الافتتاحية



قبل ألف وأربعمائة وعشرين سنة هاجر محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فاراً بدينه، ومتوكلاً على ربه بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتمالى أئمة الكفر وصناديد الباطل على محاولة قتله، وتخطف دهاقنة الجاهلية أصحابه وآذوهم وعذبوهم بغية فتنتهم عن دينهم، وإرجاعهم لعبادة الأصنام والأوثان من جديد بعد أن منّ الله عليهم بنعمة الهداية، وأخرجهم من ظلام الجاهلية، وأنقذهم من براثن الكفر

وشاء الله عز وجل – بحوله وقدرته- وبعد اخذ رسوله صلوات الله وسلامه عليه بأسباب التمكين أن يكون حدث الهجرة نقلة نوعية، ويشكل تحولاً تاريخياً في تاريخ الدعوة الوليدة لتنتقل بعدها من مرحلة بناء الجماعة إلى مرحلة تأسيس الدولة، ومن رفع شعار "كفوا أيديكم" بمكة إلى "الآن نغزوهم ولا يغزونا" بالمدنية، ومن الصبر على إيذاء الكفار وتحمل تعذيبهم وتهجمهم على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى تجيش الجيوش، ورفع الرايات، وعقد البيعات على الموت لمجرد أن مسلماً قتل أو أشيع أنه قتل على أيدي أعداء الإسلام، فعزَّ الإسلام والمسلمون، وذلّ الكفر والكافرون، وارتفعت راية لا إله إلا الله عالية خفاقة تناطح قمم الجبال، وتبلغ عنان السماء، وغدا نشيد الكون وحداؤه: إسلامية .. إسلامية .. إسلامية

واليوم ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً – 1421هـ- بدأت تطل علينا أيامه، وترمقنا دقائقه ولحظاته، نقف لتأمل ما انبثق عنه حدث الهجرة –قبل أربعة عشر قرناً- الذي قلب الأوضاع كافة رأساً على عقب بحيث صار للمسلمين دولة قوية مهيبة تنافح عنهم، وتتحدث باسمهم، وتحفظ حرماتهم ومقدساتهم، ويحسب لها الأعداء ألف حساب وبين ما أسفر عنه دخول العام الهجري الجديد، فنرى الفرق هائلاً، والبون شاسعاً، والمسافة بين الحدثين كبعد السماء عن الأرض ، وإذا أمعنا البحث في أحوال المسلمين ودققنا فيها النظر، فلن نجد إلا ما يقطع نياط القلوب، ويمزق أوصال النفوس، ويملأها حسرة وحزناً وكمداً، فمقدسات المسلمين ديست، وأعراضهم انتهكت، وأرضيهم احتلت، وأموالهم سلبت، ودماؤهم أريقت حتى تحققت فينا نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها) وسبب حصول هذا التداعي، كما أوضحه قائدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه (لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت

لقد اتفقت دول الكفر قاطبة على حرب الإسلام بغية استئصال شأفة المسلمين، وطمس معالم دينهم، مستعينين بحكام العرب الخونة وأئمة الكفر العتاة الذين نصبوا أنفسهم آلهة تعبد من دون الله، لا ترضى أن يعصى لها أمر، أو يعارض أحد لها رأي، ومن خرج على سلطانها، وحارب باطلها، وصدع بكلمة الحق في وجهها، فسلخانات التعذيب في انتظاره، وحبل المشنقة من ورائه، وفتاوى بعض علماء السوء تبرر – بل توجب – قتله لخروجه على طاعة (ولي الأمر) وسلوكه غير سبيل المؤمنين ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا !!. إن المتأمل في حال أمتنا الإسلامية -خاصة في السنوات الخمس الأخيرة- يلحظ هجمة لا مثيل لها، ويرى تعاوناً لا شبيه له بين الحكومات العربية التي أعلنت – بدعم ومساندة وتأييد قوى الكفر العالمية من يهود ونصارى وغيرهم- حرباً لا هوادة فيها ضد الحركات الإسلامية لاسيما الجهادية منها، وسارعت الى عقد عشرات المؤتمرات تحت شعار "مكافحة الإرهاب" ووقعت العديد من الاتفاقيات تحت باب "تنسيق الجهود الأمنية" لغرض التضييق على تلك الحركات والإيقاع بأفرادها، وتسليمهم لبلدانهم رغم حدة الخلافات وشدة العداوات فيما بينها، والتي تبدو ظاهرة للعيان كالشمس في رابعة النهار، لكن لما كان الأمر متعلقاً بحفاظ هؤلاء الطواغيت على عروشهم، وخوفهم من فقدهم لكرسي الحكم، اتفقوا فقط في هذا الباب، وبدا ذلك واضحاً من خلال استمرار مؤتمر وزراء الداخلية العرب في الانعقاد بصورة دورية دون أن تحل به لعنة الخلافات، أو تمسه آثار العداوات في حين تبقى مسألة عقد قمة عربية لهؤلاء الطواغيت لمناقشة أي قضية طارئة في إطار الأخذ والعطاء، وتستغرق للتحضير و الإعداد لها زمناً طويلاً، وفي غالب الأحيان تلغى ويرمى بها إلى سلة المهملات ولا من باكٍ أو متحسر عليها

إن حدث الهجرة وما تبعه من أحداث غيرت كل الموازين، وقلبت كافة المعادلات في جزيرة العرب، لم يأت من فراغ، ولم يتحقق دون جهد ونصب، فلقد كابد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعانى الأمرين من أجل إقامة دولة يأزر إليها المسلمون، ويحتمي بها الخائفون، ، وسعى هنا وهناك باحثاً عن النصرة، وطالباً للمؤازرة والمنعة حتى تعرض بسبب ذلك للإيذاء ، ونال منه السفهاء والرعاع كما حصل له في رحلته إلى الطائف ، لكن الرسول الكريم لم يدع اليأس يطرق قلبه، ولا الوهن يصيب فؤاده، رغم ضخامة المهمة، وجسامة التكليف، ووعورة الطريق، ولهذا رأيناه بعد سنتين من حادثة الطائف ينجح في الحصول على المنعة والنصرة من الأوس والخزرج، ويحكم على ضوء ذلك خطته، ويعد أصحابه إيذاناً بقرب انبلاج فجر الإسلام، وانقشاع ظلام الجاهلية.. وقد كان

لقد كانت الهجرة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، ومن خلالها ظهر الكيان السياسي للامة الإسلامية (ولأهميته كان التأريخ بالهجرة ولم يكن بغيرها من الأحداث الهامة كالميلاد والبعثة أو وقعة بدر أو ما شابهه) والمسلمون اليوم بحاجة ماسة إلى استذكار معاني الهجرة واستحضار دروسها لان الإسلام لا يرضى لاتباعه أن تحكمهم قوانين الكفر، ولا أن تظلهم أحكام الجاهلية كما هو حاصل الآن، بل لابد من الهجرة إلى دار الإسلام ليكونوا من جنودها، ويقاتلوا تحت رايتها، وينعموا بالأمن والسلام فيها، وإذا عدمت هذه الدار –كما هو حاصل الآن- فإن المسلمين مدعوون لإيجادها ، وإعداد العدة والجهاد في سبيل الله، والتعاهد على نصرة هذا الدين بأموالهم وأنفسهم تماماً كما فعل الأنصار قبل أربعة عشر قرناً

يا أيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله