انبعثت رائحة عطره الشهي في الغرفة ، احتضنت الرسالة بلطف ملائكي ، كان الصمتُ سيدَ لحظتها ، وجهها البريءُ كان نابضاً بالفرح ، والذي يعكسُ طَبيعةَ قلبها البريء ، و قد أبحرت في دفء إحساسها ، و أرواح تحوم حولها مبتسمة ، بشفافيةِ العُشاق ، كل ما هناك ، أضاءَ في خفوت ، وهي مبتسمة بسكون ، وفراشاتٌ ملونة ترفرف ملطفة الأثير ، ملاكٌ صغير يطل من النافذة بفضول ،وشيء يختبئ بعبثٍ بين يديها البيضاء ...
بددت صمت الغرفة بأن استلت سكين الرسائل ، ومضت تُقشر الظرف من حول سرها الكبير و نظرت إلى تاريخ الرسالة ، ياه يا لبطء البريد ، شهر مضى على هذه ! .. أكملت التمزيق ، بدت لها الورقة الصفراء وحبرهُ الأزرق معبئاَ خطوطهُ الأنيقة ، جذبت الورقة برفق ، نظرت إليها بحب ، و فتحتها ...
" ملَكِي اللطيف ... يمزقني شوقي إليكِ ، و بعد المسافات عنكِ ، ودربُ الحبِّ الذي مضينا عليهِ سويّا يلوي رقبتي إليكِ ، ألي عودةٌ؟ أم أن رياح هذا البلد ، ستلملم شتاتي و الفتات ؟ ، منذ حللت عليهم هنا ، وأنا أعيش إرهاصات لقائك المرتقب ، حتى بعد فراقي لكِ بثواني ... كل شيءٍ في هذا الكون ، مصيره الذبول ، بل إن الأيام تنقصُ الأعمار و الأقدار ، وتغرفُ من القبورِ على ذمّةِ الوقت .. وحبكِ .. قبري الأعظم ، كلما غصت فيه أكثر ، زاد شوقي إليه ! ، أعشقُكِ وسأبقى كذلك ، ما أبقتني الأيام ...
..."
غَفت ، محلقة على قاربها الصغير ، وهوَ برفقتها ، بعيداً في عمقِ الأثير ، ونهايات الحياة ، حتى تهز الملائكةُ قاربهما ، وتهمس بعودته ، وحين اللقاء ، تلتهم الطُرقَ إليه ، راميةً بهمومها ، ودنياها ، و بها ، بين يديه ! ، ....
نفض حُلمها ، نداء أمها الحنون ، والذي ثلّمتهُ أحزانُ السنين، وضعت الرسالةَ بهدوء تحت الوسادة ، ومضت ..
بالأسفل، نظرت أمها بعين ملؤها أساً صامت،
- سنذهبُ لزيارةٍ قريبة، لا داعي للزينة، لن نطيل المكوث ..
طوال الطريق ، كانت الأفكار السارحة إلى - اتجاههِ - تبهجها ، وترسم بسمتها ، مبعدةً إياها عن طريق المدينة الموحش ، وما أن بلغوا دار القريب ، ترجلت الأم ، وربتت على كتف ابنتها ،
- نحنُ هنا لتقديم العزاءِ ، فقط حافظي على رزانتك ..
مارت الدُنيا بها ، كان كل شيءٍ أسوداً ، ملابسهم .. نفوسهم ، وهم ، وقد أخذوا يتذكرون الميت ، ويبكون في حرقة ، أخذت بالتعزية ، و افتعال الشدة ، كان البيت الذي جمعها به باهتاً ، على عكسِ مكان ، توزعت الشياطين ساخرةً من فراقها له ، و أخذت الملائكة بوجوهٍ حزينة ، تغني بصمتٍ مؤلم ، هنا ورقة تركها على الدُرج الجانبي ، لم تزل حيث كانت ، شقوق زينت الجِدارَ القديم ، وكل شيء يوحي ... بالفراق ! ...
عادتْ بعد ذلك ، التقطت قلما ، وشيئاً من أوراقه وكتبت :
" سيدي الأول ، والأخير :
تَفصلك مسافات ملائكية عني ، كسرت درب الحب ، و تجاوزت حواجز الأيام ، أفتقد كل ما كان منك .. ولك ، سيدي .. أنتَ بعيد .. بعيدٌ جداً ، إلا أن الحُب يا سيدي .. لا يعترف بالمسافات ، ولا بأنفسنا و المشاعر الأخرى ، اسمح لي بالرحيل معك ، لأضع يدي بيدك ، و أبتسم بفرح قربك ... سآتي ! ...
شيءٌ منكَ "
التقطت سكين رسائله ، نظرت بحزم إلى يدها البيضاء ، أحست بحزمِ موقفها ، و انحدرت دمعة دافئة وجدت موضعها على الرسالة ، جذبت السكين ، إلى معصمها ، رفعت يدها إلى الأعلى .. وهوتَ بها مصدرةً صوتاً خافتاً يعلن ختام الفصول.
في مكانٍ آخر ..
سادَ الصفار ، و افترشتُ أوراق الخريفِ الأرضَ حدَّ المدى ، وبحيرة آسنة ، استلقى بقربها متململاً ، اهتزت السماء ، وانفكت جنباتها عنها ، بيضاء كما ثلج شتاءٍ نقي ، أقبلت بأجنحتها إليه، وأحسَ بصدرهِ يبتلعُ الكونَ، وبأمواجٍ تتلاطمُ في أعماقهِ وتعودُ إلى الحياة.
ما أجملَ أن يكونَ الإحساسُ سحابةً لطيفة ، تحملنا على ظهرها ، عبر النجوم ، إلى السدم ، والمجرات البعيدة ، نلتقي عابثين بـ بعضنا ، هامسين بحبنا ، بعيداً .. بعيداً جداً عن .. اتزانهم .
طَرفَت إليه عينها مرةً أُخرى ، اقتربت بسكون ، حَطت على الأرض ، وفجأة انتفضت الأرض مخضرةً في تواؤم مع غيوم السماء المنقشعة ، سادَ شذاها حولهُ ، فانطلق إليها راكضاً ... وألقت بنفسها بين ذراعيه .. وتوقفَ الزمنْ.
( حبٌ أو جنون .. لا يهم ... )
كلاهما دربٌ إلى الموتِ الحيّ
Yazeed
5\11\2004