أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" حديث صحيح
دعوة للتأمل في النصوص وتفقهها، ودعوة للوقوف مع الأنفس ومراجعاتها، دعوة تتجاوز الاستنكار إلى الحوار، دعوة إلى الذين تشبعوا بفكرة الأعمال القتالية في هذه البلاد، ورأوها أقصر طريق إلى الجنة، وأزكى عمل يتقربون به إلى الله وإن زهقت فيه أرواحهم، وخالفهم كل من سواهم، لا أسوقها مناظرة ولا رداً ولكنها دعوة إلى وقفة مع النفس، وتفقه في النص، وتطلب للحق ثم نواصينا بعد بيد الله فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، نلوذ به ونبرأ إليه من حولنا وقوتنا فلا حول ولا قوة إلا به. إن أكثر الأدلة النصية تداولاً في هذه القضية حديث "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" وهو حديث صحيح غير ضعيف، محكم غير منسوخ قاله –صلى الله عليه وسلم- وهو على فراش الموت قبل وفاته بخمس. وإن أولى الأمة أن يتبع في معرفة فقه هذا الحديث صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهم الذين سمعوا هذا الحديث وأدوه إلينا وفقهوه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ورأيهم وفقهم هو الأعلم والأحكم لأنهم أعلم بملابسات الأمر النبوي، وأفقه الأمة بمراده –صلى الله عليه وسلم-. وأولى الصحابة أن يراعى فقهه هم الخلفاء الراشدون لقوله –صلى الله عليه وسلم-:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وقوله –عليه الصلاة والسلام-:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ولأنهم كانت لهم الولاية على المسلمين فهم أولى الناس بإنفاذ هذا العهد المحمدي.
إن هذا يجعلنا نتساءل عن فقه الخلفاء الراشدين لهذه القضية ولماذا لم يجعلوها قضية ملحة ناجزة. ألا يدل ذلك أنهم فقهوا أن المنهي عنه ليس مجرد وجود اليهود والنصارى في جزيرة العرب ولكن أن يكون لهم كيان استيطاني دائم، وأما وجودهم الطارئ كأجراء ومعاهدين ومستأمنين فليس هو مراد النبي –صلى الله عليه وسلم- وإلا لما تركهم الخلفاء الراشدون وذهبوا يفتحون آسيا وأوربا وأفريقيا، وأبقوهم طوال تلك المدة على تخوم المدينة النبوية أجراء في خيبر، وسمحوا بالرقيق من الكفار أن يسكنوا المدينة لأنهم تبع لأسيادهم حتى إن عمر رضي الله عنه قتل على يد علج مجوسي ومع ذلك لم يأمر بإخراجهم ولا أخرجهم من بعده. ثم إن الصحابة الذين فقهوا هذا الأمر النبوي لم يفقهوا منه استحلال دم أحد من اليهود أو النصارى لكونه في جزيرة العرب فلا نعلم أثراً صحيحاً أو ضعيفاً يروى في قتل يهودي أو نصراني لأنه دخل جزيرة العرب، فأين أخرجوهم من إهدار دماءهم وقتلهم؟ أيضاً نلاحظ أن هذا الأمر قد ألقاه الصحابة إلى الخلفاء ولم ينقل أن أحداً من آحاد المسلمين تجرأ على يهودي أو نصراني بحجة أن يجب إخراجه من جزيرة العرب ولا كانت تلك القضية مثارة بينهم، وإنما تركوا هذا الأمر لمن توجه إليه في قوله –صلى الله عليه وسلم-:"أخرجوا" وهم ولاة الأمر الذين تناط بهم القضايا العامة. ألا يدل ذلك على أننا بحاجة إلى التفقه في النص النبوي على وفق فهم الصحابة رضوان الله عليهم، لا على وفق انفعالاتنا ومشاعرنا، وأنه ينبغي أن نعلم أن النصوص النبوية تؤخذ مضمومة إلى بعضها وتفهم على وفق فهم الصحابة الذين سمعوها وأدوها وفقهوها ورعوها حق رعايتها. وألا نسمح لمشاعر الغضب والقهر وما يدمى في قلوبنا من مآسي المسلمين أن تدفعنا إلى الشطط والبغي في فهم نصوص الهداية النبوية.
فإلى كل من يؤمن بالله ويعظمه، ويحب الرسول ويوقره، ويغضب لله ويغار على حرماته، ويخشى الله فهو أحق أن يخشاه:
تذكر أن نبيك –صلى الله عليه وسلم- الذي قال:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" هو الذي قال:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهو الذي قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". وقد علمت هديهم رضوان الله عليهم وأين منه ما يجري بين ظهرانينا.
تذكر –هداك الله- أن نبيك –صلى الله عليه وسلم- الذي قال:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" هو الذي قال:"من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً". ومن أحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعظمه عظم أمره كله ووقره واتبعه.
تذكر –هداك الله- أن هذا الأمر وما يترتب عليه من سفك الدماء وزهوق الأنفس وأنت تعمله وترى أنه يقربك من الله زلفى، وأنه أقصر طريق إلى الجنة، وتغامر فيه بروحك التي لا عوض لها أن من يبذل هذا كله عليه قبل ذلك أن يدعوا ربه الذي إليه منقلبه أن يهديه للحق، ويلح على الله أن يهديه فيمن هدى، وأن يستعيذ بالله من مضلات الفتن، فأعذر إلى الله بكثرة سؤاله والانطراح بين يديه أن يريك الحق حقاً ويرزقك اتباعه، وأن يكون ذلك وأنت في حال من التجرد وقد نزعت قناعاتك المسبقة، ولم يبق أمام عينيك عظيم تعظمه إلا الله عز وجل، فإن الإنسان إذا سأل ربه متجرداً عن قناعاته وليس مقرراً لله برأيه فإن الله يهديه ولا يضله، ويأخذ بيده ولا يخذله.
تذكر –هداك الله- إذا أردت أن تحدث حدثاً أو تفعل فعلاً أنك تستطيع الآن أن تتحكم في نفسك أن تفعل أو لا تفعل، لكن إذا فعلت فإنك لا تستطيع أن تتحكم في تداعياته، ولا تستطيع أن تسيطر على نتائجه، وقد يكون هذا الفعل سبباً لتداعيات وأحداث هي شر مستطير على المسلمين، وتكون أنت السبب في كل ما حدث، ويكون فعلك ذريعة مسوغة لعدوان على المسلمين لا يستطيعون صده ولا رده، وذريعة لأهل الكفر يتسلطون بها على أهل الإسلام ويستبيحون بها ما لم يستبيحوه بعد من حرماتهم.
تابع >>>>