مستقبل الارهاب السياسي: رهين باتجاهات النظام السياسي العالمي: بقلم - د. محمد وقيع الله
الارهاب السياسي ظاهرة قديمة قدم الظاهرة السياسية ترافقت معها وتطورت بتطورها.. فقط لان الارهاب يبدو في اشكال مبتكرة, وتنقضُّ احداثه بشكلٍ صاعق, يعتقد البعض انه ظاهرة مستحدثة ويمكن القول ان اشكال الارهاب السياسي هي المستحدثة اما مضامينه واهدافه فهي قديمة قدم العمل السياسي . رغم ان الارهاب السياسي قد خلّف تراثا متراكما عبر التاريخ, الا ان تحديد تعريف قاطع له مازال امرا متعذرا. ومازال التعريف يتسع ويضيق تبعا لاعتقادات صاحبه, ولموقعه السياسي. فبعض التعريفات تأخذ بالحدّ القانوني الظاهري, فتوصّف الارهاب بأنه (الاستخدام غير القانوني للقوة والعنف ضد البشر او ممتلكاتهم, بغرض اجبار الحكومة, او المجتمع على تحقيق اهداف سياسية او اجتماعية معينة), وهذا هو تعريف مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي (F.B-I) للارهاب, وهو تعريف تبسيطي مشتق من الطبيعة القانونية لعمل ذلك المكتب. اما التعريفات الاخرى فهي تنظر الى الجانب الاخلاقي او اللااخلاقي في الموضوع, بمعنى انها تركز على دوافع الارهابيين وهل هي مجرد تفزيع الناس, وترويعهم, وابتزازهم, ونهب ممتلكاتهم, وقتلهم, واثارة الفوضى في المجتمع, وهزّ الحكومات ام ان هنالك دوافع تحريرية تناهض الاحتلال الاجنبي, او الظلم الاقتصادي, او العنصري في المجتمع.. وهذا هو المشكل الاكبر الذي يمنع الوصول الى اي اتفاق عالمي حول مفهوم الارهاب السياسي, فالعوامل الذاتية لا الموضوعية هي التي تتحكم في ضبط التعريف. واغلب الادبيات الغربية, الصحفية والاكاديمية سواء, لا تميز بين حركات التحرير والحركات الارهابية, وتقوم بادراج حركات التحرير ضمت الحركات الارهابية تبعا للاختلاف السياسي مع توجهات تلك الحركات, واحيانا يصفون حركة ما بأنها حركة تحرير وطني, ثم ينقلبون عليها لينقلونها الى دائرة الحركات الارهابية. فحركات الجهاد الافغاني مثلا, كانت حركات تحرير وطني في نظر الاعلام الامريكي طوال الثمانينات, ولكنها اضحت منذ سنوات هي ام الحركات الارهابية في العالم في نظر المراقبين الامريكيين, وهي اول ما اشاروا اليه باصبع الاتهام بخصوص تفجيرات نيروبي ودار السلام الاخيرة.
وحركة يمثل المؤتمر الوطني الافريقي بقيادة مانديلا كانت حركة ارهابية في المنظور الامريكي وذلك الى ان تمكنت من تحقيق اهدافها, وحررت جنوب افريقيا من حكم البيض, وحينذاك فقط اعترف بها كحركة تحرير, بل كحزب حاكم, وعوملت, كما عومل زعيمها بأقصى حد من الاحترام, والغريب ان ذلك التحول كله تم خلال اقل من عام! ومن ناحية اخرى فان اكثر علماء السياسة والصحفيين ينزعون صفة الارهاب عن حركات ارهابية عريقة, ويُضْفُون عليها صفة الحركات التحريرية, شأن حركات المعارضة الكوبية التي نفذت وتبنّت تنفيذ التفجيرات في فنادق هافانا في العام الماضي. وفي امريكا حركات ارهابية كثيرة تعمل لخلخلة انظمة سياسية معادية لامريكا, وتجمع التبرعات علنا في المدن الكبرى, وتحظى احيانا برعاية رسمية او شبه رسمية, ويقابل زعماؤها زعماء الكونجرس, ويتحدثون الى الاعلام عما نفذوا من هجمات ارهابية, تعتبر في عرف الجميع حتى الآن حركات نضال وطني! وهناك حركة ارهاب لا ينزع عنها الامريكيون صفة الارهاب, ولكنهم يعتبرونها حركة (ظريفة) , او (متحضرة) , ويتعاملون معها وكأنها تنظيم سياسي مشروع, ولولا انها توجه ارهابها ضد حلفاء امريكا من الانجليز, لربما اعتبروها حركة تحرير وطني.. وتلك هي حركة الجيش السري الجمهوري الايرلندي, التي يهز السناتور كينيدي الاجتماعات الضخمة التي يعقدها رئيس جناحها السياسي في بوسطن وغيرها من الموت التي تتركز فيها تجمعات الامريكيين المنحدرين من اصل ايرلندي!
