• 0
  • مالي خلق
  • أتهاوش
  • متضايق
  • مريض
  • مستانس
  • مستغرب
  • مشتط
  • أسولف
  • مغرم
  • معصب
  • منحرج
  • آكل
  • ابكي
  • ارقص
  • اصلي
  • استهبل
  • اضحك
  • اضحك  2
  • تعجبني
  • بضبطلك
  • رايق
  • زعلان
  • عبقري
  • نايم
  • طبيعي
  • كشخة
  • صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة
    النتائج 1 إلى 15 من 77

    الموضوع: &&[[ ... مكتبة سير أكثر من 40 صحابي رضوان الله عليهم ... ]]&&

    1. #1
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      &&[[ ... مكتبة سير أكثر من 40 صحابي رضوان الله عليهم ... ]]&&

      بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجميعين أما بعد :-
      أخواني أعضاء منتدى المنتدى الكرام
      تظرا لمكانة الصحابة في الإسلام وكانتهم عند رسلونا عليه أفضل الصلاة والسلام فقررت أن أضع لكم سير أكثر من 40 صحابي في هذا الموضوع
      فأرجو متابعتهم معي وفقكم الله
      تحياتي / الرياضي
      ==========================================================
      التعديل الأخير تم بواسطة ابو خالد ; 18-07-2005 الساعة 06:22 PM

    2. #2
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      أولا أبو أيوب الأنصاري :
      ============================================

      كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

      وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..
      وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين:

      " يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا العدد والعدة والمنعة"..

      ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:

      " خلوا سبيلها فانها مأمورة".

      ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فحيّ بني ساعدة، فحي بني الحارث بن الخزرج، فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:

      " خلوا سبيلها فانها مأمورة..



      لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف، أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم، ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم للله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسجون.

      أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..

      من اجل هذا، ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه، وابتهل اليه بلسانه:

      " اللهم خر لي، واختر لي"..

      وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان، ثم عادت الى مبركها الأول، وألأقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..

      أتدرون من كان هذا السعيدالموعود الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟

      انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، حفيد مالك بن النجار..

      لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..

      فمن قبل، وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين، مناصرين.



      والآن رسول الله يشرف المدينة، ويتخذها عاصمة لدين الله، فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم، والرسول الكريم.

      ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة، ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما، وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!

      وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..

      ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد، وبناء حجرة له بجواره..

      ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل، وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..

      منذ تلك البداية، واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.

      ففي بدر، وأحد والخندق، وفي كل المشاهد والمغازي، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..

      وبعد وفاة الرسول، لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها، مهما يكن بعد الشقة، وفداحة المشقة..!

      وكان شعاره الذي يردده دائما، في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:

      ( انفروا خفافا وثقالا)..

      مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين، ولم يقتنع أبو أيوب بامارته.

      مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه، ويقول:

      " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟

      ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!



      كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام، يقاتل تحت رايته، ويذود عن حرمته..

      ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية، وقف مع علي في غير تردد، لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة خعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة، الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى، وبين صفوف المجاهدين..

      وهكذا، لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه، وحمل سيفه، وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!



      وفي هذه المعركة أصيب.

      وذهب قائد جيشه ليعوده، وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..

      فسأله القائد، وكان يزيد بن معاوية:

      " ما حاجتك أبا أيوب"؟

      ترى، هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟

      كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان..!!

      لقد طلب من يزيد، اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، وهنالك يدفنه، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، فيدرك آنئذ أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!

      أتحسبون هذا شعرا..؟

      لا.. ولا هو بخيال، بل واقع، وحق شهدته الدنيا ذات يوم، ووقفت تحدق بعينيها، وبأذنيها، لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!

      ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..

      وفي قلب القسطنطينية، وهي اليوم اسطانبول، ثوى جثمان رجل عظيم، جدّ عظيم..!!



      وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع، كان أهل القسطنطينية من الروم، ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...

      وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:

      " وكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!



      وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيوب، والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح، على الرغم من ذلك، فان حياته كانت هادئة، نديّة كنسيم الفجر..



      ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:

      " واذا صليت فصل صلاة مودّع..

      ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..

      والزم اليأس مما في أيدي الناس"...

      وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..

      ولم تهف نفسه الى مطمع..

      وقضى حياته في أشواق عابد، وعزوف مودّع..

      فلما جاء أجله، لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:

      " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...

      كان يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع، وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضيائه..

      ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك، في عاصمة تلك البلاد، حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب، أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها، فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصصلة سيوفها..!!

      وانه اليوم لثاو هناك..

      لا يسمع صلصلة السيوف، ولا صهيل الخيول..

      قد قضي الأمر، واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..

      لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه، روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..

      أن:

      الله أكبر..

      الله أكبر..

      وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها، وسنا مجدها:

      هذا ما وعدنا الله ورسوله

      وصدق الله ورسوله....

      </FONT>

    3. #3
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      ثانيا زيد بن ثابت جامع القرآن الكريم :
      ============================

      اذا حملت المصحف بيمينك، واستقبلته بوجهك، ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات، سورة سورة، وآية آية، فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم، رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!

      وان وقائع جمع القرآن في مصحف، لا تذكر الا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..
      وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع اليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه، فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور، لحظ عظيم..




      **




      هو أنصاري من الدينة..

      وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، احدى عشرة سنة، وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله، وبورك بدعوة من الرسول له..

      وصحبه آباؤه معهم الى غزوة بدر، لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه، وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من اترابه الى الرسول يحملون اليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..

      وكان أهلوهم أكثر ضراعة والحاحا ورجاء..

      ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة، وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..

      لكن أحدهم وهو رافع بن خديج، تقدم بين يدي رسول الله، يحمل حربة، ويحركها بيمينه حركات بارعة،وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:

      " اني كما ترى رام، أجيد الرمي فأذن لي"..

      وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة، النضرة، بابتسامة راضية، ثم أذن له..

      وانتفضت عروق أترابه..

      وتقدم ثانيهم وهو سمرة بن جندب، وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين، وقال بعض اهله للرسول:

      " ان سمرة يصرع رافعا"..

      وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية، وأذن له..



      كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة، الى جانب نموهما الجسماني القوي..

      وبقي من الأتراب ستة أشبال، منهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر..

      ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة، وبالدمع تارة، وباستعراض عضلاتهم تارة..

      لكن أعمارهم كانت باكرة، وأجسامهم غضة، فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..

      بدأ زيد مع اتقانه دوره كمقاتل في سبيل الله بدءا من غزوة الخندق، سنة خمس من الهجرة.



      كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا، فهو لم يبرع كمجاهد فحسب، بل كمثقف متنوع المزايا أيضا، فهو يتابع القرآن حفظا، ويكتب الوحي لرسوله، ويتفوق في العلم والحكمة، وحين يبدأ رسول الله في ابلاغ دعوته للعالم الخارجي كله، وارسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..

      وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..

      يقول الشعبي:

      " ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالرّكاب.

      فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله.. فأجابه ابن عباس: لا، هكذا نصنع بعلمائنا"..

      ويقول قبيصة:

      " كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء، والفتوى والقراءة، والفرائض"..

      ويقول ثابت بن عبيد:

      " ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد".

      ويقول ابن عباس:

      " لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..

      ان هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الاسلام كله..

      مهمة جمع القرآن..




      **




      منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه الى رسول الله ليكون من المنذرين، مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..

      ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم)..

      منذ تلك البداية، والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويخف اليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..

      وخلال سنوات الرسالة كلها، حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى، وحيث يحبط مكيدة وحربا، ليواجه خصومة بأخرى، وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..



      كان الوحي يتنزل، والرسول يتلو، ويبلّغ، وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم، فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع، وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة، يحتفظون بالآيات مسطورة.

      وخلال احدى وعشرين سنة تقريبا، نزل القرآن خلالها آية آية، أو آيات، تلو آيات، ملبيا مناسبات النزول وأسبابها، كان أولئك الحفظة، والمسجلون، يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..

      ولم يجيء القرآن مرة واحدة وجملة واحدة، لأنه ليس كتابا مؤلفا، ولا موضوعا.

      انما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة، لبنة لبنة، ويوما يوما، تنهض عقيدتها، ويتشكل قلبها، وفكرها، وارادتها وفق مشيئة الهية، لا تفرض نفسها من عل، وانما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..

      ومن ثمّ، كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما، ومجرأ، ليتابع التجربة في سيرها النامي، ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.

      توافر الحفاظ، والكتبة، كما ذكرنا من قبل، على حفظ القرآن وتسجيله،وكان على رأسهم علي ابن ابي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبدالله ابن مسعود، وعبدالله بن عباس، وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..




      **




      وبعد أن تمّ نزولا، وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله، كان الرسول يقرؤه على المسلمين.. مرتبا سوره وآياته.

      وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة..

      وفي معركة اليمامة.. التي تحدثنا عنها من قبل خلال حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن الخطاب كان عدد الشهداء من قرّاء القرآن وحفظته كبيرا.. فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر الى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما راغبا اليه في الحاح أن يسارعوا الى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ.

      واستخار الخليفة ربه.. وشاور صحبه.. ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:

      " انك شاب عاقل لا نتهمك".

      وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم، مستعينا بذوي الخبرة في هذا الموضوع..

      ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الاسلام كله كدين..!

      وأبلى بلاء عظيما في انجاز أشق المهام وأعظمها، فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ، ومن مواطنها المكتوبة، ويقابل، ويعارض، ويتحرّى، حتى جمع القرآن مرتبا ومنسقا..

      ولقد زكّى عمله اجماع الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها، لا سيّما العلماء منهم والحفاظ والكتبة..

      وقال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها..

      " والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن"..!!

      أجل..

      فلأن يحمل زيد فوق كاهله جبلا، أو جبالا، أرضى لنفسه من أن يخطئ أدنى خطأ، في نقل آية أو اتمام سورة..

      كل هول يصمد له ضميره ودينه.. الا خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغير مقصود..

      ولكن توفيق الله كان معه، كان معه كذلك وعده القائل:

      ( انا نحن نزلنا الذكر وان له لحافظون)..

      فنجح في مهمته، وأنجز على خير وجه مسؤوليته وواجبه.




