لم تشهد العلاقات السعودية الأمريكية تدهورًا كما في الوقت الراهن سوى خلال حرب أكتوبر 1973، التي تحدت فيها المملكة الغرب، وقطعت عنه واردات النفط ردًّا على مساندته الفجة للعدوان الصهيوني. وبعد أن كان الانطباع السائد في الإدارة ووسائل الإعلام الأمريكية منذ حرب الخليج أن أمريكا تأمر فتُطاع، على اعتبار أن أمن المملكة أصبح في يد الأمريكان، قلبت توازنات حرب أفغانستان 2001 الأمر رأسا على عقب، ليس فقط لأن الأمريكان تمادوا في مطالبهم الخاصة بالدعم العربي لهم، ولكن لأن مطالبهم طالت ثوابت دينية إسلامية سعودية هي في حد ذاتها الدعائم التي تقف عليها المملكة وتعبر عن شرعيتها!.
فغالبية المتهمين في تفجيرات أمريكا – حسب المزاعم الأمريكية – سعوديون، وغالبا ما تصف وسائل الإعلام الأمريكية والغربية وحتى الروسية الإسلاميين الحركيين بأنهم (وهابيون) وهو المذهب الذي تقوم عليه المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز، والمطالب الأمريكية من السعودية – ضمن حملة طلب الدعم العربي - ذهبت لأبعاد لم تكن تتوقعها السعودية، مثل المطالبة بمنع الدعم السعودي للمدارس الإسلامية في العالم، بزعم أنها مراكز لتخريج (إرهابيين)، وأصبحت المطالب الأمريكية عموما أشبه بالمطالب الإسرائيلية للفلسطينيين عقب توقيع اتفاقيات أوسلو التي وصلت لحد المطالبة بإلغاء تدريس آيات قرآنية ودروس تتناول اليهود في القرآن، بدعوى أنها تشجع على العنف ضد الدولة العبرية!
ولو اقتصرت الحملة الغربية والأمريكية ضد المملكة العربية السعودية على الوسائل الإعلامية لجاز التبرير بأنه (موقف إعلامي) حر لا سلطة للحكومة عليه، خصوصا أنه سبق أن تكرر مرات ومرات، ولكن اللافت أن هذه الحملة والهجوم الصارخ - والذي لم يسبق أن كانت السعودية هدفا لمثله، كما أنه تجاوز كل الحدود والخطوط وبات يدور حول تغيير نظام الحكم هناك بدعوى الفساد – تخطت وسائل الإعلام الأمريكية لتمتد إلى بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي رغم محاولات رأب الصدع!
فقد قال السناتور جوزيف بيدن رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي يوم 24 أكتوبر 2001: إن "الوقت حان لإبلاغ المملكة العربية السعودية بضرورة التوقف عن تمويل المدارس الدينية (المتشددة) في شتى أنحاء العالم". مشيرا إلى أن "السعوديين يقدمون جزءا كبيرا من تمويل المدارس الدينية (المتشددة) التي يمتلئ الكثير منها بمشاعر الكراهية للأمريكيين".
وقال: إنه يدرك أن الولايات المتحدة تستورد نحو 1.6 مليون برميل من النفط يوميا من المملكة العربية السعودية، إلا أنه يتحتم على واشنطن المجازفة بإجراء "نقاش بسيط ومباشر"، وعليها أن تقول للسعوديين: "لا تتمادوا.. توقفوا عن مثل هذه النشاطات، وإلا ستكون هناك عواقب"!!
واللافت هنا أن بعض "أصدقاء السعودية"- وليس فقط أعداؤها- في الحكومة الأمريكية وخارجها باتوا يقولون: "إن النظام التعليمي (الإسلامي بالطبع) في السعودية مسؤول عن تخريج آلاف الشباب المتزمتين من المدارس الدينية، وإن هؤلاء يمثلون مشكلة ليس فقط للغرب بل للسعودية".
طالبان صنيعة السعودية
ووصل الأمر لحد توجيه نقد لاذع للحكم السعودي وللأموال السعودية، والزعم أنها خلقت طالبان ومولت المدارس الدينية في باكستان التي ظهرت منها طالبان، ونقد رفض السماح للمخابرات الأمريكية "سي آي إيه" أو لمكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" بالتحقيق في خلفيات منفذي تفجيرات أمريكا المزعومين، وكذلك صدور تصريحات من علماء دين سعوديين بارزين -مثل حمود بن عقلاء الشعيبي- تدعو لدعم طالبان وتكفر أمريكا وتحرم التعاون مع اليهود أو النصارى.
