السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين.
هناك مفاهيم مغلوطة، وأحكام معكوسة، وتصنيفات ممقوتة، يطلقها بعض الناس على بعض العلماء، وطلاب العلم، والدعاة، لا يدركون خطورتها، ولا يعرفون ضررها، ولا يشعرون بمغبة حكايتها وترديدها وإشاعتها بين العامة، ولا ببشاعة نتائجها.
منهم من يفعل ذلك بقصد ولإحن، ومنهم من يطلق تلك الأحكام لقلة علمه وضحالة فقهه، ومنهم من يعتقد أن كل من خالف ما تعارف عليه الناس، ودرجوا عليه، واعتادوه، وقلدوا فيه، ومشوا عليه، استحق أن يُصنف ويُحذر منه، سواء كان المخالف موافقاً لسلف الأمة، وملتزماً بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أم لا؟ وسواء كان ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه مغايراً للمحجة البيضاء والحنيفية السمحة أم لا؟
من تلك التصنيفات الجائرة، والأحكام الباطلة، والنعوت الفارغة، إطلاق نعت ولقب "متشدد" على نفر من طلاب العلم الملتزمين المجتهدين، العاملين على رد الأمة إلى شرعها المصفى، وعقيدتها النقية، وطريقتها المرضية، وسبلها السوية.
ومن العجيب الغريب تباين الناس واختلافهم وتناقضهم في تصنيف الملتزمين بالسنة، العاملين لإحيائها وإشاعتها بين الناس، تصنيفاً متفاوتاً ومتغايراً جداً، فنفس الشخص الذي يطلق عليه البعض لقب "متشدد" يصفه آخرون بأنه متساهل، متهاون، مجامل، بل ومداهن، وذلك لاختلاف الموازين، واختلال المفاهيم، وقلة العلم والفقه والورع في الدين، فإرضاء الناس غاية لا تنال.
ومما يسلي النفس ويعزيها أن هذا المسلك قديم، وقد ابتلي به بعض العلماء الأخيار، والأئمة الأطهار، نظمنا الله في سلكهم، وحشرنا في زمرتهم، وجمعنا في مستقر رحمته بهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الشاطبي، والإمام ابن بطة، والإمام ابن منده رحمهم الله.
ولله در الإمام الشاطبي1 حين قال: (فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جارٍ مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان، ومن خالف فهو المخطئ المصاب، ومن وافق فهو المحمود السعيد، ومن خالف فهو المذموم المطرود، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية.
إلى أن قال:
فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس - فلابد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل، مع ما فيه من الأجر الجزيل – وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفوَّق إليَّ العتاب سهامه، ونسبتُ إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً لوجدتُ، غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعباً، وضيق عليَّ مجالاً رحباً، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفتُ السلف الأول.
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أوخرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إليَّ بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك شأن من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة2، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة؛ قيل له: فدعاءه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما ارى به بأساً عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئاً يصمد له في خطبته دائماً فإني أكره ذلك؛ ونص أيضاً العز بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضاف إليَّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور3 المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه4 وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أوفي غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب الموافقات5.
وتارة نسبتُ إلى معاداة أولياء6 الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المتنصبين – بزعمهم – لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها – وهي الناجية – ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أووهموا7، والحمد لله على كل حال.
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: "عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخرسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أومخالفاً، دعاني إلى متابعته علىما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك – كما يفعله أهل هذا الزمان – سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني سالمياً8، وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً9، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً10، وإن كان في المعرفة سماني كرَّامياً11، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً12، وإن سكت عن تفسير آية أوحديث سماني ظاهرياً13، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً14، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً15، وإن جحدتهما سماني معتزلياً16، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار – إذ ليس في الحكم والحديث محاباة – قالوا: طعن في تزكيتهم، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرأون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنتُ جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني متمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الغفور الرحيم".
هذا تمام الحكاية، فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً أوفاضلاً مذكوراً إلا وقد نبذ بهذه الأمور أوبعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة، إنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب).17
وما قاله هذان الإمامان قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن منده الأصبهاني18 كما حكى عنه الذهبي في ترجمته19: (قد عجبتُ من حالي، فإني وجدت أكثر من لقيته إن صدقتُه فيما يقول مداراة له سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك سماني خارجياً، وإن قرئ علي حديث في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤيا سماني سالمياً.
إلى أن قال: وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من الشَّبْه والمِثْل، والند والضد، والأعضاء والجسم والآلات، ومن كل ما ينسبه النسابون إليَّ، ويدعيه المدعون عليَّ من أن أقول في الله تعالى شيئاً من ذلك، أوقلته، أوأراه، أوأتوهمه، أوأصفه به).
من الظلم البين والتجني الواضح أن يصف المسلمُ أخاه بصفة هو بريء منها، وأن يرميه ويبهته بما ينفر الناس ويصدهم عنه بالظن والتخريص، من غير تثبت، ويحسبه هيناً وهو عند الله عظيم، لعدم استشعاره لخطورة ما يقول، ويذيع، وينشر، ولجريرة ما يقترف.
لذلك فإنه من الضرورة بمكان التعرف على حقيقة هذه المصطلحات، وتحديد مدلولاتها، حتى نكون على بينة من أمرها، وحتى لا نظلم إخواننا المسلمين ونبوء بغضب رب العالمين، لنميز ونفرق بين المتشدد، والمعتدل، والمتفلت.
فما المراد بالتشدد، والتوسط، والتفلت؟
يتبع بفضل من الله