الفصل الرابع
التقليد واتخاذه مذهبا ودينا
* حقيقة التقليد والتحذير منه:
- إن التقليد في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلد الإنسان غيره بها ، ومنه تقليد الهدي ، فكأن المقلد جعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده .
- واصطلاحا هو العمل بقول الغير من غير حجة ، فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بالإجماع ، ورجوع العامي إلى المفتي ، ورجوع القاضي إلى شهادة العدول ، فإنها قد قامت الحجة في ذلك .
وقد أفادنا هذا النص الأصولي أمرين هامين:
الأول: أن التقليد ليس بعلم نافع .
والآخر: أنه وظيفة العامي الجاهل .
ولا بد لبيان حقيقة هذين الأمرين من الوقوف عندهما قليلا ، والنظر إلى كل منهما على ضوء الكتاب والسنة ، مستشهدين على ذلك بأقوال الأئمة ، ثم نتبع ذلك بالنظر في أحوال المتبعين لهم بزعمهم ، ومدى صحة إتباعهم لأقوالهم .
أما أن التقليد ليس بعلم ، فلأن الله تعالى قد ذمه في غير ما آية في القرآن الكريم ، ولذلك تتابعت كلمات الأئمة المتقدمين على النهي عنه ، وقد عقد إمام الأندلس ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه الجليل ( جامع بيان العلم وفضله ) بابا خاصا في تحقيق ذلك ، فقال ما ملخصه:
( 2/109 -114 ) : باب فساد التقليد ونفيه ، والفرق بين التقليد والإتباع: قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال: [اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ]
- وروي عن حذيفة وغيره قالوا: " لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم "
- وقال عدي بن حاتم: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب ، فقال لي: " يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك ، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة ( براءة ) حتى أتى على هذه الآية: [ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ] قال: قلت: يا رسول الله!إنا لم نتخذهم أربابا ، قال بلى أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله لكم فتحرمونه ؟ فقلت: بلى ، فقال: تلك عبادتهم .
- وقال عز وجل:{وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون . قال: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} فمنعهم الإقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا: { إنا بما أرسلتم به كافرون} .
- وقال جل وعز عائبا لأهل الكفر وذاما لهم: { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ قالوا: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } . ومثل هذا في القرآن كثير من ذمه تقليد الآباء والرؤساء .
وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين ( في كونهما إتباعا ) بغير حجة للمقلد ، كما لو قلد رجلا فكفر ، وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها ، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ، لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا ، وإن اختلفت الآثام فيه " .
- ثم روي عن ابن مسعود أنه كان يقول: " اغد عالما أو متعلما ، ولا تغد إمعة فيما بين ذلك " .
- ومن طريق أخرى عنه قال: " كنا ندعوا الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره ، وهو فيكم اليوم المحْقِب دينه الرجال " يعني المقلد .
- وعن ابن عباس قال: " ويل للإتباع من عثرات العالم . قيل: كيف ذلك ؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه ، فيترك قوله ذلك ، ثم تمضي الإتباع "
- ثم قال ابن عبد البر: " وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " تذهب العلماء ، ثم تتخذ الناس رؤوسا جهالا ، يسألون ، فيفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون " وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدي لرشده . . . . .
ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد ، فأغنى ذلك عن الإكثار ونقله ابن القيم في " الإعلام " ( 2/294-298 ) .
- وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " لا يجوز الفتوى بالتقليد ، لأنه ليس بعلم ، والفتوى بغير علم حرام ، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم ، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم " ( الإعلام 1/51 ) .
- وكذلك قال السيوطي: إن المقلد لا يسمى عالما .
- كما نقله أبو الحسن السندي الحنفي في أول حاشيته على ابن ماجه
- وجزم به الشوكاني في " إرشاد الفحول " فقال: " إن التقليد جهل وليس بعلم "
- وهذا يتفق مع ما جاء في كتب الحنفية أنه لا يجوز تولية الجاهل على القضاء . ففسر العلامة ابن الهمام ( الجاهل ) بالمقلد!