السلام عليكم
أرجو القراءة بهدوء مع عدم التسرع في أخذ الأحكام (ومن كان لديه أدلة فليأت بها لعلنا نستفيد )
مفكرة الإسلام : أمتنا الإسلامية في حاجة شديدة وماسة لإعادة النظر في تقويم الرجال لأن كثيرًا ممن يعتبرهم المسلمون من دعائم النهضة الحديثة لم يصبحوا كذلك في أذهان المسلمين إلا بسبب الدعايات المغرضة التي أرادت أن تضعهم في هذه المنزلة لحاجة في نفس مروجيها ولهدفهم المريب من نشر مذاهب هؤلاء القوم والتمكين لآرائهم، ولأن كثيرًا من الآراء المنحرفة التي لم تكن تستطيع أن تجد طريقها إلى عقول المسلمين ومجتمعاتهم إلا من خلال هذه الزعامات والقيادات ذات الألقاب الضخمة والتي لا يتطرق إلى الناس شك في إخلاصهم وعلمهم، ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال لا نقصد بذلك أن ننقص من قدر أحد أو نقيم محاكمة تاريخية لمن وارى الثرى أجسادهم وأكلها من سنوات بعيدة، ولكن نعطي كل ذي حق حقه ونكشف عوار من استتر بهالة براقة من صنيع غيره حتى لا يكون في بلاد المسلمين وتاريخهم أصنام جديدة تعبد من أناس يعتقدون في هؤلاء الأصنام العصمة من كل خطأ والبراءة من كل ذلك والإخلاص في كل عمل والله المستعان، وصفحتنا هذه لواحد من أكثر الناس غموضًا وأثرًا في جيل المسلمين في مطلع القرن العشرين وآخر التاسع عشر الميلادي، ويمثل الجيل الثاني لصنائع التغريب والمتغربين.
هو جمال الدين الأفغاني صاحب الشخصية الغامضة الكثيرة التنقل السويقة الاشتعال الثورية أينما حل في بلد من بلدان المسلمين، هناك اختلاف كبير في أصل جمال الدين هل هو أفغاني سني أم هو إيراني شيعي؟ والصحيح الذي دلت على الحقائق التي تكشفت بعد موته أنه كان إيرانيًا شيعيًا على مذهب الإثنى عشرية وذلك لعدة أسباب منها :
1 ـ أن أسرته كلها كانت موجودة في أسد آباد وهي قرية بالقرب من همذان بإيران ولا يوجد أحد من أهله أو أقربائه في أسد آباد بالقرب من كابل بأفغانستان التي يدعي أنه من أهلها .
2 ـ اسم والده وخادمه يدلان على أنه شيعي إيراني فأبوه اسمه [صفدر] ومعناها باللغة الفارسية [مفرق الأعداء] وهي عند الشيعة صفة خاصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهذا الاسم وقف على الشيعة لا يتسمى به أحد غيرهم خاصة الأفغان الذين بينهم وبين الشيعة عداء تاريخي قديم، أما خادمه الذي تركه بمصر بعد أن خرج منها فاسمه [أبو تراب] وهي كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو اسم أيضًا وقف على الشيعة.
3 ـ لهجة جمال الدين الأفغاني كانت فارسية خالصة تقطع بأنه كان إيرانيًا.
4 ـ معظم أصدقائه المقربين له والذين لازموه في كثير من رحلاته وأعماله كانوا من الإيرانيين .
5 ـ إشادته المستمرة بأهل إيران ووصفهم بالذكاء والفهم الصحيح لدين الإسلام.
6 ـ دعوته لإنشاء الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها بإيران وزيارته الكثيرة لإيران.
7 ـ الكتاب الذي ألفه ابن أخته [ميرزا لطف الله خان] والذي كان يلازمه في زياراته لإيران والذي كشف فيه عن حقيقة أهل جمال الدين الإيرانية.
تلقى جمال الدين علومه الأولية ثم توسع جدًا في دراسة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام إلى جانب دراسة الفقه وعلم الأصول وهي الدراسة الشيعية التقليدية التي تنمي ملكة الجدل وقوة الاستدلال، ولقد استفاد جمال الدين من انتسابه للأفغان لأنه أصبح بعيدًا عن سلطة ممثلي إيران وقناصلها في الخارج فحين أن أفغانستان لم يكن لها تمثيل خارجي وقتها فراجت أفغانيته بين الناس وقتها.
تنقل الأفغاني بين بلاد المسلمين فدخل مصر والتحق بالأزهر الشريف لتدريس المواد الفلسفية ثم انتقل إلى إيران ومكث فيها ستة سنوات ولقي فيها حفاوة بالغة من ناصر الدين شاه إيران ثم دخل الحجاز لأداء فريضة الحج ثم عادة مرة أخرى لمصر فتم نفيه إلى الهند فدخلها وأنشأ فيها جمعية [العروة الوثقى] ثم توجه إلى الأستانة ومكث فيها فترة والتقى مع الخديوي عبد العزيز والي مصر في عهد السلطان عبد الحميد وما لبث أن طرده عبد الحميد من الأستانة فتوجه إلى لندن ومنها إلى فرنسا ومنها إلى روسيا والنمسا ثم إيران مرة أخرى ثم طرد منها إلى لندن والعجيب أن جمال الدين الأفغاني كان كلما دخل بلدًا أثار بين مثقفيها ومفكريها وقادة المسلمين ضجة وثورة وطرح أفكاره التجديدية التغريبية وكان يقابل في الأغلب بالرفض وبالقليل من القبول، ولكن الضجة التي كانت تسبه كانت تسمح له بالتأثير في قطاع المفكرين في الأوساط الإسلامية، وكل بلد يدخله كان جمال الدين حريصًا على أن يتزيى بزي أهل البلد فتارة في زي العرب وتارة في زي علماء الشيعة وتارة بطربوش تركي وهكذا بصورة تدعو للريب.
عقيدة الأفغاني :
الذي يقرأ مؤلفات الأفغاني ورسائله التي كان يرسلها لتلامذته وأتباعه يرى من خلالها أنه كان صاحب عقيدة غير سوية فهذا هو رشيد رضا تلميذ تلميذه محمد عبده يقول عنه [كان يميل لوحدة الوجود التي يشتبه فيها كلامه مع كلام الصوفية الباطنية وكلامه في النشوء والترقي يشبه كلام داروين] ويؤيد ما قاله رشيد رضا ما قاله تلميذ آخر للأفغاني وهو أديب إسحاق عندما قال فيه [كان يميل للتصوف في بدء حياته فما تقطع حينًا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة ثم خرج من خلوته مستقر الرأي على حكم العقل، وأصول الفلسفة القياسية] وحكى عنه سليم الصحوري أنه سافر إلى الهند وأخذ من علماء البراهمة والإسلام وتبحر في لغة السانسكريت أم لغات الشرق وبرز في علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم].
وحكى عنه شيخ الإسلام في الدولة العثمانية [حسن أفندي فهمي] أنه جعل النبوة صنعة وسوى بينها وبين الفسلفة فأمر شيخ الإسلام الوعاظ وأئمة المساجد أن يهاجموه حتى اضطر لمغادرة الأستانة .
وسائل غامضة وكلمات أغمض :
لكثرة تنقل الأفغاني بين البلدان فإن تلاميذه ومريديه كانوا على اتصال دائم به عن طريق الرسائل التي حفظها لنا التاريخ لتشهد على مزيد من الغموض في حياة هذا الرجل وعقيدته وأهدافه وتكشف أيضًا عن مدى غلو أصحابه فيه وخلعهم عليه أوصافًا لا تنبغي إلا لله جل وعلا.
فهذا رشيد رضا يكتب إليه [وذلك قبل عودة رشيد رضا لرشده] ويخاطبه فيقول [الحمد لله على إفضاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وعلى سيدي بل السيد المطلق سدرة منتهى الفرقان وجنة مأوى المحاسن والإحسان الذي له في كل متنفس ومن كل نار مقتنبس الإمام المفرد والعقل المجرد بدل الأبدال سيد الآل الإنسان الكامل الوارث الكامل المرشد الكامل].
وهذا كتاب تلميذه المقرب محمد عبده له [ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك صنعتنا بيديك وأفضت على موادّنا صورها الكمالية وأنشأتنا في أحسن تقويم فبك عزمنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين].
ويقول له مرة أخرى [فصورتك الظاهرة تجلت في قوى خيالية وامتد سلطانها على جسدي المشترك وهي رسم الشهامة وشبح الحكمة وهيكل الكمال فإليها رُدت جميع محسوساتي وفيها فنيت مجامع شهوداتي وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا ..].
أما الأفغاني نفسه فيخاطب تلميذه محمد عبده فيقول له [الابتهاج بجميل الصنع جزاء تفيض به جامعة الكون على النفوس كلما قامت بوظائف الوجود والمحمدة شهادة تبعث ملكوت وحدانية الهيئة على بثها متشخصات الطبيعة في مشهد العالم].
وهكذا نرى غموض هذه الرسائل وما فيها من كلمات أغمض مثل جامعة الكون والسيد المطلق وملكوت وحدانية الهيئة، وتوحي هذه الكلمات أن صاحبها ينتمي إلى الباطنية القدماء أمثال القرامطة والفاطميين الذين كانت رسائلهم شبيهه بهذه الرسائل وكلامهم فيه نفس الغموض .
الأفغاني والجمعيات السرية :
يعتبر الأفغاني أول من أدخل الجمعيات السرية في مصر وباقي بلاد المسلمين، وكان حينما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها فعندما دخل مصر أسس الحزب الوطني الحر ولم يمض على تأسيسه عام واحد حتى أصبح أعضاؤه 20180 عضوًا وأصبح له رصيد ضخم من المصارف: وأنشأ جمعية [مصر الفتاة] وكان معظم أعضائها من شبان اليهود، وأنشأ أثناء إقامته في الهند جمعية [العروة الوثقى] السرية التي امتد نشاطها إلى الشام ومصر والسودان وتونس ومن خلال هذه الجمعيات السرية بث الأفغاني روح الثورة على المجتمعات الإسلامية بدعوى إصلاحها من الفساد.
مما لا شك فيه أن الأفغاني كان من الماسونيين حيث كان بالمحفل الماسوني الإسكتلندي ثم اختلف معهم فتحول إلى المحفل الماسوني الفرنسي فلما دخل مصر أنشأ محفلاً ماسونيًا تابعًا للشرق الفرنسي ضم إليه عددًا كبيرًا من أصحاب النفوذ في مصر بمساعدة رياض باشا رئيس الوزراء وهو الذي استقدمه إلى مصر وتولى رعايته فيها وأجرى عليه راتبًا شهريًا وأعد له سكنًا في حارة اليهود هذه التنظيمات السرية التي كونها الأفغاني كان نشاطها لحد كبير يتشابه مع نشاط دعاة الباطنية الذين كانوا يجوبون بلاد الخلافة العباسية يدعون الناس في الظاهر لإعلاء كلمة الله وإنصاف المحرومين ثم ما يلبثوا أن يصلحوا بمن استجاب لهم في البداية إلى عقيدة فلسفية تنكر الأديان وتخوض في دماء المسلمين. والقرامطة تاريخهم أسود في سفك دماء المسلمين خاصة الحجاج منهم وما فعلوه بالمسجد الحرام سنة 318 هـ خير شاهد على ذلك، وقد غمس جمال الدين يده فعلاً في الدم الحرام فهو مسؤول عن اغتيال ناصر الدين شاه إيران الذي طرده من إيران سنة 1309هـ وأخرجه من الضريح المقدس عند الشيعة الذي عاذ به جمال الدين الأفغاني فعمل جمال الدين على التأليب عليه في كل مكان يذهب إليه حتى استطاع أن يقنع رجلاً إيرانيًا مطرودًا مثله من إيران هو [ميرزا رضا الكوماني] تقبل ناصر الدين وبالفعل اغتال ميرزا ناصر الدين سنة 1314 هـ في الضريح المقدس عند الشيعة نفس المكان الذي طرد ناصر الدين منه الأفغاني، وقد فكر الأفغاني في اغتيال الخديوي إسماعيل أثناء مروره على كوبري قصر النيل لأن جمال الدين كان متفقًا على برنامج الحكم مع ابنه توفيق الذي كان الأفغاني قد نجح في ضمه إلى محفله الماسوني .
أسئلة حائرة :
هناك الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها في حياة الأفغاني ولكن لا جواب لها ولا تفسير لها إلا من جهة واحدة أن هذا الرجل كان تحركه بأيدي خفية لا تظهر على ساحة الأحداث ولكن أهدافها ودوافعها واضحة لأولي الألباب من هذه الأسئلة:
1 ـ كثرة تنقل الأفغاني بين بلاد المسلمين والغرب بصورة مريبة ؟
2 ـ من أين كان ينفق على رحلاته الكثيرة جدًا؟
3 ـ ما هي علاقته بالرجل المريب صاحب الدور المشبوه مستر بلنت الإنجليزي، ولماذا كان ينزل عليه بلندن ويجعله عنوانًا لمن يريد أن يرسل إليه ؟ ومستر بلنت هو الذي كان يدعو العرب لإنشاء دولة عربية لأن الدولة العثمانية على وشك السقوط والانحلال.
4 ـ باسم من كان يتفاوض الأفغاني الإنجليز في الوصول إلى اتفاق مع تركيا ضد روسيا؟
5 ـ لماذا معظم أتباعه من اليهود والنصارى والمريبين من الإيرانيين مثل ميرزا باقر وهو إيراني تنصر وصار داعية للنصرانية ثم عاد للإسلام وعمل مع الأفغاني ؟
6 ـ لماذا كان أخلص أصدقائه أحدهما نصراني وهو جورجي كونجي والآخر يهودي وهو طبيبه واسمه هارون وهما اللذان شهدا احتضاره وحدهما؟
7 ـ لماذا كان يهاجمه علماء الإسلام في كل مكان ذهب إليه في مصر وفي سوريا وفي الأستانة ؟
8 ـ لماذا كان شديد الهجوم على الاحتلال الإنجليزي وحده وغض طرفه عن الاحتلال الفرنسي والهولندي والإيطالي لبلاد المسلمين؟
9 ـ ومهما تكن الإجابات فالرجل كان غامضًا طوال حياته حتى وفاته، وظل لغزًا كبيرًا وحينما كان منصوبًا في قلوب أتباعه وهم لا يدرون له أصلاً ولا يعرفون له توجهًا إلا التورية أينما حل وتوجه وكلها أمور تجعلنا نقول وبقوة أمصلح هو أم مفسد من كبار المفسدين !