بن لادن
من أمريكا إلى منطقتنا


الرسالتان الصوتيتان الأخيرتان لابن لادن يختلفان تماما عن الرسائل السابقة التي كانت موجهة لأمريكا وحلفاء أمريكا. هاتان الرسالتان موجهتان بشكل واضح للعالم الإسلامي وفي كل رسالة هدف مختلف. وفي نظرنا تعتبر الرسالتين دليلا على وجود استراتيجية واضحة عند الشيخ في تعامله مع الأحداث المقبلة. وسنرى كيف أن كل رسالة قد صيغت بعناية بعناية سواء من ناحية الهدف العام والتأثير النفسي أو من حيث المحتوى التفصيلي والتأثير المباشر.

الذين درسوا الرسالتين بعناية وربطوها برسائل بن لادن السابقة أدركوا أن الشيخ يحسب كلماته ويوقتها بعناية لأمور مقصودة بتشكيلة استراتيجية. ويقول الذين رصدوا خطابات بن لادن منذ أحداث سبتمبر أن تحول الخطاب من خطاب موجه لأمريكا على شكل تهديد بضربة إن مضت بضرب العراق ثم خطاب موجه لحلفاء أمريكا بمعاقبتهم إن شاركوها في ذلك ثم تجاهل أمريكا في الرسالتين الأخيرتين وتخصيص الخطاب للمسلمين يبدو أمرا مدروسا بعناية.

وربما كان التركيز في الرسالتين على تهيئة الشعوب للمرحلة القادمة وتهيئة المجاهدين نفسيا ومعنويا وعسكريا وشرعيا لحرب شاملة دليل على أن الشيخ يريد أن يقرن استعداداته لضرب أمريكا بعمل شامل يتزامن مع ذلك في المنطقة. ولعل الشيخ يريد أن يستغل المعركة القادمة حول العراق استغلالا أقصى في هذا الاتجاه ليجعل العراق طعما كبيرا تبلعه أمريكا من اجل ان تبدأ حلقات انهيارها كما ينقل عنه أنه يبشر بذلك. وبهذا تعود المعركة لتصبح بين القاعدة وأمريكا وليس بين العراق وأمريكا ويصبح العراق مجرد ميدان بداية هذه المعركة.

الرسالة الأولى


الهدف الأهم المرجعية ودور الزعيم
إذا درست الرسالة الأولى بعناية سيتبنين كيف أن الشيخ مارس دور الزعيم، أو دور المرجع أو الموجه أو القائد للمسلمين عموما ولأهل المنطقة التي ستتعرض للكوارث خصوصا. كان خطاب الشيخ محتويا على أهم بندين يحتاجها الناس من الزعيم أو الموجه أو المرجع وهما أولا: تحديد الموقف من الأحداث والأشخاص والدول، وثانيا تحديد الواجب الذي على المرء تنفيذه عندما تندلع الحرب.

المواقف المجردة: لقد حدد الشيخ الموقف من الحرب وأهدافها، والموقف من أمريكا والحكام في العراق، والموقف ممن يدعم أمريكا ضد العراق، والموقف من الأمم المتحدة، وحدد طبيعة المرحلة وحقيقة الانظمة وحقيقة بعض الكيانات من حيث قابليتها للزوال. لقد حدد الشيخ الموقف الشرعي والموقف السياسي والموقف الظرفي.

الدور العملي: وبعد أن حدد الشيخ المواقف المجردة انتقل إلى تحديد الدور العملي تجاه كل قضية بالتحديد ماذا يجب عمله في العراق وماذا يجب عمله في كثير من بلدان المسملين.

