عمر الزمن .. وعمر الانسان

كل سنة وأنتم طيبون جمعيا‏...‏ يهل علينا هذا العام وهناك احساس ثقيل قد جثم فوق الصدور‏,‏ بالخصومة بيننا وبين الزمن‏.‏
بتنا نتوجس من قادم الأيام و نتململ في حاضرها ونتباكي علي ماضيها‏,‏ فياله من دوران عكسي‏.‏

تدور عقارب الساعة للأمام‏,‏ وندور علي أعقابنا للخلف‏.‏
خلق الله المكان‏(‏ عمر الأرض‏4‏ مليارات سنة‏)‏ والزمان‏(‏ السجل الصخري للزمن هو مليار وستمائة ألف سنة‏)‏ قبل أن يخلق الإنسان‏(‏ سارة الأفريقية عاشت قبل‏350‏ ألف سنة و نياندرتال الأوروبي‏,‏ قبل‏60‏ ألفا‏)‏ـ ولكن من أجله ـ حتي إذا وطئت قدما آدم الأرض‏,‏ بدأ عداد الزمن في العد‏.‏ ولا يعلم إلا الله ما إذا كان الزمن يمتد خارج كوننا أم أنه مقصور علينا؟‏..‏ واذا ما كان ممتدا‏,‏ فهل تراه هو ما عهدناه أم أنه مختلف ؟‏.‏ ان مجرد التطلع إلي السماء‏,‏ ينقلك إلي زمن آخر لا يطيقة ذهنك‏.‏ هل تساءلت مرة عن المسافة بين أي نقطتين مضيئتين‏(‏ بحجم رأس الدبوس‏)‏ متجاورتين في السماء‏.‏ هل تعلم أن وحدة قياس تلك المسافة هي السنة الضوئية‏(‏ المسافة التي يقطعها الضوء في سنة أرضية‏)‏و تبلغ‏9468‏ مليار كيلومتر‏.‏ وأن أقرب النجوم الينا يبعد عنا‏4‏ أضعاف تلك المسافة‏.‏

وكما تشكل الجاذبية الأرضية حياتنا‏,‏ كذلك يفعل الزمن الأرضي‏.‏
فلولا الجاذبية مثلا‏,‏ ما استطعنا السير المعتاد‏,‏ وربما لم نكن لنلتقي‏,‏ فإذا مازحت صغيرك وقذفت به إلي السماء فانه قد ينطلق ولا يعود إليك أبدا‏!..‏ ولربما لم يكن بإمكانك رؤية هلال رمضان ولا الغروب‏,‏ فالسماء آنذاك مزدحمة بكميات هائلة من الشوك والسكاكين والثمار‏(‏ التي لم تسقط علي الأرض‏)‏ والسيارات‏(‏ التي خرجت عن الكباري‏)‏ والحيونات‏(‏ التي قفزت مرة في حياتها‏)‏ ناهيك عن كميات الأتربة والأحجار العالقة‏.‏

بالمثل‏,‏ فإن الزمن‏(‏ المألوف‏)‏ يبدو إلي حد بعيد‏,‏ مخلوقا أرضيا بحتا‏.‏
فرائد الفضاء الذي ينفصم عن الأرض ويسبح بين الأجرام‏,‏ لا يقر علي قرار‏,‏ يفقد احساسه به‏.‏ فالإحساس بالزمن يأتي من الدوران والتعاقب‏.‏ وتعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول وتعاقب الأجيال‏.‏

فإذا ما انتفي التعاقب‏(‏كحالك في ظلمة الكون البعيد‏)‏ فانت في جمود إلي يوم الدين‏,‏ إلا أن يأذن الله بعودتك‏,‏ إلي حيث يكبر الصغير‏,‏ ويشيخ الكبير‏,‏ ويموت الشيخ‏...‏ إلي حيث يسكن الناس ليلا ويسعون نهارا‏.‏
ويزرعون خريفا ويحصدون ربيعا‏.‏ عندها تدخل ثانية نطاق الزمن الدوار‏,‏ فتدور معه دورته وتنطلي عليك حيلته‏.‏

والشاهد أن الزمن خلق من أجل الانسان‏,‏ وهو سنة من سنن الخالق في كونه وأساس في حسابه فمجموع أفعالك سلبا وإيجابا في وقت معلوم‏(‏ زمن التكليف‏)‏ هي الفيصل في أخراك‏.‏ ولو أنك ستعيش أبدا‏,‏ لما كان هناك كتاب ولاحساب‏.‏
كان طبيعيا أن يدرك الانسان الأول قيمة الزمن‏.‏

أن يدرك ضعف حيلته‏,‏ فهو محدود في مكانه وان بعدت به المسافات افقيا‏(‏ البعد الأول‏),‏ عن كوخه‏,‏ وهو محدود في قدرته‏,‏ فهو لا يستطيع أن يفارق الأرض رأسيا‏(‏ البعد الثاني‏)‏ إلا لأمتار ولحظات‏,‏ وهو أيضا محدود في زمانه‏(‏ البعد الثالث‏),‏ فهو لا يعيش ثانية أكثر من عمره‏,‏ ولن يطيق أحباؤه‏,‏ جسده‏,‏ ليلتين بعد انسلاخ الروح منه‏!!‏ ومن ثم كان علي هذا الانسان‏,‏ وهو يؤسس لعمران الأرض‏,‏ أن ينسج وجوده الرقيق من هاتيك الخيوط الثلاثة‏,‏ ويمد أبسطة عقله المعرفي فوقها‏.‏
ويسجل التاريخ أن أول قوم وضعوا القواعد الحسابية للزمن هم القدماء المصريون‏.‏ فهم أول من افترض أن السنة الشمسية‏365‏ يوما‏(‏ بدأ التقويم المصري عام‏4241‏ ق م‏),‏ قسموها إلي ثلاثة فصول هي إخت‏(‏ بداية العام‏),‏ برت‏(‏ فصل الثمار‏)‏ و شمو‏(‏ فصل الجفاف‏).‏ وهم كذلك أول من قسم اليوم إلي ساعات بغرض التعبد‏.‏

