(2)
إنه صوتها، ذلك الصوت الذي طالما انتظره وأعد له الكثير والكثير من الكلمات، توقع أن يسمع ما كان ينتظره، كلمات عن الحب، الاشتياق، اللقاء والحاضر الذي يريد أن يكمله سعيدا، رتب أفكاره وأعاد النظر في كلماته التي سيلقيها، حتى انه اعتدل في جلسته وأخذ يظهر مظهرا مختلفا !!
بعد كل هذا الترحيب والإعداد... تصدمه الكلمات التي يسمعها منها، من الطرف الآخر، من جنسه الآخر! حاول أن يفهم ماذا يقال؟ ولكن.. كانت الريح التي نفثتها من سماعتها أقوى منه، قلبت أوراقه، أصابت كلماته بالجمود، أصابته بالبرد بعد أن فتح معطفه على مصراعيه ليضمها, وليدخل من ساح إلى قلبه مرة أخرى ! بعد ان تعرض لتلك الصدمات، حاول أن يعيد النظر في كونه يقظا، أو في كونه حيا على الأقل، ظل جامدا لفترة، على تلك الهيئة التي أراد أن يظهرها لها، هيئة ذلك الرجل الذي أعياه البعد، ذلك الرجل المحب المخلص...
سقطت السماعة من يده.. لم يتكلف عناء وضعها بمكانها، فقد انتهى –باعتقاده- دورها في هذه الحياة.. لم تعد ذات فائدة تذكر.. إن كانت لا ترسم لنا من نريد.. من نحب !!
بدأ في المشي ببطء، فقد لا يزال تحت وطأة الخبر، لا يزال مصابا بدوار الهاتف! أخذ يجر الخطى... وأخذت خلفه تتساقط الأوراق.. وتتبعثر الحروف، لا ينقصها سوى بعض من الدماء والدروع، لتصبح إحدى ساحات المعارك الطاحنة، وموقعة من المواقع الحمراء، لكنها تختلف عنها في الضحايا.. فالضحية هنا.. حروف وكلمات.. أوراق وقلوب.. لن تكفن ولن تدفن.. لن يقام عليها الحداد.. ولكن سيوقف عليها دقائق صمت كثيرة.. من قبل شخص واحد.. المهزوم الوحيد في هذه المعركة!! أكمل طريقه إلى مكان ما.. وحينها.. لم يعد يظهر في الصورة!
لم انتظر الكثير حتى عاد.. لم اعرفه بداية، إنه لا يشبه ذلك الحزين البائس الذي عرفته.. اعتقدته مخلوقا قادما من صورة أخرى.. فلم أعد أعر سوى الهزائم في هذه الصورة.. أنستني فعلا أي معنى للفرح أو السعادة! عاد مبتسما.. كامل الخطى، رافعا رأسه، توقعت أنه رآها خارجا أو أنها عادت وتوسلت إليه؟!.. لم أعرف ولم أكن لأعرف أنه تمكن منها! فلم يقتلها أو ينهي عليها، بل فعل ما هو أكبر من ذلك بكثير.. لقد تخلص منها بطريقته.. أخرجها من قلبه! وعاهد نفسه على نسيانها، لم ينكر أنه أحبها يوما ما، ولكنها ليست اليوم أكثر من ماض مضى ولن يعود، ولو كان بيده أن يعيده ما فعل! أخذ ينظر إلى الأمام.. شرع يطهر جرحه وينظف قلبه من بقاياها.. ليكون مستعدا لاستقبال ضيفه التالي.. برغم علمه أنه سيطهر الكثير من الجروح.. وسينظف قلبه كثيرا كما سيزوره الكثير من الضيوف، فهو لا يستطيع إلا العيش مع ضيف ما، ورغم علمه أنه سيرحل يوما ما، إلا أنه لا يزال يحاول توطين ذلك الضيف.. ليجعله مالكا لقلبه إلى الأبد !
أخيرا.. هناك الكثير من الإطارات بداخلها الكثير من الصور.. لا يستطيع أن يراها إلا من عايشها لحظة بلحظة، أو روح بروح.. أو عاشها بنفسه وكان ذلك الطرف المهزوم.. عندها تستطيع أن تقول أنك رأيت صورة.. أو بضع صورة!
أمير العيون..