إحياءً لعبادة التفكر - ليس في الوجود شيء جاء بمحض الصدفة
بعض الحقائق التي يصل إليها الإنسان عبر التفكر العميق

هل تفكرت يوماً في كون كل شيء مسخّر للإنسان وحده؟

عندما يبحث المؤمن في كل ما في الكون من أنظمة وكل ما فيه من كائنات حيّة وجماد بعينٍ يقظة، يرى أنها كلها مسخّرة للإنسان، ويفهم أنه ليس في الوجود شيء جاء بمحض الصدفة، بل خلق الله كل شيء بإتقان لخدمة الإنسان.
فمثلاً يتنفس الإنسان كل الوقت دون بذل جهد، فالهواء الذي يستنشقه لا يحرق مجرى تنفسه ولا يصيبه الدوار ولا يسبب له أوجاعاً في الرأس، فنسب الغازات في الهواء ملائمة لجسم الإنسان. ومن يتفكر في هذه الأمور يتذكر نقطة أخرى هامة جداً، فلو كان تركز الأوكسيجين في الهواء أكثر قليلاً أو أقل قليلاً مما هو عليه لاختفت الحياة في الحالتين. فيتذكر عندها الأوقات العصيبة التي قضاها في الأماكن الخالية من الهواء الطلق. وفيما يتابع المؤمن التفكر في هذا الموضوع فإنه يشكر الله باستمرار لأنه يدرك بأن الغلاف الجوي للأرض كان يمكن ان يتألف مما تألفت به الغلافات الجوية لباقي الكواكب، ولكن الأمر ليس كذلك فالغلاف الجوي للأرض مخلوق بتوازن كامل وبترتيب يسمح للبلايين من الناس التنفس دون جهد.

ومن يستمر في التفكر في الكوكب الذي يعيش فيه، يفكر كم أن الماء الذي خلقه الله مهم لحياة الإنسان فيرد على ذهنه كون الناس بشكل عام يفهمون أهمية الماء فقط عندما يحرمون منه لفترة طويلة. فالماء مادة نحتاجها في كل لحظة من حياتنا. فعلى سبيل المثال، هناك كمية معتبرة من خلايا جسمنا ومن الدم الذي يصل إلى جميع أنحاء الجسم مكونة من الماء. ولو لم تكن كذلك فإن سيلان الدم سوف يقل ويصبح جريانه في العروق صعباً جداً. وسيلان الماء مهم ليس لأجسامنا فقط ولكن للنباتات أيضاً، حيث ان الماء يصل إلى أبعد أطراف اوراق الاشجار عبر المرور بأوعيتها الشبيهة بالخيوط.

كما ان كمية المياه الكبيرة في البحار هي التي تجعل أرضنا مأهولة. فلو أن نسبة البحار إلى اليابسة في الأرض كانت أصغر لتحولت اليابسة الى صحارى ولاستحالت الحياة.

والإنسان الحيّ الضمير الذي يتفكر في هذه الأمور مقتنع كلياً بأن إيجاد هذا التوازن الكامل على الأرض بالتأكيد ليس صدفة. وملاحظة كل هذا والتفكر فيه يظهر ان الله العظيم ومالك القدرة الأبدية خلق كل شيء لهدف.

بالاضافة إلى ذلك يتذكر هذا الإنسان ان هذه الأمثلة التي يتفكّر فيها هي غيض من فيض، وفعلاً من المستحيل إحصاء الأمثلة فيما يتعلّق بالتوازن الدقيق على الأرض، ومع ذلك فإن الإنسان الذي يتفكر يستطيع ملاحظة النظام والكمال والتوازن المنتشر في كل زاوية من زوايا الكون وبالتالي يمكنه الوصول إلى خلاصة مفادها ان الله سخّر كل شيء للإنسان. ويذكر الله تعالى هذه الحقائق في القرآن الكريم بقوله:?وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون? ]الجاثية:13[

بماذا يجعلنا الخلود نتفكّر؟

كل منا مطّلع على مفهوم الخلود، ولكن هل تفكّرتم فيه يوماً؟

الخلود من أهم الموضوعات التي يتفكر فيها من يؤمن بالله. فخلق الله للحياة الأبدية في الجنة والنار موضوع مهم يحتاج كل واحد منا أن يتفكر فيه، ومن يفعل ذلك تدور في خلده الأمور التالية: الطبيعة الأبدية للجنة من أعظم النعم والمكافآت التي تمنح في الحياة بعد الموت، فإذا كان من الممكن أن يعيش الانسان في هذه الحياة الدنيا مائة عام، فإن الحياة الرائعة في الجنة لا تنتهي أبداً، فهي غير محدودة بزمن، فبالمقارنة مع بلايين يلايين العصور تبدو هذه البلايين قصيرة بالنسبة لها.

من يتذكر هذه الأمور يلاحظ أنه من الصعوبة بمكان أن يحيط الانسان بماهية الخلود، ويمكن لهذا المثال ان يوضح الموضوع: إذا كان هناك بلايين بلايين الناس استمروا في التوالد على مدى بلايين بلايين العصور بنفس الوتيرة ليلاً نهاراً وإذا عاش كل واحد منهم بلايين بلايين السنوات الى منتهاها فإن الرقم الذي سيصلون اليه بمجموعه يبقى صفراً بالنسبة الى الرقم الذي سيعيشونه في الحياة الأبدية.

ومن يتفكر بهذا يصل الى النتائج التالية: إن الله عنده علم عظيم، فما هو أبدي بالنسبة للإنسان قد انتهى بالنسبة اليه، وكل الأحداث التي وقعت من اللحظة الأولى لبداية الزمان الى نهايته، بكل أشكالها وأزمنتها، فإنها قد حدثت وانتهت بعلم الله تعالى. وبنفس الطريقة يجب أن يفكر المرء بأن جهنم هي المكان الذي سيخلد فيه الكافرون الى الأبد، وفيها أنواع العذاب المختلفة والكربات، حيث سيكون الكافرون عرضة لعذاب جسدي وروحي لا ينقطع ولا يتوقف ولا يعطى المعذّب أي وقت لينام أو يرتاح. ولو كان هناك نهاية للحياة في جهنم لكان هناك أمل لأصحاب النار حتى لو كانت هذه الراحة بعد بلايين بلايين السنين، ولكنهم يجزون بالعذاب الأبدي على شركهم بالله وكفرهم.?والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? ]الأعراف:36[
من المهم جداً أن يحاول كل فرد فهم موضوع الخلود من خلال التفكر فيه، فإن هذا يزيد من سعيه الى الآخرة ويعزز فيه الخوف والرجاء معاً، ففيما يخلف من العذاب الأبدي فإنه يتعلق بالرجاء بدخول الجنة والنعيم المقيم.

بماذا تجعلنا الأحلام نتفكّر؟

الإنسان الذي يتفكر يرى غايات مهمة كامنة وراء وجود الأحلام. فهو يتفكر كم تبدو الأحلام التي يراها خلال نومه واقعية، حيث لا تختلف من هذه الناحية عن لحظات اليقظة. فعلى الرغم من أن الجسم يكون في حالة استلقاء على السرير، فإن الانسان يمضي في منامه في رحلات عمل، ويلتقي أشخاصاً لم يلتق بهم من قبل، ويتناول طعام الغداء ، ويستمتع بنكهة طعامه، ويتحمس لما يقع من أحداث، ويفرح، ويحزن، ويخاف، ويتعب.. وقد يقود مركبة آلية لم يقدها من قبل، ودون أن يتقن فن القيادة أصلاً!

ومع أن جسده كان مستلقياً بلا حراك، وعيناه مغمضتان فإنه رأى صوراً متعددة في الأماكن التي رآها في منامه، ومع أن الغرفة كانت خالية فإنه سمع أصواتاً، مما يعني أن الذي أبصر لم تكونا العينين، وأن الذي سمع لم تكونا الأذنين، فكل شيء حدث في ذهنه، ومع ذلك كان كل شيء يبدو واقعياً وكأن كل هذه الانطباعات الذهنية لها شكل أصيل.

اذن ما الذي يشكل مثل هذه الصور التي لا اصل لها في العالم الخارجي، فالانسان لا يستطيع أن يشكّلها خلال نومه عن وعي وقصد، ولا دماغه يستطيع أن يولّد هذه الصور من تلقاء نفسها، فالدماغ عبارة عن كتلة من اللحم مكوّنة من جزئيات بروتينية، ومن غير المنطقي أبداً الادعاء بأن هذه المادة تستطيع تشكيل الصور بنفسها، أو تشكيل وجوه بشرية وأماكن وأصوات لم ترها أو تسمعها من قبل. فمن إذن يرينا هذه الصور في أحلامنا خلال فترة النوم؟

من يمعن التفكر في هذه الأسئلة سوف يرى الحقيقة الواضحة، وهي أن الله تعالى هو الذي يجعل الناس ينامون فيتوفى أنفسهم عندها، ثم يعيدها اليهم عندما يستيقظون، ويريهم الأحلام خلال نومهم.
ومن يعلم أن الله هو الذي يرينا الأحلام، فإنه يتفكر أيضاً بالغايات والأسباب الكامنة وراء خلقها، ففي أحلامه يكون الانسان واثقاً من الناس وما يمر به من أحداث وكأنه في حالة اليقظة، ولو أن أحدهم قال لنا:"إنكم تحلمون الآن، استيقظوا.." لما صدّقناه! ومن يدرك كل ذلك سوف يتساءل: من يستطيع الادّعاء أن هذه الحياة ليست فانية، وأنها ليست شبيهة بالحلم، وأنه كما نستيقظ من أحلامنا الآن، فإننا يوماً ما سنستيقظ من هذه الحياة لنرى مشاهد مختلفة تماماً.. هي مشاهد الآخرة.