شبح السّحور !!
أعود بذاكرتي إلى رمضان المبارك.. إذ قرع خاطري حادث غريب مررت به في إحدى لياليه الرائعة بأروقة الحي الجامعي.. فأحببت أن أسجله هنا.. اسمعوا إذن..
كـان يوما آخرا.. يوما عاديا من أيام رمضان الكريم.. هذا الشهر الذي تكاد تلمس فيه تغيرا في كل شيء حولك.. الأشخاص، الجو، الأوقات.. حتى أنفاسك يشوبها شيء من الهدوء و السكينة، طبعا لن نتحدث عن الجرائم التي يرتكبها مدمني التدخين !..
كان يوما آخرا.. حيث يسود الصمت بالغرفة و قد استلقيتُ فوق سريري أطالع القرآن أو أرمق السقف، و صديقي يفعل الشيء ذاته.. قد ألجم الظمأ أفواهنا و أزال الجوع منا أية رغبة في الحديث و الثرثرة !..
يمزق آذان المغرب صمتنا المرتقب على حين غرة، لنقفز من أسرّتنا بنشاط عجيب.. فأسارع إلى اختطاف ثمرة يكون طعمها في فمي أحلى من العسل و ألذ من ألذ ما لذ و طاب من الطعام و الشراب !..
و كان فطورا آخرا.. كأي فطور محترم، إذ يمكنك ملاحظة الشراهة المطلقة في الأكل و مدى العنف الذي نمارسه على المأكولات المسكينة !.. فلا تعجب مثلا إن رأيتني أبتلع الثمر عن طريق أنفي !!.. و لا تفزع إن استقرت عيناك على صاحبي و هو يحمل كوب عصير برجله اليـُسرى !..
و كان عشاءا آخرا.. ضئيلا، هزيلا و نحيلا.. و مع ذلك نصرّ على تسميته عشاءا و نفتخر به أيما افتخار!.. لن أبوح بمكوناته كي لا أفضي بالسر إلى كل طالب فيستفيد من الأساليب المتطورة التي ننهجها كي نعد أسرع عشاء مع أكبر كم ممكن !.. لذا لا تنتظروا الكثير..
و كانت حالة أخرى من السكر تصيبني بعد العشاء مباشرة، كعهدي في شهر رمضان.. فأسترسل في الضحك الهستيري و الكلام بصوت مرتفع مدة لا بأس بها، تجعل كل من يسكن غرفة بجواري يتمنى لي الموت بذبحة قلبية !..
نفس البروتوكولات المملة أتخذها قبل النوم.. وضع جهاز الراديو قرب رأسي، إغلاق الباب بالمفتاح، ترتيب سريري المبعثر، تبادل كلمات تافهة مع صديقي السكران هو الآخر، ثم.. القفز رأسيا فوق السرير.. على غرار السباحين في الأولمبياد حين يقفزون من علٍ نحو حوض الماء !..
* * *
أنظرُ إلى السماء البنفسجية و أفتح فمي لتخرج منه عصافير و أرانب تردد أغاني جميلة، غير مفهومة و لكنها جميلة و.. ماذا ؟؟.. سماء بنفسجية !، عصافير تخرج من فمي ؟؟.. يبدو هذا غريبا و مجنونا و لكن.. لماذا لا أعجب منه و لا أبالي بصحته ؟.. لماذا أقف فاغرا فمي، مركزا نظري إلى السماء بكل هذا الهدوء و الاطمئنان ؟؟..
فجأة.. يمتزج صوت الغناء مع صوت آخر غير متناسق مع القطعة.. تخفتُ الموسيقى رويدا رويدا و يعلو ذلك الصوت المزعج أكثر فأكثر.. و لكن من أين يأتي ؟.. ربما مصدره السماء، فقد بدأ لونها يتبدل مع ازدياد الصوت ليصبح مخيفا، مريعا ثم..
فتحت عيني بسرعة لأجدني على الفراش أنظر إلى النافدة المضاءة بوهج القمر و قد لف الجدران ظلام حالك.. لا شيء كان يُسمع وقتها غير صوت عقارب الساعة و الزفير الرتيب لصديقي النائم..
كنت أحلم إذن !.. تبا، أكره هذه الأحلام المجنونة التي تراودني من حين لآخر إنّ..
(طااااق.. طاااق.. طاق)..
انتفضت في ذعر عند سماعي طرقا عنيفا على الباب !..
لحظة !.. إنه نفس الصوت المزعج الذي سمعته بالحلم ؟!.. إذن فالطرق كان منذ مدة !..
و قمت بالحركة الغريزية، المناسبة لمثل هذا الموقف، إذ التفت بسرعة إلى مكتبي الغارق في الظلام.. لأرى في شاشة الساعة المتوهجة الثالثة و النصف بعد منتصف الليل !!..
و قبل أن أسأل نفسي عن هوية هذا الضيف المحترم الذي اختار أنسب وقت على الإطلاق كي يشرفني بزيارته !.. دار مقبض الباب بعنف.. لينخلع قلبي رعبا..
صدقني، الموقف أخطر مما تتصور، و لن يصوره عقلك كما يجب إلا عندما تُقتلع من حلم مجنون لتجد أصوات طرق عنيف على بابك و عقارب الساعة تتحرك ببطء مرعب لتخبرك أنها الثالثة و النصف بعد منتصف الليل !.. ثم أخيرا، هناك من يحاول، بجنون، اقتلاع الباب من مكانه !!..
لا أعرف كيف نهضت و قد دارت بي الأرض و ماجت و انقلب سافلها أعلاها ؟.. تقدمت بخطوات مبعثرة نحو الباب الخشبي الأخضر.. توقف الطرق عندما اقتربت من الباب.. لا داعي لأن أقول أني وقفت مترددا، حيرانا، مفزوعا، مصعوقا مدة طالت حتى أصبحتُ تمثالا عتيقا لشاب من عصر الأنوار يرتدي منامة و ينظر برعب لشيء أمامه !.. كانت مدة مديدة لدرجة أني خفت بعدها أن أسمع صوت الطرقات مجددا فمددت يدا مرتجفة إلى المفتاح المعلق بعين الباب، و هو يلمع لمعانا مستفزا.. أدرته مرتان ثم استقرت يدي المتوترة على المقبض البارد و فتحت الباب..
... ! !
- أووووف.. أرعبتني يا هذا !.. ألا تستطيع أن تكون حضاريا قليلا ؟..
إنه (سفيان) جاري بالغرفة الثالثة على اليسار..
- هل أنتم نيام أم أموات أم مومياوات محنطة ؟.. نصف ساعة و أنا أطرق الباب و أحرك المقبض عسى أن يسمعني كائن حي بالغرفة و لكن.. لا حياة لمن تنادي !..
- هذا رائع !.. أشكر لك محاولتك الإنسانية لإيقاظي من النوم مع الثالثة و النصف ليلا !.. لكن هل لي أن أعرف السبب ؟..
- السحور يا ذكي ألا تريد أن تصوم غدا ؟..
- آ آه.. قلها منذ البداية يا أحمق !..
ثم انصرف.. رأيته يمشي بخطوات سريعة في الرواق نصف المضاء، كان يقصد الحمام..
حينئذ.. و حينئذ فقط شعرت بامتلاء مثانتي.. و كيف لي أن أشعر بها قبل ذلك و قد عشت قصة رعب رائعة !..
توجهت بدوري إلى الحمام.. كان الجو رطبا باردا اقشعر له جلدي.. رأيت (سُفيان) يلج الحمام.. كم هو سريع !.. أيمشي أم يركض !..
الغريب أنه لم يُضأ الحمام عند دخوله.. و كيف يرى باب المرحاض وسط كل هذا الظلام ؟؟..
دخلت الحمام، و هالني حجم الظلام !..
صوت قطرات صنبور يمزق الصمت المهول..
نسيت تماما السبب الإنساني لقدومي هنا.. و تمالكت رعبي الذي بدأ يتكاثر و ناديت بصوت متحشرج..
- سُفيااان !..
...
- أخبرني أنك هنا وسط الظلام، تتبول بكل هدوء.. لأخبرك أنك شبح..
تزلزل كياني و تملكتني رجفة من أخمص قدمي حتى شعيرات رأسي !.. ماذا قلت للتو ؟.. شبح !.. بسم الله الرحمان الرحيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. اللهم إني أعوذ بك من الخُبث و الخبائث..
و الجميل أن (سفيان) لم يجبني حتى الآن !.. فكان قراري الحكيم هو.. الفرار إلى غرفتي الحبيبة !..
مشيتُ، بل هرولتُ.. بل قل جريتُ جريا في الرواق البارد و الذي وجدته أطول من اللازم.. أعدّ نبضات قلبي في انتظار الوصول أمام باب غرفتي..
حين اقتربتُ، توقفتُ و أنفاسي مبهورة، متلاحقة.. أنا الآن أمام غرفة (سفيان).. لا أرى ضوءا من خلال فتحة الباب العلوية !..
توقفت للحظات أمام الباب ثم مددتُ كفي الأيمن و قد سيطرت عليه رجفة عنيفة.. أدرت المقبض مرات و مرات و كأني لا أريد تصديق أن الباب مغلق.. و كأني لا أريد التفكير في كون ((سفيان)) نائم، الآن، بسلام على سريره الدافئ !..
كيف يغلق الباب بالمفتاح في هذا الوقت المتأخر و قد خرج لإيقاظي فقط، و بابي على بعد خطوات قليلة منه ؟؟.. و لماذا لم يترك النور وراءه ؟؟.. أليس من المفترض أن يوقظ صديقه أولا ؟!..
نفذت طاقة أعصابي على تحمل المزيد في هذه اللحظات و قد تغلبت عليّ خواطر مُهـولة !..
حثثتُ الخطى نحو غرفتي في آخر الرواق.. اقتحمتها بعنف و ربما صفقتُ الباب بهُياج..
أغلقتُ الباب بإحكام قبل أن أنهار على فراشي البارد و لُهاثي يزيدني رُعبا على رعب..
عجز عقلي للحظات عن العمل، و كلما حاول باء بالفشل !..
ثم اجتاحت خاطري المرتعش فكرة على حين غرة !.. ماذا لو كان ذلك كله جزئا من الحلم و لم أستيقظ بعد ؟.. لسعتُ ظهر كفي بقوة حتى تأوهت من الألم، ففهمت الحقيقة التي لابد من فهمها.. فهمتُ آسفا أن ما قد كان آنفا قد كان فعلا !..
نهضت مترنحا و توجهت إلى مكتبي المغمور في الظلام، تناولتُ قلما أحمرا من كأس الأقلام.. و كتبت على ورقة جملا و عبارات مقتضبة، لخصت فيها ما عشته قبل لحظات..
ثم عدتُ إلى الفراش و أقسمت فورا أن أغمض عيني و أنسى كل ما شاهدته و سمعته.. أعوذ بالله من كل شيطان غرور أو شبح سُحور..
رفعت خـالد
11-12-2006