      **




      كانت هذه هي المرحلة الأولى في جمع القرآن..

      بيد أنه جمع هذه المرة مكتوبا في أكثر من مصحف..



      وعلى لرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحف كانت شكلية، فان التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب توحيدها جميعها في مصحف واحد.

      ففي خلافة عثمان رضي الله عنه، والمسلمون يواصلون فتوحاتهم وزحوفهم، مبتعدين عن المدينة، مغتربين عنها..

      في تلك الأيام، والاسلام يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلين فيه، المبايعين اياه، ظهر جليّا ما يمكن أن يفضي اليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين..

      هنالك تقدم الى الخليفة عثمان فريق من الأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيد المصحف..



      واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه..

      وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت، استنجد به عثمان أيضا..

      فجمع زيد أصحابه وأعوانه، وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وكانت محفوظة لديها، وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة..

      كان كل الذين يعاونون زيدا من كتاب الوحي، ومن حفظة القرآن..

      ومع هذا فما كانوا يختلفون ، وقلما كانوا يختلفون، الا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل.




      **




      والآن نحن نقرأ القرآن العظيم ميسّرا، أو نسمعه مرتلا، فان الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم الله لجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال..!!

      تماما مثل الأهوال التي كابدوها، والأرواح التي بذلوها، وهم يجاهدون في سبيل الله، ليقرّوا فوق الأرض دينا قيّما، وليبددوا ظلامها بنوره المبين

    4. #4
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      ثالثا زيد بن حارثة رضي الله عنه :

      ===========================================================


      وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلا:

      " عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب.. فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة".

      فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟

      من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟
      أما مظهره وشكله، فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:

      " قصير، آدم، أي أسمر، شديد الأدمة، في أنفه فطس"..

      أمّا نبؤه، فعظيم جدّ عظيم..!!






      **




      أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.

      وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله، ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..

      لكنّ الشقّة بعدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه، ويعود..

      وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!!




      **




      ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..

      وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه، وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليفع، زيد بن حارثة..

      وعادت الأم الى زوجها وحيدة.

      ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد، مسايّا نفسه، وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:

      بكيت على زيد ولم ادر ما فعل

      أحيّ فثرجى؟ أم أتى دونه الأجل

      فوالله ما أدري، واني لسائل

      أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل



      تذكرينه الشمس عنج طلوعها

      وتعرض ذكراه اذا غربعها أفل

      وان هبّت الأرواح هيّجن ذكره

      فيا طول حزني عليه، ويا وجل




      **




      كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..

      كان ذلك في أثينا، حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها..

      وكذلك كان في روما..

      وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..

      وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى..



      ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.

      وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..



      ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره،وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..

      وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة، ونقلوا اليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجّاج من قومه"

      " أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد"..



      ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه، ومعه أخوه..

      وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:

      "يا بن عبدالمطلب..

      يا لن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه"..

      كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه..



      هنالك قال حارثة:

      "ادعوا زيدا، وخيّروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!

      وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:

      " لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف"..

      ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد، ولما جاء سأله:

      " هل تعرف هؤلاء"..؟

      قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.

      وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:

      " ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم"..!!

      ونديت عينا رسول الله بدموعشاكرة وحانية، ثم أمسك بيد زيد، وخرج به الى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى الرسول:

      " اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!!

      وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب، بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..

      وعاد الأب والعم الى قومهما، مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة، آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل..!!




      **




      تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد..

      وفي يوم باهر الشروق، نادى الوحي محمدا:

      ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم)...

      ثم تتابعت نجاءاته وكلماته:

      ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربّك فكبّر)...

      (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك، وان لم تفعل فما بلّغت رسالته، والله يعصمك من الناس، ان الله لايهدي القوم الكافرين)...

      وما ان حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!!




      **




      أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفّة ضميره ولسانه ويده...

      كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..

      تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:

      " ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه...

      الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..

      فمن كان زيد هذا..؟؟

      انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي، ثم بيع، ثم حرره الرسول وأعتقه..

      وانه ذلك الرجال القصير، الأسمر، الأفطس الأنف، بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..

      ومن ثم وجد له في الاسلام، وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان، فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب، ولا بوجاهة المظهر.

      ففي رحاب هذا الدين العظيم، يتألق بلال، ويتألق صهيب، ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...

      يتألقون جميعا كأبرا، وقادة..

      لقد صحح الاسلام قيم الاسلام، قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:

      ( انّ أكرمكم عند الله أتقاكم)...

      وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة، وللكفايات النظيفة، الأمينة، المعطية..

      وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب، ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترغب بنفسها عن نفسه..

      ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب.

      وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمّ ابنة عمته اليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..



      وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟

      فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة، ومقررا الغاء عادة التبني، ومعلنا:

      ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبين).

      وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".




      **




      والآن..

      هل ترون هذه اقوات المسلمة الخارجة الى معارك، الطرف، أو العيص، وحسمي، وغيرها..

      ان أميرها جميعا، هو زيد بن حارثة..

      فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط، الا جعله أميرا هلى هذا الجيش"..



      حتى جاءت غزوة مؤتة..

      كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم، ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح..

      وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الاسلام...




      **




      وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام، فقرر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام، حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..

      ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف..

      في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمّى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها...




      **




      كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار..

      ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم..

      وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم:

      زيد بن حارثة،

      جعفر بن أبي طالب،

      عبدالله بن رواحة.

      رضي الله عنهم وأرضاهم، ورضي الله عن الصحابوة أجمعين...

      وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:

      " عليكم زيد بن حارثة..

      فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب،...

      فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة"...

      وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

      وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد، وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...

      وبمثل هذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل، لينشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها انسانية الانسان...!!




      **




      ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر، فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!



      ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..

      ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟؟

      هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتحما رماح العدو ونباله وسيوفه، لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

      لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء، ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة، ورفرفها الأخضر، تخفق أمام عينيه كالأعلام، تنبئه أن اليوم يوم زفافه..

      وكان هو يضرب، ويقاتل، لا يطوّح رؤوس مقاتليه، انما يفتح الأبواب، ويفضّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع، الي سيدلف منه الى دار السلام، وجنات الخلد، وجوار الله..



      وعانق زيد مصيره...

      وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها، لا يلفه الحرير الناعم، بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله..

      ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة، وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها، وليحملها قبل أن تغيب في التراب....


    5. #5
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      رابعا أبو ذر الغفاري1)

      ==========================================================

      أقبل على مكة نشوان مغتبطا..

      صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم، بيد أن الغاية التي يسعى اليها، أنسته جراحه، وأفاضت على روحه الحبور والبشور.

      ودخلها متنكرا، كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام.. أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه، أو طال به السفر والارتحال فأوى اليها يستريح ويتزوّد.

      فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمع اليه لفتكوا به.

      وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به، ولكن بعد أن يقابل الرجل الي قطع الفيافي ليراه، وبعد أن يؤمن به، ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..

      ولقد مضى يتسمّع الأنباء من بعيد، وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر، حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله على محمد، وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.

      في صبيحة يوم ذهب الى هناك، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالاسا وحده، فاقترب منه وقال: نعمت صباحا يا أخا العرب..

      فأجاب السول عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام يا أخاه.

      قال أبو ذر:أنشدني مما تقول..

      فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هو بشعر فأنشدك، ولكنه قرآن كريم.

      قال أ[و ذر: اقرأ عليّ..

      فقرأ عليه الرسول، وأ[و ذر يصغي.. ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر:

      "أشهد أن لا اله الا الله.

      وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!

      وسأله النبي: ممن أنت يا أخا العرب..؟

      فأجابه أبو ذر: من غفار..

      وتألقت ابتسامة على فم السول صلى الله عليه وسلم، واكتسى وجهه الدهشة والعجب..

      وضحك أبو ذر كذلك، فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالاسلام أمامه انما هو رجل من غفار..!!

      فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق..!!

      وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع.. انهم حلفاء الليل والظلام، والويل لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار.

      أفيجيء منهم اليوم، والاسلام لا يزال دينا غصّا مستخفيا، واحد ليسلم..؟!



      يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه:

      ".. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا، لما كان من غفار، ثم قال: ان الله يهدي من يشاء.

      ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى، وأراد بهم الخير.

      وانه لذو بصر بالحق، فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى، وأراد بهم الخير.

      وانه لذو بصر بالحق، فقد روي عنه أنه أحد الذين كلنوا يتألهون في الجاهلية، أي يتمرّدون على عبادة الأصنام، ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم. وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفّه عبادة الأصناك وعبّادها، ويدعو الى عبادة الله الواحد القهار، حتى حث اليه الخطى، وشدّ الرحال.




      **




      أسلم أبو ذر من فوره..

      وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..

      اذن، هو قد أسلم في الأيام الأولى، بل الساعات الأولى للاسلام، وكان اسلامه مبكرا..

      وحين أسلم كلن الرسول يهمس بالدعوة همسا.. يهمس بها الى نفسه، والى الخمسة الذين آمنوا معه، ولم يكن أمام أبي ذر الا أن يحمل ايمانه بين جنبيه، ويتسلل به مغادرا مكة، وعائدا الى قومه...

      ولكن أبا ذر، جندب بن جنادة، يحمل طبيعة فوارة جيّاشة.

      لقد خلق ليتمرّد على الباطل أنى يكون.. وها هو ذا يرى الباطل بعينيه.. حجارة مرصوصة، ميلاد عابديها أقدم من ميلادها، تنحني أمامها الجباه والعقول، ويناديها الناس: لبيك.. لبيك..!!

      وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك.. ولكن لا بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل.

      لقد توجه الى الرسول عليه الصلاة والسلام فور اسلامه بهذا السؤال:

      يا رسول الله، بم تأمرني..؟

      فأجابه الرسول: ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري..

      فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد..!!

      ألم أقل لكم..؟؟

      تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة، أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به، وفي الدعوة التي سمع بتباشيرها على لسانه.. أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع الى أهله صامتا.؟

      هذا أمر فوق طاقته..

      هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته:

      [أشهد أن لا اله الا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله]...



      كانت هذه الصيحة أول صيحة بالاسلام تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى..

      ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه.. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه..

      وترامى النبأ الى العباس عم النبي، فجاء يسعى، وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم الا بالحيلة لذكية، قال له:

      "يا معشر قريش، أنتم تجار، وطريقكم على غفار،، وهذا رجل من رجالها، ان يحرّض قومه عليكم، يقطعوا على قوافلكم الطريق".. فثابوا الى رشدهم وتركوه.

      ولكن أبا ذر، وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله، لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد...!!

      وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم، يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين (أساف، واثلة) ودعوانهما، حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان، ويهرول الرجال كالجراد، ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه..

      وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله". ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه، حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..




      **




      ويعود أبو ذر الى عشيرته وقومه، فيحدثههم عن النبي الذي ظهر يدعو الى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق، ويدخل قومه في الاسلام، واحدا اثر واحد.. ولا يمتفي بقبيلته غفار، بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه..!!

      وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة، ويستقر بها والمسلمون معه.

      وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان، أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة، لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك..

      اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..

      لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم، جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجالا ونساءا. شيوخا وشبابا، وأطفالا..!!

      وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة..

      فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن اسلامه وايمانه، وقال معبّرا عن دهشته:

      "ان الله يهدي من يشاء"..!!

      أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة..وقد قطعت في الاسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر، وتجيء معها قبيلة أسلم..

      ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان، قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.

      أليس الله يهدي من يشاء حقا..؟؟

      لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..

      ونظر الى قبيلة غفار وقال:

      "غفار غفر الله لها".

      ثم الى قبيلة أسلم فقال:

      "وأسلم سالمها الله"..

      وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة، العزيز المنال.. ألا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية..؟؟

      أجل.. ولسوف يكون جزاؤه موفورا، وتحيته مباركة..

      ولسوف يحمل صدره، ويحمل تاريخه، أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة..

      ولسوف تفنى القرون والأجيال، والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر:

      " ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"..!!

      ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته اباهرة على مواجهة الباطل.. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه، حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه..




      **




      أصدق لهجة في أبي ذر..؟

      لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه، ولخص حياته كلها في هذه الكلمات..

      فالصدق الجسور، هو جوهر حياة أبي ذر كلها..

      صدق باطمه، وصدق ظاهره..

      صدق عقيدته وصدق لهجته..

      ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه، ولا يغالط غيره، ولا يسمح لأحد أن يغالطه..

      ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر..

      انما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ..

      الصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه، وسير حثيث معه..



      ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته، فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله.

      وألقى الرسول يوما هذا السؤال:

      " يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟

      فأجاب قائلا:

      "اذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي".!!

      فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:

      "أفلا أدلك على خير من ذلك..؟

      اصبر حتى تلقاني".

      ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟

      الأمراء.. والمال..؟؟



      تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته، وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..

      ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال، ليزوده هذه النصيحة الثمينة:"اصبر حتى تلقاني"..

      ولسوف يحفظ أبو 1ر وصية معلمه، فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..

      أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم، فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..

      ولسوف يفعل..




      **




      ومضى عهد الرسول، ومن بعده عصر أبي بكر، وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..

      حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة، لم تكن تجد لرغباتها سبيلا ولا منفذا.

      وأيامئذ، لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللاهبة...



      ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر، فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الأرض، زهدا وتقشفا، ودعلا يكاد يكون فوق طاقة البشر..



      ان واليا من ولاته في العراق، أو في الشام، أ، في صنعاء.. أو في أي من البلاد النائية البعيدة، لا يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى، لا يجد عامة الناس قدرة على شرائه، حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير..!!

      ليهنأ أبو ذر اذن.. وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين..

      وما دام لا يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايقع استغلال السلطة، واحتكارالثروة، فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة، وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..

      وهكذا تفرغ لعبادة ربه، وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا، أو هناك.. وقلما كان يرى..



      بيد أن أعظم، وأعدل، وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم، تاركا وراءه فراغا هائلا، ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفرّ منه ولا طاقة للناس به. وتستمر القتوح في مدّها، ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها..

      ويرى أبو ذر الخطر..



      ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..

      ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري، توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..

      ان المال الذي جعله الله خادما مطيعا للانسان، يوشك أن يتحوّل الى سيّد مستبد..

      ومع من؟

      مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة، في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه..!!

      ان خيرات الأرض التي ذرأها الله للناس جميعا.. وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن اصير حكرا ومزية..

      ان السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدة الأبرار، تتحول الى سبيل للسيطرة، وللثراء، وللترف المدمر الوبيل..

      رأى أبو ذر كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته.. بل راح يمد يمينه الى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه، ونهض قائما يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول، فأعاد السيف الى غمده، فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..

      (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ)

      ليس دوره اليوم أن يقتل.. بل أن يعترض..

      وليس السيف أداة التغيير والتقويم، بل الكلمة الصادقة، الأمينة المستبسلة..

      الكلمة العادلة التي لا تضل طريقها، ولا ترهب عواقبها.



      لقد أخبر الرسول يوما وعلى ملأ من أصحابه، أن الأرض لم تقلّ، وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر..

      ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة، وصدق الاقتناع، فما حاجته الى السيف..؟

      ان كلمة واحدة يقولها، لأمضى من ملء الأرض سيوفا..



      فليخرج بصدقه هذا، الى الأمراء.. الى الأغنياء. الى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم الى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا، لا جابيا.. ونبوة لا ملكا،.. ورحمة لا عذابا.. وتواضعا لا استعلاء.. وتكافؤ لا تمايز.. وقناعة لا جشعا.. وكفاية لا ترفا.. واتئادا في أخذ الحياة، لا فتونا بها ولا تهالكا عليها..

      فليخرج الى هؤلاء جميعا، حتى يحكم الله بينهم وبينه بالحق، وهو خير الحاكمين.









    6. #6
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      أبو ذر الغفاري (2) :
      ===========================
      وخرج أبو ذر الى معاقل السلطة والثروة، يغزوها بمعارضته معقلا معقلا.. وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون.. حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طاره اليها ذكره. وأصبح لا يمر بأرض، بل ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تسؤلات هامّة تهدد مصالح ذوي الشلطة والثراء.

      ولو أراد هذا الثائر الجليل أن يتخذ لنفسه ولحركته علما خاصا لما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتوهج حمرة ولهبا، فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان.. ويردده الانس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات:

      "بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"..!!

      لا يصغد جبلا، ولا ينزل سهلا، ولا يدخل مدينة، ولا يواجه أميرا الا وهذه الكلمات على لسانه.

      ولم يعد الانس يبصرونه قادما الا استقبلوه بهذه الكلمات:

      " بشّر الكانزين بمكاو من نار"..



      **




      (لا حاجة لي في دنياكم)..!!

      هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل الى المدينة، وجرى بينهما حوار طويل.

      لقد خرج عثمان من حواره مع صاحبه، بقرار أن يحتفظ به الى جواره في المدينة، محددا بها اقامته.

      ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا، رقيقا، فقال له:" ابق هنا يجانبي، تغدو عليك القاح وتروح"..

      وأجابه أبو ذر:

      (لا حاجة لي في دنياكم).!



      أجل لا حاجة له في دنيا الناس.. انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح، ويحيون الحياة ليعطوا لا ليأخذوا..!!

      ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج الى الرّبذة فأذن له..



      ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله، حافظا في اعماق روحه النصيحة التي وجهها اليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول رأى الغيب كله.. غيب أبي ذر ومستقبله، فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية.

      ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بايقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لاشباع ولعهم وكيدهم.

      جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة، فزجرهم بكلمات حاسمة:

      " والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، أو جبل، لسمعت، وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي.."

      " ولوسيّرني ما بين الأفق الى الأفق، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي..

      " ولو ردّني الى منزلي، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي"..



      ذلك رجل لا يريد غرضا من أغراض الدنيا، ومن ثم أفاء الله عليه نور البصيرة.. ومن ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها.. كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر، فتحاشاه أيضا، ورفع صوته لا سيفه بكلمة الحق ولهجة الصدق، لا أطماع تغريه.. ولا عواقب تثنيه..!

      لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتّل.



      وسيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال، فالحكم والمال يملكان من الاغراء والفتنة ما يخافه أبو ذر على اخوانه الذين حملوا راية الاسلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، والذين يجب أن يظلوا لها حاملين.

      والحكم والمال أيضا، هما عصب الحياة للأمة والجماعات، فاذا اعتورهما الضلال تعرضت مصاير الناس للخطر الأكيد.

      ولقد كان أبو ذر يتمنى لأصحاب الرسول ألا يلي أحد منهم امارة أو يجمع ثروة، وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى، وعبّادا لله..

      وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال، وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا.. ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من اغراء الامارة ويقول عنها:

      ".. انها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة.. الا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها"...



      ولقد بلغ الأمر بأبي ذر لى تجنّب اخوانه ان لم يكن مقاطعتهم،لأنهم ولوا الامارات، وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة..

      لقيه أبو موسى الأشعري يوما، فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه:" مرحبا أبا ذر.. مرحبا بأخي".

      ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:

      " لست بأخيك، انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"..!

      كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا، ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:

      (اليك عني.. ألست الذي وليت الامارة، فتطاولت في البنيان، واتخذت لك ماشية وزرعا)..؟؟

      ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..

      وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الجكم والثروة..

      ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه، ومع ايمانه، فأبو ذر يقف بأحلامه وأعماله.. بسلوكه ورؤاه، عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه.. أبو بكر وعمر..



      واذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية لا يدرك شأوها، فان ابا ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل، ولا سيما لأولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلام، وصلوا وراءه، وجاهدوا معه، وبايعوه على السمع والطاعة.

      كما أنه يدرك بوعيه المضيء، ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس، ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم، أو عدالة الثروة، يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته.




      **




      ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حاملا لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلام وصاحبيه، أمينا عليها، حارسا لها.. وكان أستاذ في فن التفوق على مغريات الامارة والثروة،...

      عرضت عليه الامارة بالعراق فقال:

      " لا والله.. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"..

      ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:

      أليس لك ثوب غير هذا..؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟

      فأجابه أبو ذر: " يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني"..