ومع العجز والتبعية والخنوع لدى كثير من الأنظمة العربية والإسلامية لأمريكا يشعر المسلمون بتبعية تلقائية لمن يعطيهم أجوبة على هذه الأسئلة الحرجة خاصة إذا كانت هذه الأجوبة جريئة وموافقة لما لديهم من تطلعات في بغض أمريكا وسياستها. وهذا هو ما يساهم في نقل صورة الشيخ بن لادن من مجرد بطل ومخلص إلى دور الزعيم او الموجه. ومع أن الشيخ نفسه ممن لا ينقصه الشعبية ولا الكاريزمية لكن مزاولة دور المسؤول أو المرجع أمر مهم وحساس في هذه المرحلة التي ربما تقبل فيها المنطقة على خلخلة وفوضى ورغبة في التوجيه والنظر.

تحديد الدول القابلة للتغيير
سمى الشيخ بن لادن دولا محددة في مقدمتها "بلاد الحرمين" كدول مهيئة للتغيير وخاطب مؤيديه وأتباعه بأن يتهيأوا للسعي للتغيير فيها. ومن المعروف عن الشيخ أنه ليس من الذين يتحدثون بطريقة رغبوية أو فانتازية خيالية، ولهذا فإن هذا الخطاب يدل على أن الشيخ يعتبر الحرب القادمة من قبل أمريكا ضد العراق انطلاقا لمشروع تغيير كبير في المنطقة، لكنه هذه المرة لن يكون على يد الغرب بل على يد المجاهدين وبتخطيطهم.

تفاصيل تورا بورا
أطال الشيخ في الحديث عن معركة تورا بورا وذكر تفاصيل دقيقة عن سير المعارك وحصيلتها. وفي نظرنا يعتبر تفصيل الشيخ له هدفان،
الأول نشر أول رواية من جهة المجاهدين العرب عن حقيقية معركة تور بورا حيث لم يعرف الناس عن تفاصيل هذه المعركة لحد الآن إلا من طرف الأمريكان وحلفائهم. ونشر هذه التفاصيل هام لأن الصورة التي لدى الناس أن الآلة العسكرية الأمريكية المتطورة والمعتمدة على التكنولوجيا الحديثة عوضت عن ضعفهم المعنوي وحلت لهم مشكلة صعوبة التضاريس في أفغانستان ولذلك يعتقد الكثير أنه لم ينج من معركة تورا بورا إلا عدد قليل جدا من المجاهدين العرب.
الثاني تهيئة من سيواجه أمريكا في العراق معنويا وميدانيا لتلك المواجهة. معنويا من خلال تكذيب المزاعم الأمريكية وإظهار ثبات الشباب وعجز الآلة الأمريكية عن الميل المربع الذي هو ميدان المعركة، وميدانيا من خلال إظهار فشل الآلة الأمريكية أمام تكتيك الخنادق المسقوفة.
الرسالة الثانية


الهدف الأهم إسقاط شرعية النظام
بخلاف كلمات الشيخ بن لادن السابقة التي لم تتعد الإشارات الضمنية أو العامة لعدم شرعية النظام السعودي فإن رسالته الأخيرة كانت رسالة مخصصة تقريبا لتحطيم شرعية النظام السعودي وبقية الأنظمة. وقد احصينا في رسالة الشيخ الأخيرة أكثر من تسع مواضع يصرح فيها بإسقاط شرعية النظام السعودي بألفاظ وصيغ مختلفة، فمرة هم عبيد الصليبيين، ومرة هم كرزاي الجزيرة، ومرة طواغيت ومرة أعداء الإسلام ومرة خرجوا من الملة الخ. وفي هذه الرسالة لم يتردد الشيخ في وصف الملك عبد العزيز بأنه كرزاي الجزيرة نصبه الانجليز ضد الدولة العثمانية ولم يتردد كذلك في التصريح بخروج عبد الله بن عبد العزيز من الملة بسبب مبادرته في مؤاخاة اليهود. وبالمناسبة فإن النظام المهم في كل أنظمة الخليج والمنطقة هو النظام السعودي وتقويض شرعيته أهم من تقويش شرعية أي نظام آخر.

