا، الا وجدت منها ريح زيد".

      أجل..

      ان الصبا لتحمل ريح زيد، وعبير شمائله المتفوقة..

      ولكن، اذا اذن أمير المؤمنين، أضفت لعبارته الجليلة هذه، كلمات تكتمل معها جوانب الاطار.

      تلك هي:

      " .. وما هبّت رياح النصر على الاسلام منذ يوم اليمامة الا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد.. وعظمة زيد..!!"




      **




      بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم..

      بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا أيام جاهدوا، واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!!
      </FONT>

    14. #44
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      37 / الزبير بن العوام :

      لا يجيء ذكر طلحة الا ويذكر الزبير معه..

      ولا يجيء ذكر الزبير الا ويذكر طلحة معه..

      فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة، آخى بين طلحة والزبير.

      وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:

      " طلحة والزبير جاراي في الجنة".
      وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.

      أما طلحة، فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.

      وأما الزبير، فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..

      وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..

      فالتماثل بينهما كبير، في النشأة، في الثراء، في السخاء، في قوة الدين، في روعة الشجاعة، وكلاهما من المسلمين المبكرين باسلامهم...

      ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجنة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.

      وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.




      **




      ولقد أسلم الزبير، اسلاما مبكرا، اذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام، وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..

      وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..

      ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.

      ففي الأيام الأولى للاسلام، والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه، وسار في شوارع مكة، على حداثة سنه كالاعصار..!

      ذهب أولا يتبيّن الخبر، معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفر بهم أو يظفروا به..

      وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول، ودعا له بالخير، ولسيفه بالغلب.

      وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.

      وكان الذي تولى تعذيبه هو عمه.. كان يلفه في حصير، ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد، أدرأ عنك العذاب".

      فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ، غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:

      " لا..

      والله لا أعود لكفر أبدا"...

      ويهاجر الزبير الى الحبشة، الهجرتين الأولى والثانية، ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.



      وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها، أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!

      ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده، يحدثنا عنها فيقول:

      " صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده، فرأيته مجذّعا بالسيوف، وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.

      فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.

      فقال لي: أما والله ما منها جراحة الا مع رسول الله وفي سبيل الله"..

      وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..



      وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير، جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين، وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق ابراز قوتها، وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها، وأسرعت خطاها الى مكة..!!



      ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة، صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده، ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها، وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو، ولا يحبو..!!

      وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة، عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.

      وكان يقول:

      " ان طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم ألا نبي بعد محمد...

      واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!

      وهكذا سمى ولده، عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.

      وسمى ولده المنذر، تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.

      وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.

      وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.

      وسمّى جعفر، تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.

      وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.

      وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..

      وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.

      ولقد قيل في تاريخه:

      " انه ما ولي امارة فط، ولا جباية، ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".

      وكانت ميزته كمقاتل، تتمثل في في اعتماده التام على نفسه، وفي ثقته التامة بها.

      فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف، لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.

      وكان فضيلته كمقاتل، تتمثل في الثبات، وقوة الأعصاب..

      رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد مثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة، فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه، وضاغطا على قبضة سيفه، لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!

      وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب، فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:

      " والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة، أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..

      ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..

      وبقوة أعصاب مذهلة، أحكما انزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!

      ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه، وبقايا جيشه المنهزم، فاقتحم حشدهم وحده، وشتت شملهم وحده، وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين، العائدين من المعركة..!!




      **




      ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..

      وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:

      " ان لكل نبي حواريا وحواريي الزبير بن العوّام"..

      ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب، ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، بل كان ذلك الوفي القوي، والشجاع الأبيّ، والجوّاد السخيّ، والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:

      ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:

      أقام على عهد النبي وهديه

      حواريّه والقول بالفعل يعدل

      أقام على منهاجه وطريقه

      يوالي وليّ الحق، والحق أعدل

      هو الفارس المشهور والبطل الذي

      يصول، اذا ما كان يوم محجّل

      له من رسول الله قربى قريبة

      ومن نصرة الاسلام مجد موثّل

      فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه

      عن المصطفى، والله يعطي ويجزل




      **




      وكان رفيع الخصال، عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!

      فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة، وكان ثراؤه عريضا، ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!

      وكان توكله على الله منطلق جوده، ومنطلق شجاعته وفدائيته..

      حتى وهو يجود بروحه، ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:

      " اذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي"..

      وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟

      فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير"..

      يقول عبدالله فيما بعد:

      " فوالله ما وقعت في كربة من دينه الا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه".



      وفي يوم الجمل، كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..

      فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال، وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال، وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..

      وذهب القاتل الى الامام علي يظن أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير، وحين يضع بين يديه سيفه الذي استلبه منه، بعد اقتراف جريمته..

      لكن عليّا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن، صاح آمرا بطرده قائلا:

      " بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار"..

      وحين أدخلوا عليه سيف الزبير، قبّله الامام وأمعن بالبكاء وهو يقول:

      " سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله"..!!



      أهناك تحيّة نوجهها للزبير في ختام حديثنا عنه، أجمل وأجزل من كلمات الامام..؟؟

      سلام على الزبير في مماته بعد محياه..

      سلام، ثم سلام، على حواري رسول الله...

      </FONT>

    15. #45
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      38 / طلحة بن عبيد الله :

      ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا)...

      تلا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، ثم استقبل وجوه أصحابه، وقال وهو يشير الى طلحة:

      " من سرّه أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض، وقد قضى نحبه، فلينظر الى طلحة"..!!
      ولم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله، وتطير قلوبهم شوقا اليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله..

      لقد اطمأن اذن الى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا، ويموت، وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة، ولن يدركه لغوب..

      ولقد بشّره الرسول بالجنة، فماذا كانت حياة هذا المبشّر الكريم..؟؟




      **




      لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهبا من خيار رهبانها، وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم، والذي تنبأ به الأنبياء الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه..

      وحّر طلحة أن يفوته موكبه، فانه موكب الهدى والرحمة والخلاص..

      وحين عاد طلحة الى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر، الفى بين أهلها ضجيجا.. وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم، أو بجماعة منهم عن محمد الأمين.. وعن الوحي الذي يأتيه.. وعن الرسالة التي يحملها الى العرب خاصة، والى الناس كافة..

      وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير بعيد، وأنه يقف الى جوار محمد مؤمنا منافحا، أوّابا..

      وحدّث طلحة نفسه: محمد، وأبو بكر..؟؟

      تالله لا يجتمع الاثنان على ضلالة أبدا.!!

      ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره، وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة.. أفيكذب اليوم على الله، ويقول: أنه أرسلني وأرسل اليّ وحيا..؟؟



      وهذا هو الذي يصعب تصديقه..

      وأسرع طلحة الخطى ميمما وجهه شطر دار أبي بكر..

      ولم يطل الحديث بينهما، فقد كان شوقه الى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات قلبه..

      فصحبه أبو بكر الى الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أسلم وأخذ مكانه في القافلة المباركة..

      وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين.




      **




      وعلى الرغم من جاهه في قومه، وثرائه العريض، وتجارته الناجحة فقد حمل حظه من اضطهاد قريش، اذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد، وكان يدعى أسد قريش، بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه، اذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها، وخافت عاقبة أمرها..

      وهاجر طلحة الى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدا غزوة بدر، فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة..

      ولما أنجزاها ورجعا قافلين الى المدينة، كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر، فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته..

      بيد أن الرسول أهدى اليهما طمأنينة سابغة، حين انبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما، بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها..

      وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بانزال هزيمة نهائية بالمسلمين، هزيمة حسبتها قريش أمرا ميسورا، وقدرا مقدورا..!!

      ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم.. ودارت الدائرة على المشركين..



      ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم، ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم..

      وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة، فامتلك ناصية الحرب زمام المعركة..

      واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه، وكان للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين..

      وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك والوثنية، فسارع نحو الرسول..

      وراح رضي الله عنه يجتاز طريقا ما أطوله على قصره..! طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف المسعورة وعشرات من الرماح المجنونة!!

      ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدم و يتحامل على نفسه، فجنّ جنونه، وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه، وتحيط به تريد أن تناله بسوء..



      ووقف طلحة كالجيش اللجب، يضرب بسيفه البتار يمينا وشمالا..

      ورأى دم الرسول الكريم ينزف، وآلامه تئن، فسانده وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه..

      كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره، متأخرا به الى مكان آمن، بينما بيمينه، بارك الله يمينه، تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين أحاطوا بالرسول، وملؤا دائرة القتال مثل الجراد..!!

      ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه يصف لنا المشهد..

      تقول عائشة رضي الله عنها:

      " كان أبو بكر اذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم طلحة.. كنت أول من جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم اخاكم.. ونظرنا واذا به بضع وسبعون بين طعنة.. وضربة ورمية.. واذا أصبعه مقطوع. فأصلحنا من شانه" .




      **




      وفي جميع المشاهد والغزوات، كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله، ويفتدي راية رسوله.

      ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة، يعبد الله مع العابدين، ويجاهد في سبيله مع المجاهدين، ويرسي بساعديه مع سواعد اخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات الى النور..

      فاذا قضى حق ربه، راح يضرب في الأرض، ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة، وأعماله الناجحة.

      فقد كان طلحة رضي الله عته من أكثر المسلمين ثراء، وأنماهم ثروة..

      وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته...

      كان ينفق منها بغير حساب..

      وكان الله ينمّيها له بغير حساب!



      لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفيّاض اطراء لجوده المفيض.

      وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة، فاذا الله الكريم يردها اليه مضاعفة.



      تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول:

      " دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما، فسألته ما شانك..؟

      فقال المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني..

      وقلت له ما عليك.. اقسمه..

      فقام ودعا الناس، واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم"...

      ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع، ونظر الى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال:

      " ان رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر، لمغرور بالله"...

      ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه، ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها، حتى أسحر وما عنده منها درهم..!!

      ويصف جابر بن عبدالله جود طلحة فيقول:

      " ما رأيت أحد اعطى لجزيل مال من غير مسألة، من طلحة بن عبيد الله".وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه، فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..

      وقد قيل عنه في ذلك:

      ".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه مؤنته، ومؤنة عياله..

      وكان يزوج أيامهم، ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم"..



      ويقول السائب بن زيد:

      " صحبت طلحة بن عبيدالله في السفر والحضر فما وجدت أحدا، أعمّ سخاء على الدرهم، والثوب والطعام من طلحة"..!!





      رضي الله عن طلحة..

      و صلى و سلم على جاره في الجنة..

      نبينا الكريم!
      </FONT>

    صفحة 3 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •