(الخطبة الأولى)
أيها الناس: قال رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع الخميس إن الفلسطينيين قد يسعون لقيام دولة واحدة تضم الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي ويطالبون بنفس الحقوق التي يحصل عليها الإسرائيليون، إذا واصلت إسرائيل تهديداتها بضم أجزاء من الضفة الغربية. وقال قريع إن حل "دولة واحدة وشعبين" فكرته الشخصية وليست سياسة فلسطينية رسمية، على الرغم من قوله إن الفلسطينيين كانوا قد اقترحوا هذا الحل عقب احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في حرب 1967!
سبحان الله! الله أكبر! يا ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، يا ربنا لا تنزل علينا صاعقة تمحقنا بتفوهات قادتنا وزعمائنا، يا ربنا لا تزلزل الأرض من تحت أقدامنا بتجاوزات المستهترين بقضايانا، والمتجاوزين لكل الخطوط الحمراء الإسلامية والقومية والوطنية والأخلاقية والأدبية، يا ربنا وإلهنا، يا رحمان يا رحيم، أُلطف بنا فيما جرت به المقادير، فإنك قد خلقتنا في زمن تعجب منه الأعاجيب، ووليت علينا رجالاً ليس لهم من مقومات الحكم نصيب، فلك الحمد في السراء والضراء، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
أيها الناس: فلسطين اليوم هي أرض الفتن، وفتنتها في المبادرات السياسية التي تطرح لحلها اليوم أعظم من فتنتها وقت احتلالها، وكلما طرحت مبادرة ظن الناس أنها الفتنة الآخرة، وإذا بالتي تليها شرٌ منها، وقد أصبح الحليم من أهل فلسطين حيران، وأصابته من تلك الفتن النيران. فمن سفيه ليبيا خرجت قبل مدة فتنة مقترحات الدولة الإسراطينية، وكُشفت مؤخراً اتصالاته السافرة مع اليهود دون خجل أو وجل، وكان سادات مصر سباقاً في إعلان الخطوة الآثمة عام 1977، والتي سبقتها خطوات سرية من سلفه الذي فتح باب الاعتراف بالكيان الغاصب لفلسطين بقبوله لمبادرة روجرز عام 1970، ومن قبله فتنة بورقيبة التي أطلقها في أريحا عام 1964م، وإني لا زلت أذكر ما طرحة ملك الأردن السابق من فتنة المملكة المتحدة عام 1972، وإقامة دولة كونفدرالية بين اليهود والفلسطينيين والأردنيين! هذا ما ظهر من الفتن، وما بطن كان أعظم. أما رد واشنطن على فتنة قريع الإسراطيني، فقد تمثل في رفض وزير الخارجية الأمريكي القاطع للفكرة (الفتنة) عندما قال إن بلاده ملتزمة بحل الدولتين، وقال للصحفيين: "أعتقد أن هناك حلاً واحداً فقط مناسباً، دولة للفلسطينيين يطلق عليها فلسطين، ودولة يهودية هي دولة إسرائيل الموجودة حاليا". وأما في باريس المنشغلة بحجاب المرأة المسلمة، فقد قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك إن الوقت قد حان لإعادة إطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط, داعيا من جديد لعقد مؤتمر دولي وإقامة آلية رقابة دولية، وهذا لحن مختلف، وتغريد خارج السربين الأميركي والبريطاني.
أيها الناس: ما الذي يجري؟ وما هذا التشابك في الخطوط السياسية؟ وكيف لنا أن نفسر تلك المبادرات المتناقضة؟ ولماذا ظهرت دفعة واحدة في هذا الوقت بالذات؟ وهل لهذا الأمر صلة بما يحصل في العراق، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ ولكن قبل الإجابة عن تلك الأسئلة، لا بد من تذكيركم والعالم أجمع بأن قضية فلسطين قضية إسلامية، لا شرقية ولا غربية، وستحترق أصابع كل من يحاول العبث بها وبمقدساتها، ولن تكتفيَ الأمة بضربه بالنعال، بل ستنسف أساس وجوده نسفاً، وستجعله عبرةً وسلفاً، ولا تعدو المسألة كونها مسألةَ وقت، حتى تمتلئ وسائل الإعلام العالمية بأخبار هلاكهم ورحيلهم، {وما ذلك على الله بعزيز}. وأما ما يحصل، فهو ليس من الصناعة الفلسطينية أو الليبية أو المصرية أو الأردنية، فباعُ هؤلاء في السياسة قصير، ووراء تدبيرهم يكمن التدبير، وخلف تصريحاتهم يقبع الشر المستطير! ففلسطين بعد سلخها عن جسم الدولة الإسلامية العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى مباشرة، قد خضعت للإحتلال البريطاني المباشر ثلاثين عاماً، أُجبرت بريطانيا بعدها على إنهاء الاحتلال (أو ما كان يعرف بالانتداب) بعد بروز الولايات المتحدة الأميركية على الحلبة الدولية بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية. وهنا يكمن لب الصراع على القضية الفلسطينية. إذ أن بريطانيا ومعها أوروبا ترى إقامة دولة واحدة في المنطقة تشمل اليهود والفلسطينيين والأردنيين، وأميركا ترى ضرورة إقامة دولة (مستقلة) لكل شعب، وهذا يفسر عدم قيام دولة فلسطينية عام 47، ويفسر اختلاف مشاريع الحلول التي تتقدم بها دول عميلة للإنجليز والأوروبيين، عن المشاريع التي تقدمها دول موالية للأميركيين.
أجل أيها الناس، هكذا وبكل بساطة ووضوح يمكن تفسير مشروع المملكة المتحدة، وغضب أميركا منه وتهديداتها لحسين حتى قال لإرضائها: سأشطب كلمة الكونفدرالية من قاموسي السياسي. هكذا وبكل بساطة ووضوح يمكن تفسير الخزعبلات الإسراطينية القذافية ورفض أميركا لها، وهكذا وبكل بساطة ووضوح يمكن تفسير اتفاقية أوسلو واستماته أميركا في إجهاضها وإزالة آثارها، وهكذا وبكل بساطة ووضوح يمكن تفسير الضغوطات المصرية على السلطة الفلسطينية وإسرائيل معاً للسير في خارطة الطريق، وتكسّر جميع جهود الوساطة المصرية على صخرة رفض الطرفين الفلسطيني قبل الإسرائيلي، وهكذا وبكل بساطة ووضوح يمكن تفسير تصريحات قريعٍ الإسراطينيِّ بالتخلي عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وبدء العمل للإندماج في دولة يهود كي يكون الفلسطينيون مواطنين من الدرجة العاشرة بعد الفلاشا والدروز!
أيها الناس: نحن أمام مسألة لا بد من توضيحها للعامة والخاصة، فإما أن تكون المناداة بدولة فلسطينية مستقلة خطأً قد ندمت الزعامة الفلسطينية على ارتكابه، ويجب عليها أن تعلن ذلك على الملأ، وأن تقول لأهل فلسطين خاصة، وللناس عامة، بأنها كانت تسعى وراء هدف غير قابل للتحقيق، وبعد هذه المصارحة السياسية تختفي تلك الزعامة تماماً، صوناً لماء وجهها الذي أراقته وهي تسعى جاهدة لتحقيق ذلك الهدف، وكبدت أهل فلسطين عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمنكوبين من أجل تحقيق ذلك الهدف الذي أصبح الآن على طاولة المساومات والتنازلات المعهودة. وإما أن يقولوا للناس إنا قوم لا نفقه ما نصنع، وما ندري أشر أريد بمن في السلطة أم أرادت بهم أميركا رشداً، وإنا منا الأميركيون ومنا الأوروبيون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً، وإنا لا نملك من قرارنا إلا بما يمليه علينا أسيادنا، فلا تلومونا فيما لا نملك. وهنا ينبغي عليهم أن يتركوا الساحة السياسية أيضاً، فهم ليسوا من أهلها، وقد شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بما كانوا يعملون. ولا مانع من أن يصدقوا مع شعبهم ولو مرة واحدة، بل إنا نريدهم، والله يشهد، أن يصدقوا مع الله وأن يتوبوا إليه، وسيقبلهم إن هم تابوا توبة نصوحاً، ولْتُترك القضية يتولاهما من هو أقدر منهم وأصدق. قال تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}.
أيها الناس: ليس العبث حاصلاً في القضية الفلسطينية فقط من دون قضايا المسلمين، بل إن كل قضاياهم قد تم العبث فيها، بعد أن تولى أمور المسلمين شرارُهم. فهذه كشمير أوشكت أن تضيع كما ضاعت فلسطين جراء حماقات وخيانات زعماء باكستان، وتصرفاتهم الرعناء في مؤتمر قمة دول جنوب آسيا (سارك)، وهذا جنوب السودان قد ضاع بعد أن وقع خونة الخرطوم على اتفاق تقاسم الثروة مع المتمردين الجنوبيين أمس بمنتجع نيفاشا الكيني.
وأما اللقاءات الثنائية السورية التركية، والمصرية الإيرانية فإنها تنذر بكوارث تجتاح المنطقة لا يعلم حجمها إلا الله، كون تلك الدول الأربع تشكل الأذرع الأميركية القوية في منطقة الشرق الأوسط، فلماذا بدأ الكشف عن التنسيق الكامل بينها، رغم إخفائه عقوداً طويلة. وقد بلغ تنسيقهم حداً أن ضاقوا ذرعاً بإطلاق إسم الشهيد خالد الإسلامبولي - الذي صرع فرعون مصر - على أحد شوارع طهران، ومحوا إسم الشاه البهلوي عن أحد شوارع القاهرة!
فاللهم رد كيدهم إلى نحورهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين.
(الخطبة الثانية)
أيها الناس: إن الأمر أمرُكم، فلا تسمحوا للعابثين بتوليه دون إذن منكم، وإن الأمة أمتكم، فلا تناموا عن الثعالب التي تمكر بها لتهلكها، والبلاد بلادكم فلا تقبلوا ببيعها رخيصة، والمقدسات مقدساتكم، فلا تتركوها مدنسة، وإن الدين دينكم، فلا يردنكم عنه أحد فتنقلبوا خاسرين، ولا تكونوا كالذين قيل لهم أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون، فعموا وصموا، ثم عموا وصموا كثير منهم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. ولن ينفعكم قريع ولا غيره، فعلى الباغي تدور الدوائر، ومن أحب قوماً حشر معهم. واعلموا كذلك أن الله سبحانه وتعالى قد حذرنا من فتنة لا تصيب الذين ظلموا منا خاصة، حيث يقول جل من قائل {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب}. فإذا تركنا هؤلاء العابثين يصولون ويجولون، وفي كل يوم يثيرون علينا فتنة، لا يُعصم منها إلا من رحم الله، فإننا نخشى أن تأتي فتنة من فتن شياطين الإنس هؤلاء تقضي علينا، ونرد على أعقابنا بعد أن هدانا الله. ولولا ثقتنا بنصر الله الأكيد، وفرجه القريب، لزهقت نفوسنا، ولطار لباب عقولنا، من هول هذه الفتن المظلمة. فقلوب العباد بين أصبعي الرحمن يقلبها كيف يشاء،
فإلى إنكار منكرات هؤلاء العابثين أدعوكم أيها المسلمون، وإلى الأخذ على أيديهم أستصرخ جميع المسلمين، فلم يبق لنا والله إلا أولو بقية من العاملين المخلصين ينهون عن الفساد في الأرض، ويعملون لإقامة
دولة الخلافة الإسلامية، وآخرون من أهل القوة والمنعة يغارون على دينهم ويحبون نصرته، يخافون عذاب الله ويرجون رحمته، فكونوا – رحمكم الله - من أي الفريقين ييسر الله لكم أن تكونوا.
أيها الناس: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا". فهل يصح لنا أن نترك هؤلاء يخرقوا سفينتنا فيوردونا المهالك؟ هل نتركم يغرقونا معهم بسفاهتهم؟ فما نحن والله من بلائهم ناجون، ولا من سفينتهم بمخرجين. والذي يتعين علينا أن نُقصيَهم عن قيادة هذه السفينة، حتى يأخذ القوس باريها، ويتولى القيادة فيها من هو أهل له، رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
فاللهم حول حالنا هذا إلى أحسن حال، وأكرمنا بفرج قريب عاجل، ونصر مؤزر مبين، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.