ولإسقاط النظام إسقاط علماء النظام
الأخطر من كلام الشيخ بن لادن في الحكام كلامه الصريح في علماء السلطة الذين كرر وصفهم بالخيانة بأشكال مختلفة وبطريقة مباشرة وصارمة. وتصرف الشيخ هذا مهم لأنه يصعب تقويض شرعية النظام في بلادنا دون تقويض مرجعية العلماء لأنهم لا يزالون السبب الأهم في توفير الشرعية للنظام أمام الناس ولن يجدي إسقاط شرعية النظام بينما هم يمجدونه ويطوعون الناس له.

لماذا تقويض شرعية النظام وشرعية العلماء
إذا تأملنا إن الشيخ أشار لتقييد شباب الإسلام ومنعهم من الجهاد بقوة السلطة ووضعنا في ذهننا حاجة السلطة للشرعية وحاجة الشرعية للعلماء علمنا أن الشيخ يريد لقيود الشباب أن تزال معنويا وشرعيا قبل ان تزال عمليا. ولا يعني هذا أن التصريح بعدم شرعية النظام مسألة براجماتية عند الشيخ لأن كفر النظام السعودي وسقوط مرجعية علمائه مسألة محسومة عند الشيخ منذ عهود الجهاد الأولى لكن هذا التصريح وبتلك القوة يعني أن الشيخ بحاجة لإزالة الحواجز المعنوية والشرعية أمام شباب الجهاد للانطلاق والمساهمة في المشروع القادم. ولعل الشيخ يريد بخطابه هذا أن يوصل الرسالة لكل القوى في الجهاز الحاكم السعودي من جيش وقوات أمن حتى تتخلى عن دعم النظام ولا تصبح خصما للمجاهدين خدمة لنظام غير شرعي. وهذا دليل آخر على أن الشيخ يعد المنطقة كلها لحالة المواجهة الشاملة التي تصبح فيها الأنظمة من ضمن الجهات المستهدفة وليس أمريكا فحسب.

الجزيرة هي الميدان
أصر الشيخ بتكرار يكاد يكون متكلفا على أنه حتى لو بدا أن ميدان المعركة في العراق فإن ميدانها الحقيقي هو في جزيرة العرب وأن مراد أمريكا هو السيطرة على هذه الجزيرة بعد تقسيمها. ولعل الشيخ أراد من خلال توضيح هذه القضية إشعار أهل الجزيرة أنهم مستهدفون بشكل مباشر وأن الحكام فضلا عن "كفرهم وطاغوتيتهم" فإنهم إما غير رافضين لذلك أو عاجزين عن عمل شيء تجاهه. وعجز النظام عن عمل شيء خطير مثل هذا يصب في نفس الاتجاه وهو تحطيم الشرعية السيادية بعد تحطيم الشرعية الدينية.

التوقيت خدم الشيخ
لربما لم يكن الشيخ ليستطيع أن يتحدث بمثل هذه الجرأة في إسقاط شرعية النظام السعودي وإسقاط مرجعية علمائه في فترات سابقة. لقد جاءت أحداث سبتمبر بعد سجل طويل من الممارسات التي تقوض شرعية النظام السعودي وتسقط شرعية العلماء وصادف حدوث أحداث سبتمبر بعد وفاة الشيخين بن باز وبن عثيمين. وبعد الأحداث اندفع النظام السعودي بحماس لدعم الأمريكان معنويا وماديا ضد ما يسمى بالإرهاب ثم أطلق الأمير عبد الله مبادرته في مؤاخاة اليهود ولم يقصر علماء السلطة في سلسلة من المواقف والفتاوى في نفس الاتجاه، وجاءت مواجهة العراق وأمريكا الآن وتسربت الأخبار عن دعم سعودي جديد للضرب الأمريكية للعراق فأصبح التصريح بإسقاط شرعية الدولة والقضاء على مرجعية العلماء أمرا مستساغا ومقبولا بل ربما يلاقي حماسا عند الناس بينما ربما كان سيرفض لو صرح به الشيخ قبل ذلك.

حصار نفسي على المخالفين
لم يكتف الشيخ بانتقاد علماء السلطة بل كرر في أكثر من موضع خطورة الشرائح الأخرى من العلماء الذين ليسوا علماء سلطة لكنهم يخذلون عن الجهاد لتأول أو لخوف وجزع. ومع أن الشيخ أثنى على تاريخ هذه الشرائح ولما كان لهم من دور في التربية والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا أنه اعتبر مفعولهم في التثبيط عن الجهاد لا يقل عن علماء السلطة. ومع أن الشيخ لم يسم أحدا من هؤلاء لكن شرحه كان واضحا في تحديد المقصودين بذلك. وبما أن الشيخ يعلم مدى القبول له في الشارع فلربما أراد لهؤلاء أن يعيشوا حالة حصار نفسي ويقعلوا عما أسماه تثبيط الناس عن الجهاد.

ماذا تعني "لن نخذلكم"؟
جاء في الرسالة الثانية عبارة مهمة للشيخ في وعده لمن يستمع ندائه قال فيها "لن نخذلكم" بمعنى إنكم إن عملتم بندائنا للجهاد الشامل وتحررتم من قيود الحكام وعلماء البلاط فإننا لن نخذلكم. من يرصد كلمات الشيخ بن لادن بعناية يستطيع أن يفهم بسهولة أن قصد الشيخ بن لادن هو أن القاعدة لن تخذل هؤلاء الشباب بالقيام بالدور الأصعب مما يقومون به. ونحن لا نفهم من ذلك إلا ضربة موجهة لأمريكا خاصة إذا علمنا أن الشيخ هدد بشكل شبه صريح بمثل هذه الضربة وعلمنا كذلك أن إرهاصات هذه الضربة موجودة في كل من دوائر المخابرات الغربية أو دوائر التيارات الجهادية.

تهيئة لمواجهة تاريخية شاملة
لم يسبق أن وجه الشيخ خطابا بالتهيئة لمواجهة تاريخية شاملة وتجييشا عاما وتوسيعا لدائرة الخصوم ليتضمن إدراج الأنظمة العربية الموالية لأمريكا مثل ما لوحظ في خطابه الثاني. تحدث الشيخ عن الجهاد كمهمة مباشرة وعلى الجميع شبابا وكهولا وتحدث عن اقتراب المواجهة وتحدث عن الأنظمة والعلماء بكل شرائحهم وتحدث عن دور القاعدة نفسها ثم ختم بأبيات شعر يحضر فيها لساعة الحسم. هذا التجييش الشامل والحاسم دليل على أن الشيخ يستعد بشكل واسع وكبير للمعركة القادمة ويريد للناس أن تستعد معه. وحرص الشيخ أن يهيء الناس عموما وأتباعه خصوصا لصعوبة المرحلة القادمة والمعاناة التي ستحصل فيها حيث حرص على التأكيد على أن الجهاد يعني أن الذين سيتبون الراية الإسلامية سيجدون أنفسهم في وجه تآمر عالمي لكن الظفر سيكون لهم.
الخلاصة
يا أهل المنطقة أنتم بين يدي انقلابات هائلة
فاستعدوا على قدر الخطر

خلاصة الرسالتين أن بن لادن يقول لشعوب المنطقة كلها إنكم أمام تطورات خطيرة تبدأ بانقداح شرارة الحرب على العراق وتتحول إلى انقلاب كامل في كل المنطقة بطريقة تحتاج تجييش كل القوى الجهادية بشكل شامل تصبح فيه الأنظمة من ضمن المستهدف من قبل هذه العمليات الجهادية. ويهيء الشيخ الشعوب عموما وشباب الجهاد خصوصا لعمل متكامل وطويل المدى يتضمن أجزاء ضد أمريكا وأجزاء ضد الأنظمة الموالية لها حتى يحدث تغييرا هائلا يخلخل أصل النظام القطري كله في المنطقة. ولعل هذا مصداق ما استقرأناه من رسائل الشيخ السابقة ورغبته في إعادة ترتيب النظام العالمي سواء من خلال إزالة مركزية قوة الغرب أو من خلال تقويض مفهوم القطرية في المنطقة.