      قال له: والله انك لمحتاج اليهما!!

      فأجاب أبو ذر: "اللهم اغفر له.. انك لمعظّم للدنيا، ألست ترى عليّ هذه البردة..؟؟ ولي أخرى لصلاة الجمعة، ولي عنزة أحلبها، وأتان أركبها، فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"..؟؟




      **




      وجلس يوما يحدّث ويقول:

      [أوصاني خليلي بسبع..

      أمرني بحب المساكين والدنو منهم..

      وأمرني أن أنظر الى من هو دوني، ولاأنظر الى من هو فوقي..

      وأمرني ألا أسأل أحد شيئا..

      وأمرني أن أصل الرحم..

      وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..

      وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..

      وأمرني أن أكثر من: لا حول ولا قوة الا بالله].



      ولقد عاش هذه الوصية، وصاغ حياته وفقها، حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته..



      ويقول الامام علي رضي الله عنه:

      "لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر"..!!

      عاش يناهض استغلال الحكم، واحتكار الثروة..

      عاش يدحض الخطأ، ويبني الصواب..

      عاش متبتلا لمسؤولية النصح والتحذير..

      يمنعونه من الفتوى، فيزداد صوته بها ارتفاعا، ويقول لمانعيه:

      " والذي نفسي بيده، لو وضعتم السيف فوق عنقي، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها"..!!






      والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الاقامة فيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه، فتعالوا بنا اليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع، ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.

      ان هذه السيدة السمراء الضامرة، الجالسة الى جواره تبكي، هي زوجته..

      وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟

      فتجيبه بأنها تبكي: " لأنك تموت، وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!

      ".. لا تبكي، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين..

      وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق منهم غيري .. وهأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق،، فستطلع علينا عصابة من المؤمنين، فاني والله ما كذبت ولا كذبت".

      وفاضت روحه الى الله..

      ولقد صدق..

      فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء، تؤلف جماعة من المؤمنين، وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله.

      وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت، والى جواره سيدة وغلام يبكيان..

      ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان، حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر.

      وتفيض عيناه بالدمع، ويقف على جثمانه الطاهر يقول:" صدق رسول الله.. نمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك".!

      ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها:" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...




      **




      كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.

      وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..

      وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..

      ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين، تعللوا بشتى المعاذير..

      وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة، فجعل الرجل يتخلف، ويقولون يا رسول الله تخلف فلان، فيقول:

      " دعوه.

      فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..

      وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!

      وتلفت القوم ذات مرة، فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:

      لقد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره..

      وأعاد الرسول مقالته الأولى..

      كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه..

      وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد، ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير..

      ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر، فنزل من فوق ظهر البعير، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه، مهرولا، وسط صحراء ملتهبة، كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..



      وفي الغداة، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا، بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..

      وقال الذي رأى: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق وحده..

      وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:

      (كن أبا ذر)..



      وعادوا لما كانوا فيه من حديث، ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم، وعندها يعرفون من هو..



      وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا، وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة، ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين..

      وحين بلغ أول القافلة، صاح صائهحم: يارسول الله: انه والله أبا ذر..

      وسار أبو ذر صوب الرسول.

      ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية، وقال:

      [يرحم الله أبا ذر..

      يمشي وحده..

      ويموت وحده..

      ويبعث وحده..].



      وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد، مات أبو ذر وحيدا، في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده، وبطولة صموده..



      ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة، لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!!
      </FONT>

    7. #7
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      خامسا زيد بن سهل الأنصاري :

      ==========================================================

      عرف زيد بن سهل النجاري المكنى بأبي طلحة، أن "الرميصاء بنت ملحان النجارية" المكناة بأم سليم قد غدت أيما بعد أن توفي عنها زوجها، فاستطار فرحا لهذا الخبر.

      و لا غرو فقد كانت أم سليم سيدة حصانا رزانا راجحة العقل مكتملة الصفات.

      فعزم على أن يبادر إلى خطبتها قبل أن يسبقه إليها أحد ممن يطمحون إلى أمثالها من النساء... و كان أبو طلحة على ثقة من أن أم سليم لن تؤثر عليه أحدا من طالبيها...

      فهو رجل مكتمل الرجولة مرموق المنزلة طائل الثروة...

      و هو إلى ذلك فارس بني "النجار"، و أحد رماة "يثرب" المعدودين.


      * * *



      مضى أبو طلحة إلى بيت أم سليم...

      و فيما هو في بعض طريقه تذكر أن أم سليم قد سمعت من كلام هذا الداعية المكي مصعب بن عمير، فآمنت بمحمد و اتبعت دينه.

      لكنه ما لبث أن قال في نفسه: و ما في ذلك؟... ألم يكن زوجها الذي توفى مستمسكا بدين آبائه، نائيا بجانبه عن محمد و دعوة محمد؟!.

      بلغ أبو طلحة منزل أم سليم، و استأذن عليها، فأذنت له، و كان ابنها أنس حاضرا، فعرض نفسه عليها... فقالت:

      "إن مثلك يا أبا طلحة لا يرد، و لكني لن أتزوجك فأنت رجل كافر..."

      فظن أبو طلحة أن أم سليم تتعلل عليه بذلك، و أنها قد آثرت عليه رجلا آخر أكثر منه مالا، أو أعز نفرا.

      فقال لها: "والله ما هذا الذي يمنعك مني يا أم سليم."

      قالت: "و ما الذي يمنعني إذن؟!."

      قال: "الأصفر و الأبيض... الذهب و الفضه..."

      قالت: "الذهب و الفضه؟!."

      قال: "نعم".

      قالت: "بل إني أشهدك يا أبا طلحة و أشهد الله و رسوله أنك إن أسلمت رضيت بك زوجا من غير ذهب و لا فضة، و جعلت إسلامك لي مهرا..."

      فما إن سمع أبو طلحة كلام أم سليم حتى انصرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه من نفيس الخشب، و خص به نفسه كما كان يفعل السادة من قومه.

      لكن أم سليم أرادت أن تطرق الحديد و هو ما زال حاميا فأتبعت تقول: "ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض؟!."

      فقال: "بلى".

      قالت: "أفلا تشعر بالخجل و أنت تعبد جذع شجرة جعلت بعضه لك إلها بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقودا له، يصطلي بناره أو يخبز عليه عجينه... إنك إن أسلمت – يا أبا طلحة – رضيت بك زوجا، و لا أريد منك صداقا غير الإسلام."

      قال: "و من لي بالإسلام؟."

      قالت: "أنا لك به."

      قال: "و كيف؟."

      قالت: "تنطق بكلمة الحق فتشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، ثم تمضي إلى بيتك فتحطم صنمك ثم ترمي به."

      فانطلقت أسارير أبي طلحة و قال: أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله... ثم تزوج من أم سليم...

      فكان المسلمون يقولون: ما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم... فقد جعلت صداقها الإسلام...



      * * *


      منذ ذلك اليوم انضوى أبو طلحة تحت لواء الإسلام، و وضع طاقاته الفذة كلها في خدمته...

      فكان أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بيعة العقبة و معه زوجه أم سليم.

      و كان أحد النقباء الاثني عشر الذين أمرهم الرسول عليه السلاه و السلام في تلك الليله على مسلمي "يثرب".

      ثم أنه شهد مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مغازيه كلها، و أبلى فيها أشرف البلاء و أعزه.

      لكن أعظم أيام أبي طلحة مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – إنما هو يوم "أحد".

      و إليك خبره في ذلك اليوم.



      * * *



      أحب أبو طلحة رسول الله – صلى الله عليه و سلم – حبا خالط شغاف قلبه، و جرى مجرى الدم من عروقه، فكان لا يشبع من النظر إليه، و لا يرتوي من الاستماع إلى عذب حديثه... و كان إذا بقي معه جثا بين يديه، و قال له:

      "نفسي لنفسك الفداء، و وجهي لوجهك الوقاء."

      فلما كان يوم "أحد" انكشف المسلمون عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فنفد إليه المشركون من كل جانب، فكسروا رباعيته، و شجوا جبينه، و جرحوا شفته، و أسالوا الدم على وجهه...

      و حتى إن المرجفين أرجفوا بأن محمدا قد قتل، فازداد المسلمون وهنا على وهن، و أعطوا ظهورهم لأعداء الله.

      عند ذلك لم يثبت مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – غير نفر قليل في طليعتهم أبو طلحة.



      * * *



      انتصب أبو طلحة أمام رسول الله صلوات الله عليه كالطواد الراسخ بينما وقف النبي عليه الصلاة و السلام خلفه يتترس به...

      ثم وتر أبو طلحة قوسه التي لا تفل، و ركب عليها سهامه التي لا تخطئ، و جعل يذود بها عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم - ، و يرمي جنود المشركين واحدا إثر واحد.

      و كان النبي عليه الصلاة و السلام يتطاول من خلف أبي طلحة ليرى مواقع سهامه، فكان يرده خوفا عليه و يقول له:

      "بأبي أنت و أمي، لا تشرف عليهم فيصيبوك...

      إن نحري دون نحرك و صدري دون صدرك، و جعلت فداك..."

      و كان الرجل من جند المسلمين يمر برسول الله – صلى الله عليه و سلم – هاربا و معه الجعبة من السهام، فينادي عليه النبي – صلى الله عليه و سلم – و يقول له:

      (انثر سهامك بين يدي أبي طلحه ولا تمض بها هاربا).

      و ما زال أبو طلحه ينافح عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – حتى كسر ثلاث أقواس، و قتل ماشاء الله أن يقتل من جنود المشركين.

      ثم انجلت المعركة، و سلم الله نبيه و صانه بصونه.


      * * *



      و كما كان أبو طلحة جواداً بنفسه في سبيل الله في ساعات البأس، فقد كان أكثر جوداً بماله في مواقف البذل...

      و من ذلك أنه كان له بستان من نخيل و أعناب لم تعرف "يثرب" بستانا أعظم منه شجرا، و لا أطيب ثمرا، و لا أعذب ماء.

      و فيما كان أبو طلحة يصلي تحت أفيائة الظليلة، أثار انتباهه طائر غرد أخضر اللون أحمر المنقار، مخضب الرجلين...

      وقد جعل يتواثب على أفنان الأشجار طربا مغردا متراقصا... فأعجبه منظره، و سبح بفكره معه...

      ثم ما لبث أن رجع إلى نفسه، فإذا هو لا يذكر كم صلى؟!...

      ركعتين... ثلاثا... لا يدري...

      فما أن فرغ من صلاته حتى غدا على رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و شكا له نفسه التي صرفها البستان، و شجره الوارف، و طيره الغرد عن الصلاة...

      ثم قال له: "اشهد يا رسول الله أني جعلت هذا البستان صدقة لله تعالى... فضعه حيث يحب الله و رسوله..."


      * * *


      عاش أبو طلحة حياته صائما مجاهدا...

      و مات كذلك صائما مجاهدا...

      فقد أثر عنه أنه بقي بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه و سلم – نحوا من ثلاثين عائما صائما لم يفطر إلا في أيام الأعياد حيث يحرم الصيام...

      و أنه امتدت به الحياة حتى غدا شيخا فانيا، لكن شيخوخته لم تحل دونه و دون مواصلة الجهاد في سبيل الله، و الضرب في فجاج الأرض إعلاء لكلمته، و إعزازا لدينه.

      من ذلك أن المسلمين عزموا على غزوة في البحر في خلافة عثمان بن عفان.

      فأخذ أبو طلحة يعد نفسه للخروج مع جيش المسلمين، فقال له أبناؤه:

      "يرحمك الله يا أبانا، لقد صرت شيخا كبيرا، و قد غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و أبي بكر و عمر، فهلا ركنت إلى الراحة، و تركتنا نغزو عنه."

      فقال: "إن الله عز و جل يقول: (انفروا خفافا و ثقالا). فهو قد استنفرنا جميعا... شيوخا و شبانا، و لم يحدد لنا سنا."

      ثم أبى إلا الخروج...



      * * *



      و بينما كان الشيخ المعمر أبو طلحة على ظهر السفينة مع جند المسلمين في وسط البحر، مرض مرضا شديدا فارق على إثره الحياة.

      فطفق المسلمون يبحثون له عن جزيرة ليدفنوه فيها، فلم يعثروا على مبتغاهم إلا بعد سبعة أيام، و أبو طلحة مسجى بينهم لم يتغير فيه شيء كأنه نائم.

      و في عرض البحر...

      بعيدا عن الأهل و الوطن...

      نائيا عن العشير و السكن...

      دفن أبو طلحة...

      و ماذا يضيره بعده عن الناس، مادام قريبا من الله عز و جل...
      </FONT>

    8. #8
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      سابعا أبو سفيان بن الحارث :

      ==========================================================

      أبو سفيان آخر، غير أبو سفيان بن حرب..

      وان قصته، هي قصة الهدى بعد الضلال.. والحب بعد الكراهية..

      والسعادة بعد الشقوة..

      هي قصة رحمة الله الواسعة حين تفتح أبوابها اللاجئ ألقى نفسه بين يدي الله بعد أن أضناه طول اللغوب..!!

      تصوّروا بعد عشرين عاما قضاها ابن الحارث في عداوة موصولة للاسلام..!!

      عشرون عاما منذ بعث النبي عليه السلام، حتى اقترب يوم الفتح العظيم، وأبو سفيان بن الحارث يشدّ أزر قريش وحلفائها، ويهجو الرسول بشعره، ولا يكاد يتخلف عن حشد تحشده قريش لقتال..!!

      وكان اخوته الثلاثة: نوفل، وربيعة، وعبدالله قد سبقوه الى الاسلام..

      وأبو سفيان هذا، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذ هو ابن الحارث بن عبدالمطلب..

      ثم هو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، اذ أرضعته حليمة السعدية مرضعة الرسول بضعة أيام..

      وذات يوم نادته الأقدار لمصيره السعيد، فنادى ولده جعفرا، وقال لأهله: انا مسافران..

      الى أين يا بن الحارث..

      الى رسول الله لنسلم معه لله رب العالمين..

      ومضى يقطع الأرض بفرسه ويطويها طيّ التائبين..

      وعند الأبواء أبصر مقدمة جيش لجب. وأدرك أنه الرسول قاصدا مكة لفتحها.

      وفكّر ماذا يصنع..؟

      ان الرسول قد أهدر دمه من طول ما حمل سيفه ولسانه ضد الاسلام، مقاتلا وهاجيا..

      فاذا رآه أحد من الجيش، فسيسارع الى القصاص منه..

      وان عليه أن يحتال للأمر حتى يلقي نفسه بين يدي رسول الله أولا، وقبل أن تقع عليه عين أحد من المسلمين..

      وتنكّر أبو سفيان بن الحارث حتى أخفى معالمه، وأخذ بيد ابنه جعفر، وسار مشيا على الأقدام شوطا طويلا، حتى أبصر رسول الله قادما في كوكبة من أصحابه، فتنحّى حتى نزل الركب..

      وفجأة ألقى بنفسه أمام رسول الله مزيحا قناعه فعرفه الرسول، وحو ل وجهه عنه، فأتاه أبو سفيان من الناحية أخرى، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم.

      وصاح أبو سفيان وولده جعفر:

      " نشهد أن لا اله الا الله

      ونشهد أن محمدا رسول الله".

      واقترب من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:

      " لا تثريب يا رسول الله"..

      وأجابه الرسول:

      " لا تثريب يا أبا سفيان.

      ثم أسلمه الى علي بن أبي طالب وقال له:

      " علم ابن عمّك الوضوء والسنة ورح به اليّ"..

      وذهب به علي ثم رجع فقال له الرسول:

      " ناد في الناس أن رسول الله قد رضي عن أبي سفيان فارضوا عنه"..

      لحظة زمن، يقول الله لها: كوني مباركة، فتطوي آمادا وأبعادا من الشقوة والضلال، وتفتح أبواب رحمة ما لها حدود..!!

      لقد كاد أبو سفيان يسلم، بعد أن رأى في بدر وهو يقاتل مع قريش ما حيّر لبّه..

      ففي تلك الغزوة تخلّف أبو لهب وأرسل مكانه العاص بن هشام..

      وانتظر أبو لهب أخبار المعركة بفارغ الصبر وبدأت الأنباء تأتي حاملة هزيمة قريش المنكرة..

      وذات يوم كان أبو لهب مع نفر من القرشيين يجلسون عند زمزم، اذ أبصروا فارسا مقبلا فلما دنا منهم اذا هو: أبو سفيان بن الحارث.. ولم يمهله أبو لهب، فناداه:" هلمّ اليّ يا بن أخي. فعندك لعمري الخبر.. حدثنا كيف كان أمر الناس"؟؟

      قال أبو سفيان بن الحارث:

      " والله ما هو الا أن أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا..

      وأيم الله ما لمت قريشا.. فلقد لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، بين السماء والأرض، ما يشبهها شيء، ولا يقف أمامها شيء"..!!

      وأبو سفيان يريد بهذا أن الملائكة كانت تقاتل مع الرسول والمسلمين..

      فما باله لم يسلم يومئذ وقد رأى ما رأى..؟؟

      ان الشك طريق اليقين، وبقدر ما كانت شكوك أبي الحارث عنيدة وقوية، فان يقينه يوم يجيء سيكون صلبا قويا..

      ولقد جاء يوم يقينه وهداه.. وأسلم لله رب العالمين..




      **




      ومن أولى لحظات اسلامه، راح يسابق الزمان عابدا، ومجاهدا، ليمحو آثار ماضيه، وليعوّض خسائره فيه..

      خرج مع الرسول فيما تلا فتح مكة من غزوات..

      ويوم حنين، حيث نصب المشركون للمسلمين كمينا خطيرا، وانقضوا عليهم فجأة من حيث لا يحتسبون انقضاضا وبيلا أطار صواب الجيش المسلم، فولّى أكثر أجناده الأدبار وثبت الرسول مكانه ينادي:

      " اليّ أيها الناس..

      أنا النبي لا كذب..

      انا ابن عبدالمطلب.."

      في تلك اللحظة الرهيبة، كانت هناك قلة لم تذهب بصوابها المفاجأة

      وكان منهم أبو سفيان بن الحارث وولده جعفر..

      ولقد كان أبو سفيان يأخذ بلجام فرس الرسول، وحين رأى ما رأى أدرك أن فرصته التي بحث عنها قد أهلت.. تلك أن يقضي نحبه شهيدا في سبيل الله، وبين يدي الرسول..

      وراح يتشبث بمقود الفرس بيسراه، ويرسل السيف في نحور المشركين بيمناه.

      وعاد المسلمون الى مكان المعركة حتى انتهت، وتملاه الرسول ثم قال:

      " أخي أبو سفيان بن الحارث..؟؟"

      ما كاد أبو سفيان يسمع قول الرسول " أخي"..

      حتى طار فؤاده من الفرح والشرف. فأكبّ على قدمي الرسول يقبلهما، ويغسلهما بدموعه.

      وتحرّكت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم الله عليه من شجاعة وتوفيق:

      لقد علمت أفناء كعب وعامر غداة حنين حين عمّ التضعضع

      بأني أخو الهيجاء، أركب حدّها أمام رسول الله لا أتتعتع

      رجاء ثواب الله والله راحم اليه تعالى كل أمر سيرجع




      **




      وأقبل لأبو سفيان بن الحارث على العبادة اقبلال عظيما، وبعد رحيل الرسول عن الدنيا، تعلقت روحه بالموت ليلحق برسول الله في الدار الآخرة، وعاش ما عاش والموت أمنية حياته..

      وذات يوم شاهده الناس في البقيع يحفر لحدا، ويسويّه ويهيّئه.. فلما أبدوا دهشتهم مما يصنع قال لهم:

      " اني أعدّ قبري"..

      وبعد ثلاثة أيام لا غير، كان راقدا في بيته، وأهله من حوله يبكون..

      وفتح عينيه عليهم في طمأنينة سابغة وقال لهم:

      " لا تبكوا عليّ، فاني لم أتنظف بخطيئة منذ أسلمت"..!!

      وقبل أن يحني رأسه على صدره، لوّح به الى أعلى، ملقيا على الدنيا تحيّة الوداع..!!


    9. #9
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      سابعا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه :
      ===========================================================
      عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

      " ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتاب بكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!!

      وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

      فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

      " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟

      **




      انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

      غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق..

      وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

      وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

      وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

      ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

      وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة..

      وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

      ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

      وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم:

      " ان الأشعريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة.

      " فهم مني.. وانا منهم"..!!

      ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..




      **




      أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

      فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

      وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

      وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل:

      " قضاة هذه الأمة أربعة:

      " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!

      وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

      وكبير الثقة بالناس..

      لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة:

      " الاخلاص وليكن ما يكون"..

      في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه:

      " سيّد الفوارس، أبو موسى"..!!

      وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

      " خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!

      وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

      فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد..



      ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

      بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

      ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!




      **




      وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

      وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

      ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

      واتقى الجيشان..

      جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

      وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

      وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

      وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

      ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

      واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..




      **




      على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور...

      يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

      " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!

      كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

      " شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..

      كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

      أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.


      و كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...

      ففي حياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

      وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليحمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

      وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

      وولاه الخليفة عثمان الكوفة..




      **




      وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا..

      ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

      " اتبعوا القرآن..

      ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!

      وكان من اهل العبادة المثابرين..

      وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

      " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..




      **




      وذات يوم رطيب جاءه أجله..

      وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه..

      والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.

      تلك هي:

      " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...
      </FONT>

    10. #10
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      ثامنا سعد بن عبادة :

      ============================


      يذكر سعد بن معاذ الا ويذكر معه سعد بن عبادة..

      فالاثنان زعيما أهل المدينة..

      سعد بن معاذ زعيم الأوس..

      وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..
      وكلاهما أسلم مبكرا، وشهد بيعة العقبة، وعاش الى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا، ومؤمنا صدوقا..

      ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!

      لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها، ويقطنون مكة..

      أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها، فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..

      وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا، وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر، علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى الهجرة الى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..

      وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون، وربطوا يديه الى عنقه بشراك رحله وعادوا به الى مكة، حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!

      أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟

      زعيم المدينة، الذي طالما أجار مستجيرهم، وحمى تجارتهم، وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم الى المدينة ذاهب..؟؟

      لقد كان الذين اعتقلوه، والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..

      ولكن، أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟

      ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟

      ان قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة، ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق، فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..

      أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..

      ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:

      ".. فوالله اني لفي أيديهم اذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء، أبيض، شعشاع من الجمال..

      فقلت في نفسي: ان يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا.

      فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..

      فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير..!!

      فوالله اني لفي أيديهم يسحبونني اذ أوى اليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، اما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟

      قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..

      قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعلت..

      وخرج الرجل اليهما، فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما، ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..

      فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..

      فقالا: صدقا والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم".



      غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل، يدعون الى الخير، والحق والسلام..

      ولقد شحذ هذا العدوان، وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصحاب والاسلام..




      **




      ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..

      وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..

      كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..

      فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..

      ولقد صار جود سعد في الاسلام آية من آيات ايمانه القوي الوثيق..

      قال الرواة عن جوده هذا:

      " كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى اله عليه وسلم في بيوته جميعا"..

      وقالوا:

      " كان الرجل من الأنصار ينطلق الى داره، بالواحد من المهاجرين، أو بالاثنين، أو بالثلاثة.

      وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!

      من أجل هذا، كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خيره ورزقه..

      وكان يقول:

      " اللهم انه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه"..!!

      ومن أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:

      " اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..




      **




      ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الاسلام الحنيف، بل وضع قوته ومهارته..

      فقد كان يجيد الرمي اجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.

      يقول ابن عباس رضي الله عنهما:

      " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..

      مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..

      ومع سعد بن عبادة، راية الأنصار"..




      **




      ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..

      فهو شديد في الحق..

      وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..

      واذا اقتنع بأمر نهض لاعلانه في صراحة لا تعرف المداراة، وتصميم لا يعرف المسايرة..

      وهذه الشدة،هي التي دفعت زعيم الأنصار الكبير الى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..




      **




      فيوم فتح مكة، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..

      ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:

      " اليوم يوم الملحمة..

      اليوم تستحل الحرمة"..

      وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:

      " يا رسول الله..

      اسمع ما قال سعد بن عبادة..

      ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..

      فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه، ويأخذ الراية منه، ويتأمّر مكانه..

      ان سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الاسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين، وعليه هو ذات يوم..
      وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله الا الله، فدفعته شدّته الى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..





      **




      ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا، كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..

      فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه، وممعن في الاصرار على صراحته ووضوحه..

      ويدلنا على هذه السجيّة فيه، موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..

      فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين، راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم، وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الاسلام من قريب، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التألف، كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.

      وأما أولو الاسلام المكين، فقد وكلهم الى اسلامهم، ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..

      كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجرّد عطائه، شرفا يحرص عليه جميع الناس..

      وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..

      وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟

      وقال شاعرهم حسان بن ثابت:

      وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن

      للمؤمنين اذا ما عدّد البشر

      علام تدعى سليم، وهي نازحة

      قدّام قوم، هموا آووا وهم نصروا

      سمّاهم الله الأنصار بنصرهم

      دين الهدى، وعوان الحرب تستعير

      وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

      للنائبات، وما جاموا وما ضجروا

      ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار، اذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولم يعطهم شيئا.

      ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر، فلم يرضه هذا الموقف، واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة، وذهب من فوره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

      " يا رسول الله..

      ان هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..

      قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..

      هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه، وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..

      وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:

      " وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟

      أي اذا كان هذا رأي قومك، فما رايك أنت..؟؟

      فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:

      " ما أنا الا من قومي"..

      هنالك قال له النبي:" اذن فاجمع لي قومك"..

      ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة الى نهايتها، فان لها روعة لا تقاوم..!

      جمع سعد قومه من الأنصار..

      وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..

      ثم قال:

      " يا معشر الأنصار..

      مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟

      ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟

      وعالة، فأغناكم الله..؟

      وأعداء، فألف الله بين قلوبكم..؟؟"

      قالوا:

      " بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..

      قال الرسول:

      ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟

      قالوا:

      بم نجيبك يا رسول الله..؟؟

      لله ولرسوله المن والفضل..

      قال الرسول:

      أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم:

      أتيتنا مكذوبا، فصدّقناك..

      ومخذولا، فنصرناك...

      وعائلا، فآسيناك..

      وطريدا، فآويناك..

      أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم الى اسلامكم..؟؟

      ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله الى رحالكم..؟؟

      فوالذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..

      ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..

      اللهم ارحم الأنصار..

      وأبناء الأنصار..

      وأبناء أبناء الأنصار"...!!

      هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.

      فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما، وأرواحهم ثراء، وأنفسهم عافية..

      وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:

      " رضينا برسول الله قسما وحظا"..




      **



      و بعد سنين, شدّ رحاله الى الشام..

      وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله، وأفضى الى جوار ربه الرحيم..


      </FONT>

    11. #11
      التسجيل
      25-12-2004
      المشاركات
      90
      المواضيع
      2
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      جزاك الله خير

    12. #12
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      تاسعا أبو هريرة :

      ============================

      صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..

      وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!

      والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..

      فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..

      كان رضي الله عنه يجيد فنّ الاصغاء، وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان..
      يسمع فيعي، فيحفظ، ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر، وتعاقبت الأيام..!!

      من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه، وبالتالي أكثرهم رواية لها.



      فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤول. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.

      هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه، وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!!




      **




      والآن.. عندما نسمع واعظا، أو محاضرا، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".

      أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة، أ، عندما تلقاه كثيرا، وكثيرا جدّا في كتب الحديث، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة، فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء..

      ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة، والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام، قلّ أن يوجد لها نظير..

      وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة، وهذه الثروة، لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والى التحليق بك، اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس، في تاك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه، تعطي الحياة معناها، وتهدي اليها رشدها ونهاها.

      واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ، فدونك الآن وما تريد..

      انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.

      فمن أجير الى سيّد..

      ومن تائه في الزحام، الى علم وامام..!!

      ومن ساجد أمام حجارة مركومة، الى مؤمن بالله الواحد القهار..

      وهاهو ذا يتحدّث ويقول:

      " نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!

      كنت أخدمهم اذا نزلوا، وأحدو لهم اذا ركبوا..

      وهأنذا وقد زوّجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة اماما"..!

      قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر، فأسلم راغبا مشتاقا..

      ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم..

      وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى.

      نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة، ممتلئة بكل صالح من القول، والعمل، والاصغاء.




      **




      أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.

      ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..

      والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.

      ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.

      ففي تلك العصور، وكانت الجماعة الانسانية كلها، لا العرب وحدهم، لا يهتمون بالكتابة، ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..

      بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.

      وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون، مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..




      **




      نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه، كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.

      لم يكن أبا هريرة كاتبا، ولكنه كان حافظا، وكان يملك هذا الفراغ، أو هذا الفراغ المنشود، فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!

      وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا، عزم على أن يعوّض ما فاته، وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..

      ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه، وهي ذاكرته الرحبة القوية، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..

      فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله لللأجيال..؟؟

      أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه، وعليه أن يقوم به في غير توان..




      **




      ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون، ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..

      ولم تكن له أرض يزرعها، ولا تجارة تشغله، ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..

      وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..

      فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، راح أبو هريرة يحدث، مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الحاديث، ومتى سمعها ووعاها..

      ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة، وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:

      " انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..

      وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟

      ألا ان أصحابي من المهاجرين، كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق، وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..

      واني كنت أميرا مسكينا، أكثر مجالسة رسول الله، فأحضر اذا غابوا، وأحفظ اذا نسوا..

      وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثزبي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..

      وأيم والله، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، وهي:

      ( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".





      هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

      فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..

      وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية، باركها الرسول فزادت قوة..

      وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث، بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته، والا كان كاتما للخير والحق، وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..

      من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث، لا يصدّه عن الحديث صادّ، ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:

      " لتتركنّ الحديث عن رسول الله،أو لألحقنك بأرض دوس"..

      أي أرض قومه وأهله..

      على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة، بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها، تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا، وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..

      فالقرآن كتاب الله، ودستور الاسلام، وقاموس الدين، وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام، والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..