والبابليون هم أول من استخدم السنة القمرية واحتسبوها‏354‏ يوما‏.‏
أعقب ذلك تقويم روماني‏(753‏ ق م‏)‏ ـ نسبة إلي رومولس ـ اعتمد السنة القمرية‏10‏ أشهر فقط‏.‏

ثم عدله يوليوس قيصر‏(‏ التقويم اليولياني‏)‏ إلي سنة شمسية من‏365‏ وربع اليوم‏,‏ وعدل أغسطس قيصر الشهور لكي تأخذ شكلها الحالي‏(‏ لاحظ أن كلا من شهري يوليو وأغسطس‏31‏ يوما برغم تتابعهما‏).‏ أما ديونيس أكسيجيوسفهو أول من ربط بين التقويم اليولياني وميلاد السيد المسيح‏,‏ الذي حدث في السنة‏754‏ رومانية أو ما يوافق السنة الأولي بعد الميلاد‏(‏ لاتوجد سنة صفرية في التقويم الميلادي‏)‏ وفي العام‏1582‏ م جاء الربيع في‏11‏ مارس وليس في‏21,‏ فتم تعديل التقويم اليولياني للمرة الأخيرة‏,‏ في عهد البابا جريجوريوس الثالث عشر وسمي بالتقويم الجريجوري‏,‏ وهو الذي نستخدمه حاليا‏.‏
أما تحدي بداية السنة‏,‏ فلم يكن سهلا‏,‏ كما تتصور‏,‏ اذ كانت السنة في ألمانيا تبدأ في‏25‏ ديسمبر وفي روما‏25‏ يناير وفي البندقية‏(‏ إيطاليا‏)‏ كانت تبدأ في‏1‏ مارس‏,‏ وفي انجلترا في‏25‏ مارس‏.‏

وفي فرنسا‏,‏ فإن رأس السنة كان يتنقل مع عيد الفصح ولذلك تراوح عامهم بين‏330‏ و‏400‏ يوم حتي عهد الملك شارل التاسع‏(1564)‏ فتحدد‏1‏ يناير بداية لعامهم‏.‏
ولم تفعل ذلك انجلتر ا الا في العام‏1752‏ م وتأخرت روسيا إلي العام‏1917‏ لتكون آخر الأمم الغربية التي تأخذ بالتقويم العالمي‏.‏

انسان العصر الحديث إذن يبدو محظوظا إلي حد كبير‏,‏فلقد دانت له الأرض وازينت‏.‏ ولكنه لم ينجز ما أنجزه من سؤدد‏,‏ إلا فقط بمضاعفته أبعاد وجوده الثلاثة‏,‏ مرات معدودة‏.‏ فالمسافة التي صار يقطعها بعيدا عن مسقط رأسه‏,‏ تضاعفت إلي آلاف الأميال‏,‏ ومثلها أيضا المسافة التي صار يقفزها لأعلي‏,‏ في عنان السماء‏(‏ الطائرات وناطحات السحاب‏).‏ أما الزمن نفسه‏,‏ فلقد تضاعف مئات المرات‏.‏ فتصغير وحدة الزمن من ساعة الي ثانية إلي فيمتوثانية‏(‏ اكتشاف زويل‏),‏ قد مكن انسان القرن الحادي والعشرين من أن ينجز أشياء في يومه الواحد‏,‏ كانت تستغرق سنوات من جده الأقرب‏.‏
وهذا التمدد الحادث في الإحداثيات الثلاث‏,‏ لو أنه تجمع حسابيا في محور واحد فقط‏,‏ وليكن الزمن موضوعناـ فإننا نجد منا الآن من يتناول وجبات يومه الثلاث في ثلاث قارات مختلفات‏,‏ ويؤدي الحج في يوم واحد‏(‏من بعد أكثر من‏3‏ أشهر‏).‏ ويستطيع أن يضارب صباحا في بورصة نيويورك ويودع أمواله في هونج كونج ثم يعقد صفقة في طوكيو وقد يحضر اجتماعا في مساء نفس اليوم علي الإنترنت يشاركه أناس في واشنطن ولندن وباريس‏,‏ في نفس اللحظة‏.‏ وهي أمور‏,‏ قد قضي جده‏(‏ المتوفي منذ عقدين فقط‏)‏ جل عمره ولما ينجز احدها‏.‏

والمعني ان الإنسان الحديث ـ بقياس الأفعال إلي الأعمار قد طال عمره إلي سنة من عمر انسان القرن المنصرم‏,‏ وعشرة آلاف سنة من عمر الإنسان القروسطي‏.‏
ومن ثم فإن مسئولية الإنسان واعباءه‏,‏ صارتا مضاعفة مئات المرات‏(‏ بامتداد عمره‏).‏ ولعل ذلك هو السبب الكامن‏,‏ الذي يجعلنا ـ مع تقدمنا المريع ـ أقل سعادة من أجدادنا‏,‏ وأكثر منهم توترا وقلقا‏
وصلني عبر الايميل