ومع أن الحكومة السعودية اجتهدت وسعت للتصدي إلى بعض الدعوات التي أطلقها علماء دين بالجهاد ونصرة الأفغان عبر صدور بيان رسمي من بعض علماء المملكة (مفتي السعودية) بتحريم قتل غير المسلمين، وهو ما رصدته صحيفة "الفاينانشيال تايمز" يوم 27 أكتوبر تحت عنوان: "حكام السعودية يتصدون لدعوات الجهاد"، إلا أن الحملة الأمريكية والغربية استمرت بشكل عدائي، وهو ما دفع كبار المسئولين السعوديين للرد وتوجيه نقد لاذع للحملات التي يجري تحريكها ضدها.
ويبدو أن رصد رد فعل شعبي سعودي معاد لأمريكا، خصوصا في خطب أئمة المساجد قد أثار القلق الأمريكي؛ إذ أطلق أئمة المساجد هناك في صلوات الجمع دعوات من أجل أن يحمي الله مسلمي أفغانستان، كما أطلقوا اللعنات على "أعداء الإسلام" دون أن يشيروا إلى الهجوم الأمريكي البريطاني على أفغانستان.
وحذر إمام الحرم الشريف في مكة المكرمة الشيخ سعود الشريم من (الفتنة)، فيما دعا إمام المسجد النبوي الشريف إلى "أن يحفظ الله المسلمين في أفغانستان، وأن يدمر أعداء المسلمين" متجنبا أيضا الإشارة إلى الهجوم.
ومع ذلك زاد الغضب السعودي بعدما عادت المقالات الغربية لتطالب السعودية بالدخول في صراع مع علماء دين مناهضين لأمريكا أو يقومون بأنشطة دينية لا ترضى عنها أمريكا، كما اتهمت مسئولين بممالأة (المتشددين) حتى تضمن عدم إثارتهم لفساد بعض الأمراء، بل وتركز على ما تسميه الفساد بين بعض الأمراء، وتؤكد أن أمريكا تتجسس عليهم وكأن الأمر رسالة ضغط وتحذير(!)، حتى أن صحيفة "نيو يوركر" الأمريكية نشرت أواخر أكتوبر 2001 ما قالت إنه "مضمون عمليات التنصت التي قامت بها أجهزة وكالة الأمن القومي" حول ما أسمته "المجون الجنسي والكحولي والمالي للأمراء السعوديين الذي أخذ بُعدا خطيرا للغاية على استقرار المملكة، وأصبح أحد عناصر الصراعات الداخلية".
وعندما طرح أحد الصحفيين سؤالا على الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة في الولايات المتحدة حول هذا الفساد الذي يتحدث عنه الغربيون، قال: "لقد أنفقت الأسرة المالكة 400 مليار دولار لتنمية العربية السعودية. وإذا قلتم لي بأن 50 مليارا استخدمت بصورة سيئة سأقول لكم نعم. لكن ماذا يمكن عمله؟ إننا لم نخترع الفساد".
وبالطبع لم ينس المسئولون الأمريكان اللمز والغمز بأن السعودية هي التي صنعت نظام طالبان، وأنها بدءا من عام 1999 وحتى منتصف عام 2000، صدرت 150 ألف برميل من النفط يوميا مجانا إلى باكستان وأفغانستان كمساعدة خارجية. حيث تزعم نشرة (بتروليوم إنتيليجينس ويكلي) أن هذه الشحنات – كما يقول تجار النفط- زادت عن قوة أفغانستان الممزقة بالحرب الأهلية، وأن النفط ربما أعيد بيع جزء منه لتسليح الطالبان.
ومن الاتهامات الأمريكية أيضا أن أكثر من 25 ألف سعودي حاربوا لنصرة قضية الإسلام في البوسنة والشيشان وأفغانستان - حسبما يروي سعد الفقيه أحد المعارضين السعوديين في لندن- عاد كثيرون منهم لبلدهم ليقوموا بجمع المال أو المجندين للجماعات الإسلامية. كما أن كثيرين من الذين اشتركوا في الهجوم على أميركا سعوديون.