هذا التعامل الانتقائي مع حركات الارهاب والتحرير هو الذي يمنع من رسم الحد الفاصل بين حركات النضال الوطني والارهاب. ولكن الانسان المتجرد يستطيع ان يرى ذلك الخط بوضوح, ويميز ما بين النضال الوطني والارهاب, مثلما يميز ما بين الحرب وجرائم الحرب. فالارهاب هو كل ما استهدف ابرياء حتى ولو كانت كل دوافعه شريفة, او دوافع نضال وطني. لان النضال الوطني يفترض ان يستهدف الظلم لا ان ينشىء ظلما جديدا ولا يمكن تبرير الظلم بأي مبرر, فبعض حركات الارهاب تبرر اجراء تفجيرات في مكان ما او خطف طائرة, او اخذ رهائن مثلا بأنه امر غير مستهدف في ذاته, وانما اضطرت اليه الحركة حتى يُخلّى بينها وبين اجهزة الاعلام, وتمكنه من رفع صوتها, واعلان مطالبها عبر تلك الاجهزة, وتقضى بالتالي على الاقل على مؤامرة (أُقتله بالصمت) التي ظلت تعامل بها من قبل الاعلام.. وهذا تبرير لا يمكن بالطبع ان يخرج بتلك الحركات من دائرة الارهاب. واكثر الحركات الارهابية لا تعدم مبررات وتمحُّلاتٍ مثل هذه تسوقها كلما ارتكبت حادثا اجراميا ضد الأبرياء. واهم تلك التبريرات جميعا هو الذي ينطلى على الحركة نفسها, ويقنعها بأن الارهاب وسيلة فعالة لانجاز الأهداف السياسية. وغالبا ما تتبلور تلك القناعة عندما تكون الحركة على حافة الفشل والافلاس, وتتضاءل آمالها في امكانية تحقيق نجاحات عن طريق العمل السياسي الدؤوب. هنا تنطلق التنظيمات الارهابية لملء الجو بالفرقعات: فرقعات الحدث الارهابي, والفرقعات السياسية والاعلامية التي تتلوه, وهذا هو كل ما هناك فقلما تؤثر احداث الارهاب في خط السير السياسي العام, وقلما تحدث اهتزازاً في توازن القوى, او تبديلاً في قناعات المجتمع, او السياسات العامة. فقد تتمكن حركة ارهابية من خطف طائرة واعتقال ركابها, ولكنها لا تستطيع ايقاف حركة الطيران, ولا اغلاق كل المطارات. وقد يتمكن بعض الارهابيين من السطو على بنك, ولكن بقية البنوك تظل مشرعة الابواب غير متأثرة بما جرى, وقد يتمكنون من اغتيال وزير في حكومة ما, ولكن تلك الحكومة لا تسقط لذلك السبب, وقد تمكن بعض الارهابيين من اعتقال كل وزراء الاوبيك قبل عقود ولكن العالم لم يفقد قطرة نفط واحدة لذلك السبب!
هكذا تتبدى محدودية آثار الارهاب, وعقمه كأسلوب من أساليب تحقيق الاهداف السياسية, فالارهاب كاسلوب هو وليد الاحباط, ولا تلجأ اليه التنظيمات الا عندما تفقد بوصلة التوجه الصحيح, وتختلط عليها مسارات العمل السياسي, او تبدو تلك المسارات طويلة جدا, فتحاول الحركة اختصارها بممارسة الارهاب, وهي في هذه الحالة لا تختصر الا طريق نهايتها, فغالبا ما تنحسر التنظيمات التي تدخل في هذه المعمعة وتصبح اثرا بعد عين, والا فأين هي منظمات كانت ملء سمع الدنيا مثل (بادر ما ينهوف) و(الالوية الحمراء) و(الجيش الاحمر الياباني) , وجماعات الفوضويين في اوروبا, والراديكاليين في امريكا اللاتينية, والتكفير والهجرة, وتنظيم الجهاد.. لقد انحسر ظلها جميعا, واصبحت من حديث التاريخ.. لا يعنى هذا ان احداث الارهاب لا تخلّف خسائر, انها تخلف خسائر جمة على صعيد الارواح والممتلكات, كما بدا واضحا من التفجيرين الاخيرين, للسفارتين الامريكيتين, في كينيا وتنزانيا, فعدد الموتى والجرحى كان كبيرا جدا, وقد اضطرت الحكومة الامريكية الى اغلاق عدد من السفارات والبعثات الدبلوماسية في عدد من الاقطار تحسبا من هجمات مماثلة. كما تتجه النية الى احياء مشروع قديم لصرف نحو 3,5 بلايين دولار لتشييد مبانٍ جديدة, للسفارات والبعثات الدبلوماسية الامريكية عبر العالم, وهي نحو 260 سفارة وبعثة, ويقترح البعض ان تشيد تلك المباني خارج المدن, وعلى شكل يشبه القلاع والحصون الحربية, وفي ذلك ما فيه من تشويه الصورة الامريكية في الخارج, اذ انه يعطى انطباعا سيئا, ويرسخ شعور الكراهية ضد الامريكان, ويسمهم بطابع الخوف من التعامل مع اقسام المجتمع الدولي الذي يقودونه. وتزيد خسائر الارهاب بتكاليف مقاومته. فمن الصعب ملاحقة الارهاب بدوائره وتدابيره السرية, ومن الصعب اكتشاف العمل الارهابي قبل تنفيذه, لان الارهابيين كثيرا ما يعمدون الى التمويه,
فوزارة الخارجية الامريكية تتلقى وحدها اكثر من ثلاثين الف انذار بعمل ارهابي كل عام. وقد كشف احد الدبلوماسيين الامريكيين لصحيفة (نيويورك تايمز) ان الوزارة قد تلقت بالفعل انذارا بصدد هذين التفجيرين الاخيرين, وان جهات استخبارات عالمية اخرى اوحت الى الاستخبارات الامريكية بامرهما. ولكن ورود 30 الف تهديد سنويا يجعل من الصعب النظر اليها كلها بمنتهى الجدية والحذر, رغم ان المسؤولين الامريكيين يقولون انهم ينظرون اليها كذلك.. لكن مهما كانت خسائر الارهاب فانه قلّما يغير من مسارات العمل السياسي. وفي حالة امريكا التي تتكاثر عليها الهجمات, من خارجها ومن داخلها, (بداخل امريكا اكثر من ثلاثة آلاف منظمة تنطبق عليها صفات الارهاب) , فيمكن القول بأن مصالح الذين يوجهون السياسة الامريكية, التي توجه النظام الدولي, لا تتأثر مباشرة بالارهاب, ولذلك فان الارهاب لن يؤثر في توجهات السياسة الامريكية بشكل استثنائي. معنى ذلك ان المظالم على صعيد تخطيط السياسات الدولية ستستمر, وسترافقها لزاما حركات الارهاب.. والحل هو ان يقلع الجميع عن اعتقاد فكرة ان النظام الدولي هو نظام ظالم بطبيعته, وهي الفكرة التي اصبحت شبه نظرية في فقه العلاقات الدولية ويراد لها ان تقنع الكل بقبول تلك المظالم.
استاذ بجامعة اكسفورد ـ المسيسبي*