      من أجل هذا كان عمر يقول:

      " اشتغلوا بالقرآن، فان القرآن كلام الله"..

      ويقول:

      " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به"..

      وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له:

      " انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالحديث، وأنا شريكك في ذلك"..

      كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..

      اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر، أو تخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل من الاسلام..

      وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر، ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته، وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار.

      وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال..




      **




      على أن هناك سببا هامّا، كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.

      ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف، ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.




      **




      أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ، فدعاه اليه وأجلسه معه، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أجلس كاتبه وراء حجاب، وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..

      وبعد مرور عام، دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها، فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!

      وكان يقول عن نفسه:

      " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فانه كان يكتب، ولا أكتب"..

      وقال عنه الامام الشافعي أيضا:

      " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".

      وقال البخاري رضي الله عنه:

      " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..

      وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه، وتقوم زوجته ثلثه، وتقوم ابنته ثلثله. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!

      وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..

      وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..!

      ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..

      كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم..

      ليس ذلك وحسب، بل كانت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..

      وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، فانفضّ عنها باكيا محزونا، وذهب الى مسجد الرسول..



      ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:

      ".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي، واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام..

      فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..

      فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله، فلما أتيت الباب اذا هو مجاف، أي مغلق، وسمعت خضخضة ماء، ونادتني يا أبا هريرة مكانك..

      ثم لبست درعها، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأِهد أن محمدا عبده ورسوله..

      فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، وقلت: أبشر يا رسول الله، فقد أجاب الله دعوتك..

      قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام..

      ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات..

      فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة"..




      **




      وعاش أبو هريرة عابدا، ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.

      وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.

      وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.

      اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين، فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!!

      أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء، فآنئذ لا يفلت من حساب عمر، مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!



      دنيا أخرى.. ملاءها همر روعة واعجازا..!!

      وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا، من مصادره الحلال، وعلم عمر فدعاه الى المدينة..



      ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:

      " قال لي عمر:

      يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت مال الله..؟؟

      قلت:

      ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه،.. لكني عدو من عاداهما..

      ولا أنا من يسرق مال الله..!

      قال:

      فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟

      قلت:

      خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت..

      قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!!

      ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال:

      اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..



      وبعد حين دعا عمر أبا هريرة، وعرض عليه الولاية من حديد، فأباها واعتذر عنها..

      قال له عمر: ولماذا؟

      قال أبو هريرة:

      حتى لا يشتم عرضي، ويؤخذ مالي، ويضرب ظهري..

      ثم قال:

      وأخاف أن أقضي بغير علم

      وأقول بغير حلم..




      **




      وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..

      وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه، كان هو يلحّ على الله قائلا:

      " اللهم اني أحب لقاءك، فأحب لقائي"..

      وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.

      وبين ساكني البقيع الأبرار يتبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..

      وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.

      ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:

      لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟



      فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:

      لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، ولما أسلك سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان، وكانت له هرة، يطعمها، ويحملها، وينظفها، ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..

      وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..

      </FONT>

    13. #13
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      عاشرا سعد بن معاذ :

      =============================


      العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم..

      وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
      وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..

      **




      انظروا..

      أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟

      انه هو..

      يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة ليرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام..

      أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!




      **




      ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..

      ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..

      وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

      وبإسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع محمد لله رب العالمين..!!

      أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..

      وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!




      **




      وتجيء غزوة بدر..

      ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.

      وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:

      " أشيروا عليّ أيها الناس.."

      ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:

      " يا رسول الله..

      لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..

      فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك..

      ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..

      انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء..

      ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...

      فسر بنا على بركة الله"...




      **




      أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:

      " سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم"..

      وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..

      لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..




      **




      وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..

      وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..

      فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين..

      واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..

      وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..

      وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..

      واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..

      ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.

      وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..

      فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لهم:

      " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!




      **




      عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..

      وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..

      واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه..




      **




      قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب..

      وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال:

      " يا رسول الله..

      أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟

      قال الرسول:

      " بل أمر أختاره لكم..

      والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما"..

      وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان..

      هنالك قال:

      " يا رسول الله..

      قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أو، بيعا..

      أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟

      والله ما لنا بهذا من حاجة..

      ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!

      وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..




      **




      وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..

      والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..

      ولبس المسلمون لباس الحرب.

      وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:

      لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل

      وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين..

      وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..

      وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..

      ورفع سعد بصره الى السماء وقال:

      " اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..

      وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..

      ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!




      **




      لك الله يا سعد بن معاذ..!

      فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟

      ولقد استجاب الله دعاءه..

      فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..

      ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..

      ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة..

      ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..

      هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.

      وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..

      ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..




      **




      أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ

      من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..

      جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض..

      وقال له الرسول:

      " يا سعد احكم في بني قريظة".

      وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت المدينة تهلك فيها بأهلها..

      وقال سعد:

      " اني أرى أن يقتل مقاتلوهم..

      وتسبى ذراريهم..

      وتقسّم أموالهم.."

      وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..




      **




      كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة..

      وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:

      " اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!

      وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..

      فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:

      " السلام عليك يا رسول الله..

      أما اني لأشهد أنك رسول الله"..

      وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:

      " هنيئا لك يا أبا عمرو".




      **




      يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:

      " كنت ممن حفروا لسعد قبره..

      وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد"..

      وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..

      ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:

      " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ"..


      </FONT>

    14. #14
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      11/ أبو الدرداء :



      بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

      " ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوّكم، فترضبوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
      وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:

      " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟

      ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:

      " ذكر الله...

      ولذكر الله أكبر"..




      **




      لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية، ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...

      أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل، وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، حتى جاء نصر الله والفتح..

      بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ، كلما خلا الى التأمل، وأوى الى محراب الحكمة، ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟

      ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..



      واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا، فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم، هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..

      وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه، وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم، ورشد، وعظمة..

      ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..

      ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).

      أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!




      **




      والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟

      ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟

      انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..

      ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!

      سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:

      " التفكر والاعتبار".

      أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:

      (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...

      وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:

      " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..

      لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..



      ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..

      بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..

      ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:

      " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..

      وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..

      فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.

      وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..

      ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..

      ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!



      أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟

      انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟

      يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..

      لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..



      لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله، والحقيقة في مشرقها، ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى، ومحظورات تترك، لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...

      فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...



      ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام، ويكفوا بها حاجات المسلمين..

      ولكن منهج هؤلاء الأصحاب، لا يغمز منهج أبو الدرداء، كما أن منهجه لا يغمز منهجهم، فكل ميسّر لما خلق له..



      وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..

      التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه، ورسوله والاسلام..

      سمّوه ان شئتم تصوّفا..

      ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن، وقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، ما جعل تصوّفه حركة حيّة في لبناء الروح، لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!



      أجل..

      ذلك هو أبو الدرداء، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..

      وذلكم هو أبو الدرداء، الحكيم، القدّيس..

      ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه، وزادها بصدره..

      رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..

      سعداء، أولئك الذين يقبلون عليه، ويصغون اليه..

      ألا تعالوا نفقترب من حكمته يا أولي الألباب..

      ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..

      انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:

      ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...

      ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:

      " ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى"..

      ويقول عليه السلام:

      " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت الدنيا أكبر همّه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله اليه بكل خير أسرع".

      من أجل ذلك، كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:

      " اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..

      سئل:

      وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟

      فأجاب:

      أن يكون لي في كل واد مال"..!!

      وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء، فذلك شر ألوان العبودية والرّق.

      هنالك يقول:

      " من لم يكن غنيا عن الدنيا، فلا دنيا له"..

      والمال عنده وسيلة للعيش القنوع تامعتدل ليس غير.

      ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال، وأن يكسبوه في رفق واعتدال، لا في جشع وتهالك.

      فهو يقول:

      " لا تأكل الا طيّبا..

      ولا تكسب الا طيّبا..

      ولا تدخل بيتك الا طيّبا".

      ويكتب لصاحب له فيقول:

      ".. أما بعد، فلست في شيء من عرض الدنيا، والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:

      اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله، فيسعد بما شقيت به..

      واما ولد عاص، يعمل فيه بمعصية الله، فتشقى بما جمعت له،

      فثق لهم بما عند الله من رزق، وانج بنفسك"..!



      كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..

      عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه، وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":

      قال له:

      " يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟

      فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:

      ويحك يا جبير..

      ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..

      بينما هي أمة، ظاهرة، قاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت الى ما ترى"..!

      أجل..



      وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..

      ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!




      **




      وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..

      دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..

      فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."

      فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:

      " ان دارنا هناك..

      لها نجمع.. واليها نرجع..

      نظعن اليها. ونعمل لها"..!!

      وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..

      خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.

      وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:

      " ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..

      أين دينها منها يومئذ"..؟!

      هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..

      وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..

      وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..

      فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..

      وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..

      وانه ليقول:

      " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..

      وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..

      وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..

      وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..

      وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

      فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:

      " يا أهل الشام..

      أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..

      ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟

      تجمعون ما لا تأكلون..

      وتبنون ما لا تسكنون..

      وترجون ما لا تبلّغون..

      وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..

      ويؤمّلون، فيطيلون..

      ويبنون، فيوثقون..

      فأصبح جمعهم بورا..

      وأماهم غرورا..

      وبيوتهم قبورا..

      أولئك قوم عاد، ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".

      ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:

      " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!



      رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!

      العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:

      انه يقول:

      التمسوا الخير دهركم كله..

      وتعرّضوا لنفجات رحمة الله، فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..

      " وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"...

      كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.

      هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..

      فلنستمع له ما يقول:

      " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..

      ويقول أيضا:

      "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..

      ولا تحاسبوهم دون ربهم

      عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!

      انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.

      عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.

      هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟

      يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:

      " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟

      قالوا بلى..

      قال: فلا تسبّوه اذن، وحمدوا الله الذي عافاكم.

      قالوا: أنبغضه..؟

      قال: انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!




      **




      واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..

      ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم، ويقدّسه كعابد فيقول:

      " لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..

      ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".

      أجل..

      فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..

      ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..

      ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..

      ها هو ذا يقول:

      " مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..

      ويقول أيضا:

      " الناس ثلاثة..

      عالم..

      ومتعلم..

      والثالث همج لا خير فيه".



      وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.

      يقول:

      " ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟؟

      فأقول نعم..

      فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟

      وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا، بل كان يدعو ربّه ويقول:

      " اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."

      قيل له:

      وكيف تلعنك قلوبهم؟

      قال رضي الله عنه:

      " تكرهني"..!

      أرأيتم؟؟

      انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..



      وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا، وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:

      " معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟

      أعط أخاك ولن له..

      ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.

      غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..

      وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟

      ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..

      يقول رضي الله عنه وأرضاه:

      " اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!

      يل لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!

      انه يحذّر الناس من خداع الوهك، حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم، ومن بأسهم..!

      ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم، ويطرحون بين يديه قضيتهم، وهو أنهم على الناس..!!

      هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!

      هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..

      هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء، أجابهم في تواضع وثيق قائلا:

      " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!
      </FONT>

    15. #15
      التسجيل
      24-02-2005
      الدولة
      الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
      المشاركات
      3,874
      المواضيع
      319
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

      12/ سلمان الفارسي :


      من بلاد فارس، يجيء البطل هذه المرة..

      ومن بلاد فارس، عانق الإسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في الإيمان، وفي العلم.. في الدين، وفي الدنيا..



      وإنها لإحدى روائع الإسلام وعظائمه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله اا ويثير في إعجاز باهر، كل نبوغها ويحرّك كل طاقاتها، ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فإذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسلمون..

      وإذا بهم يبزغون من كل أفق، ويطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الإسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل، والإرادة، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..!!

      ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا، بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الإسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابها..

      وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.



      كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. إذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.

      ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..!

      وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.

      وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.

      وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:

      (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا).



      أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه..

      وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الإسلام خطرا عليها.

      إنها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح..

      ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..

      وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..

      وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟

      هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.



      تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.

      وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.

      والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها..

      ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل إلى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!




      **




      خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..

      كان سلمان قوي البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!

      وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.

      وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..

      وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلا عن مرمى الشظايا..

      وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فإذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.

      ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها، أي يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:

      "الله أكبر..أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وان أمتي ظاهرة عليها"..



      ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت الظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا:

      "الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصورها الحمراء، وإن أمتي ظاهرة عليها".



      ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون في إيمان عظيم:

      هذا ما وعدنا الله ورسوله..

      وصدق الله ورسوله..!!



      كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما إلى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مدائن الفرس والروم..

      رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..

      رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!!




      **




      وها هو ذا، جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى النصرانية، ثم إلى الاسلام..

      كيف غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقله وروحه..!!!

      كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟

      كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام.. وكيف آمن به..؟؟

      تعالوا نقترب من مجلسه الجليل، ونصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه..




      **




      [كنت رجلا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها "جي"..

      وكان أبي دهقان أرضه.

      وكنت من أحب عباد الله إليه..

      وقد اجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها، ولا نتركها نخبو..

      وكان لأبي ضيعة، أرسلني إليها يوما، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري...

      وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا في الشام..

      وقلت لأبي حين عدت اليه: اني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..

      فحاورني وحاورته.. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني..

      وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم الى الشام..

      وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي هو الأسقف، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي وأتعلم..

      وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، اذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه.

      ثم مات..

      وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه، ولا أعظم منه رغبة في الآخرة، وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة..

      وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى، فبم تأمرني وإلى من توصي بي؟؟

      قال: أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل..

      فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..

      ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين ابراهيم حنيفا.. يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل.

      وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.



      ومر بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟.. قالوا: نعم.

      واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني، وباعوني إلى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.

      وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو إلا ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..

      وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.

      وإني لفي رأس نخلة يوما، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة يزعم أنه نبي..

      فوالله ما إن قالها حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟

      فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا..؟

      أقبل على عملك..

      فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به..

      ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا..

      فقلت في نفسي: هذه والله واحدة .. إنه لا يأكل الصدقة..!!

      ثم رجعت وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعاما، وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله..

      وأكل معهم..

      قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. إنه يأكل الهدية..!!

      ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي..

      فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن..

      ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..

      وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" كاتب سيدك حتى يعتقك"، فكاتبته، وأمر الرسول أصحابه كي يعاونوني. وحرر الله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق، والمشاهد كلها.
      هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.




      **




      بهذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله، وترسم له دوره في الحياة..

      فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان..؟

      أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة، وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟

      أي تبتل للحقيقة.. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعا مختارا من ضياع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه، ومشاقه، ينتقل من أرض إلى أرض.. ومن بلد إلى بلد.. ناصبا، كادحا عابدا.. تفحص بصيرته الناقدة الناس، والمذاهب والحياة.. ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا.. ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمون يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدلا..؟!!




      **




      ماذا نتوقع أن يكون إسلام رجل هذه همته، وهذا صدقه؟

      لقد كان إسلام الأبرار المتقين.. وقد كان في زهده، وفطنته، وورعه أشبه الناس بعمر ابن الخطاب.

      أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.

      وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه عن الصوم، وكان نافلة..

      فقال له أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له..؟ّ

      فأجابه سلمان قائلا:

      إن لعينيك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، صم وأفطر، وصل ونم..

      فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:

      " لقد أشبع سلمان علما ".

      وكان الرسول عليه السلام يطرى فطنته وعلمه كثيرا، كما كان يطري خلقه ودينه..

      ويوم الخندق، وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. ووقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..

      وناداهم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البيت".



      وإنه بهذا الشرف لجدير..

      وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال:

      [ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟

      أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف].

      ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.

      ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا، إذ جمع أصحابه وقال لهم:

      "هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!

      وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.

      لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا.

      وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.

      وفي معظم هذه السنوات، كانت رايات الاسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال تحمل إلى المدينة فيئا وجزية، فتوزع على الناس في صورة أعطيات منتظمة، ومرتبات ثابتة.

      وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..

      فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟




      **




      افتحوا ابصاركم جيدا..

      أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟

      إنه سلمان..

      انظروه جيدا..

      انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد إلى ركبته..

      إنه هو، في جلال مشيبه، وبساطة إهابه.

      لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه جميعا، ويرفض أن يناله منه درهم واحد، ويقول:

      "أشتري خوصا بدرهم، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!




      **




      ثم ماذا يا أتباع محمد..؟

      ثم ماذا يا شرف الإنسانية في كل عصورها وواطنها..؟؟

      لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم، مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر وإخوانهم، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..

      فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية، ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟

      ما باله يرفض الإمارة ويهرب منها ويقول:

      "إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".

      ما باله يهرب من الإمارة والمنصب، إلا أن تكون إمارة على سريّة ذاهبة إلى الجهاد.. وإلا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه، فيكره عليها إكراها، ويمضي إليها باكيا وجلا..؟

      ثم ما باله حين يلي على الامارة المفروضة عليه فرضا يأبى أن يأخذ عطاءها الحلال..؟؟

      روى هشام عن حسان عن الحسن:

      " كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها.."

      "وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من عمل يديه..".

      ما باله يصنع كل هذا الصنيع، ويزهد كل ذلك الزهد، وهو الفارسي، ابن النعمة، وربيب الحضارة..؟

      لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.

      دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..

      قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".

      فأجابه سلمان:

      " والله ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا، فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهأنذا حولي هذه الأساود"!!



      يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!

      قال سعد فنظرت، فلم أرى حوله إلا جفنة ومطهرة، فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك، فقال:

      " يا سعد:

      اذكر عند الله همّتك إذا هممت..

      وعند حكمتك إذا حكمت..

      وعند يدك إذا قسمت.."



      هذا هو إذن الذي ملأ نفسه غنى، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها، ومناصبها وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وإلى أصحابه جميعا: ألا يدعو الدنيا تتملكهم، وألا يأخذ أحدهم منها إلا مثل زاد الركب..

      ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل، مخافة أن يكون قد جاوز المدى.

      ليس حوله إلا جفنة يأكل فيها، ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..

      ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟



      وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن، لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الإمارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس إلا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..

      وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..

      كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه، فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم، حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله، حتى إذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..

      وأشار للرجل فأقبل عليه، وقال له الشامي: احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.

      وإذ هما على الطريق بلغا جماعة من الناس، فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام..

      وعلى الأمير السلام..؟

      أي أمير يعنون..؟!!

      هكذا سأل الشامي نفسه..

      ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:

      عنك أيها الأمير..!!

      فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي، فسقط في يده، وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه، واقترب ينتزع الحمل. ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:

      " لا، حتى أبلغك منزلك"..!!




      **




      سئل يوما: ما الذي يبغض الإمارة إلى نفسك.؟

      فأجاب: " حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها"..

      ويدخل عليه صاحبه يوما بيته، فإذا هو يعجن، فيسأله:

      أين الخادم..؟

      فيجيبه قائلا:

      " لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.."



      وحين نقول بيته فلنذكر تماما، ماذا كان ذاك البيت..؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا، سأل البنّاء: كيف ستبنيه..؟

      وكان البنّاء حصيفا ذكيا، يعرف زهد سلمان وورعه.. فأجابه قائلا:" لا تخف.. إنها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"..!

      فقال له سلمان: "نعم هكذا فاصنع".



      لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن إليه سلمان لحظة، أو تتعلق به نفسه أثارة، إلا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص، ولقد ائتمن عليه زوجته، وطلب إليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.

      وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه، ناداها:

      "هلمي خبيّك التي استخبأتك"..!!

      فجاءت بها، وإذا هي صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.

      ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه، ثم ماثه بيده، وقال لزوجته:

      "انضحيه حولي.. فإنه يحضرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام، وإنما يحبون الطيب".

      فلما فعلت قال لها:" اجفئي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرها به..

      وبعد حين صعدت إليه، فإذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.

      قد لحقت بالملأ الأعلى، وصعدت على أجنحة الشوق إليه، إذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد، وصاحبيه أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.




      **




      لطالما برّح الشوق الظامئ بسلمان..

      وآن اليوم أن يرتوي، وينهل..
      </FONT>

    صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •