كان يدندن ملأ فمه و هو يساير نغم الموسيقى المنبعثة من جهاز الراديو...
لم تمر سيارة منذ ما يقرب نصف ساعة.. يبدو أنه ابتعد عن المدينة بما فيه الكفاية...
ما أجمل القيادة بشارع خالي ليلا... يأتيك شعور بأنك أبرع قائد سيارة في العالم.. تحس بالتحرر التام وكأن بإمكانك القيادة دون لمس المقود..
بتر سلسلة خواطره فجأة و كف عن الدندنة لما أغشت عينيه أضواء شاحنة ضخمة انبثقت من العدم لتصدر صوتا مرعبا ارتجت له دواخله..
أدار المقود بحركة جنونية ليتجاوز الارتطام المهول... ثم أطلق زفرة حارّة حملت معها مخاوفه لما تجاوزها و هو ينظر لأضوائها المشعة في مرآته و هي تبتعد..
تذكر ما كان يفكر به قبل ثواني، عن روعة القيادة بالليل.. فابتسم بهدوء و هو يزيد من سرعته قليلا و يعد نفسه بتوخي الحذر..
حاول تخيل ما تفعله زوجته (سعاد) في هذه اللحظات.. "ستكون نائمة لا محالة".. قالها مع نفسه وهو يدقق النظر في الساعة المتوهجة بلوحة القيادة مؤكدة أنه منتصف الليل بالضبط..
* * *
كم كــانت (سعاد) رومانسية لما عانقته وهي ترجوه عدم التأخر في سفره.. قبـّل جبينها و هو يؤكد أنه لولا لم يكن اجتماعا مهمّا للأطباء لاصطحبها معه.. خاصة و أنهما زوجان حديثا العهد، و لازالا لم ينعما بشهر عسل..
* * *
الطريق ممتد إلى ما لا نهاية و الأشجار تركض بجانبي الطريق بدون توقف، بينما السيارة جاثمة مكانها... هكذا تخيل المشهد...
اعتقد أنه تخيل كذلك صوتا قويا لشاحنة قادمة من بعيد، و لكنه لما أسكت الراديو و أرهف السمع.. أدرك أن خياله توقف فعلا..
كان صوتا مدويا.. هو في الغالب لشاحنة ضخمة.. و لبعد الصوت لم يعرف مصدره بالضبط..
و لكن الصوت كان يعلو بسرعة رهيبة، و بدأ يشك بكونه قادما من خلفه، و مع اقتراب الصوت زاد يقينه أكثر، فالتفت و... و جحظت عيناه..
* * *
أطلق زفرة حارّة حملت معها مخاوفه لما تجاوزها و هو ينظر لأضوائها المشعة في مرآته و هي تبتعد..
* * *
كانت شاحنة ضخمة تشق الطريق بسرعة مفزعة... أما ما جعل أنفاسه تتوقف رعبا فهو كونها تتقدم نحوه.. أي في الطريق الخطأ !!...
انحرف بالسيارة بزاوية مخيفة، مما جعل العجلات تصدر صريرا حادا، فخرج من الطريق وتوغل بحقل القمح المظلم...
كالبرق مرقت الشاحنة أمام عينيه.. ثم لم تلبث أن تلاشت و بقي صوتها المدوي يملأ الأجواء...
أوقف المحرك فساد الصمت... لا يُسمع إلا سيمفونية أنفاسه المتلاحقة...
الهدوء... أنزل زجاج النافذة بجانبه و خرج برأسه إلى الخارج لعله يحظى بهواء نقي يغسل شرايينه من بعض الرعب...
بصق بعصبية ثم شردت عيناه... سنابل القمح ترقص بمرح على إيقـاع نسيم عليل... لم يكن حينها يفكر، كان فقط يتأمل...
لم يعرف كم استغرق في الشرود و لكنه تنبه على حين غرة إلى أمر خطير... المصبـاح الأخضر الواضح أعلى الشاحنة و...
إنها الشاحنة التي كادت ترطمه في المرة الأولى.. نعم إنها هي...
" نعم إنها هي !!.. "
وجد نفسه يهتف بها بحماسة، و لكنه عاد و انكفأ إلى نفسه حائرا...
" هنـاك احتمالان اثنان لا ثالث لهما... إما أن السائق مجنون تماما.. أو... أو أنه يتعمد ذلك.. ولكن.. لمــاذا ؟... "
أطرق من جديد وهو يرمق المظهر المهيب بالخارج.. نسيم هادئ لفح وجهه.. قطرة باردة حطت على أرنبة أنفه، وثانية على جبينه ثم توالت القطرات لتبدأ سيمفونية المطر..
عاد برأسه إلى السيارة.. ضغط الزر فصعد الزجاج بسلاسة.. صوت ارتطام المطر بالسقف.. أدار المحرك و عرج إلى الطريق...
* * *
"ستكون نائمة لا محالة".. قالها مع نفسه وهو يدقق النظر في الساعة المتوهجة بلوحة القيادة مؤكدة أنه منتصف الليل بالضبط..
* * *
الأفكــار تحوم بجنون داخل مخيلته و هو يرمق الطريق التي ابتلت تماما... صوت فيروز يبعث شيئا من الدفء.. حاول طرد تلك المشاهد المخيـفة التي استوطنته و لكن دون جدوى...
" لا يمكن أن تكون مجرد صدفة.. الشاحنة هي نفسها و الأمر كان متعمدا و... ولكن كيف أمكنه أن يأتي من الخلف و قد تجاوزني منذ نصف ساعة تقريبا ؟.. "
كان يتمنى من أعمـاق قلبه لو لبث بعض الوقت عسى أن يجد تفسيرا ينفي اعتقاداته الرهيبة و لكن الهلع هزه هزا لما سمع الصوت إيـاه من جديد !!..
* * *
" نعم إنها هي !!.. "
* * *
خفّض السرعة وهو يلتفت في جميع الاتجاهات... إنها قادمة من الخلف بالتأكيـد..
وسرعان ما لاحت و... ولكنها مجرد سيارة عادية، تجاوزته ببرود لتتلاشى بدورها...
تنفس الصعداء و ابتسم ساخرا من نفسه... " يا لي من تافه، سخيف.. كنت سأموت بسكتة قلبية لسبب مضحك...
تهدّم جدار الصمت على حين غرة و أعمت عينيه أضواء وهّاجة ثم.....
اهتز جسده ليرتطم بالسقف و عاد بعنف ليتهشم فكه على المقود...
دارت السيارة حول نفسها مغادرة الطريق... لتتوقف وسط الحقل، مقلوبة رأسا على عقب..
العجلات تدور برتابة و دخان خفيف يصعد من مكـان ما بالسيارة...
* * *
تذكر ما كان يفكر به قبل ثواني، عن روعة القيادة بالليل.. فابتسم بهدوء و هو يزيد من سرعته قليلا و يعد نفسه بتوخي الحذر..
* * *
بقي المشهد ثابتا للحظات... السيـارة مقلوبة هناك وسط حقل القمح.. و شاحنة ضخمة جاثمة في قارعة الطريق وكأنها ترمق الموقف بسخرية..
أنين خفيض تحت السيارة... رأس يخرج من النافذة الأمامية.. ثم يرمي الجسد المتهالك نفسه إلى الخارج و بإنهاك شديد بدأ يزحف..
الدمــاء تخضب وجهه.. و عيناه المحطمتان تلتهم المشهد الساكن..
انتصب بصعوبة و تصلب لما رأى الشاحنة... حول نظره ببطء إلى سيارته المقلوبة فشد انتباهه تشوهها المهول..
ما زال كل شيء هادئا.. صوت الشاحنة الرتيب يضفي على الموقف الرعب الذي ينقصه...
ثم، و بشكل غير متوقع، انطلقت الشاحنة صوب حقل القمح..
* * *
" هنـاك احتمالان اثنان لا ثالث لهما... إما أن السائق مجنون تماما.. أو... أو أنه يتعمد ذلك.. ولكن.. لمــاذا ؟... "
* * *
اتسعت عيناه رعبا و حاول الركض، و لكن ألما حادا طغى على ساقه اليسرى...
كان الرعب أقوى منه فركض وهو يصرخ من شدة الألم... الشاحنة تتقدم ببرود نحوه و أضوائها المتوهجة تكشف جسده الدامي...
يركض.. يصرخ و الدموع تنهال من عينيه.. يلتفت من حين لآخر...
و أثناء ركضه المجنون التقطت عيناه شيئا غريبا.. شيئا غير منطقي بتاتا..
* * *
حاول طرد تلك المشاهد المخيـفة التي استوطنته و لكن دون جدوى...
* * *
لماذا ظن حينئذ أنه لم ير سائقا بالشاحنة ؟… ارتعشت فرائصه لهول الفكرة.. و لكن الفضول جعله يلتفت ليتحقق من الأمر…
سقط عندما خانته قدماه أو بالأحرى قدمه اليمنى… انبطح على ظهره و عيناه توشكان أن تغادرا مقلتيهما لشدة تصلبهما…
فعلا ليس هناك سائق !!.. نعم.. الشاحنة تتحرك لوحدها… هذا منطقي جدا.. بل هو قمة المنطق…
تحول صراخه إلى ضحكات طويلة.. و سرى خدر عجيب بسائر جسده…
* * *
" يا لي من تافه، سخيف.. كنت سأموت بسكتة قلبية لسبب مضحك...
* * *
واصلت الشاحنة تقدمها ببطء شديد... سنابل القمح تُسحق تحت عجلاتها الصلبة...
لقد استسلم تماما.. أو ربما جن فعلا.. فهو لا زال يقهقه بعصبية و الآلة الشيطانية تكـاد تسحقه..
مشاهد كثيرة و صور عديدة جالت بذهنه حينها... زوجته (سعاد) وهي تتقلب في فراشها الدافئ.. رواق المستشفى الطويل... أضواء تخطف الأبصار.. دماء... أناس يضحكون... سنابل ترقص بجنون... شاحنة تمشي بلا سائـق... عجلات ضخمة تقترب.. و...
صرخة رعب هــائلة، أطارت العصافير و شقت السمـاء نحو الأعلى.. نحو القمر..
* * *
تمت بحمد الله