الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ
1
في فجر يوم 29من أغسطس في عام 1966م ،يتقدم رجل تجاوز الستين من عمره يسوقونه إلى خشبة المشنقة وهو يسير معهم بخطوات ثابتة نحو حبل المشنقة .. يمشي معهم بهدوء .. غير مضطرب ،مطمئن السريرة ..
يا سبحان الله .. كيف هذا
رجلاً كهلاً يعيش برئة واحدة .. مصاب بذبحة صدرية مزمنة ...وجسده يحمل في طياته قائمة من الأمراض... يلوح أمام عينيه حبل المشنقة ....وهو ثابت كالجبل ..
يُطلب منه أن يقول كلمة واحدة يعتذر بها للطاغوت .. مقابل وقف حكم الأعدام وأخراجه من السجن ..فيرفض أن ينطق أو يكتب ولو كلمة يعتذر يها ..
وتنطلق كلمات من فمه عالية مدوية صادقة ..تبين مدا إيمانه بربه ..
قائلاً: ( إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة لترفض أن تكتب حرفا تقر به حكم طاغية )
عجباً من أمره ..!!
رجلاً يأتى إليه بطوق النجاة للحياة ويرفض .. وأين يرفض ذلك وهو واقف أمام حبل المشنقة ...
يرفض الرجل أن يأخذ بالرخصة والتقية ... يرفض أن يداهن ولو بكلمة من أجل حياته ..
قائلاً فى ذلك "التورية لا تجوز في العقيدة ، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص " .. مشابهاً بقوله ذلك قول الأمام أحمد فى المحنة عندما قال "اذا تكلم العالم تقية والجاهل يجهل ، فمتى يعرف الناس الحق؟"..
ولكي يتضح لك حقيقة إيمان هذا الرجل بالله..
أسمع له عندما أرسلوا له أخته بعد صدور حكم الأعدام عليه بعد أن أبلغوها أنهم أمامهم فرصة أخيرة لإنقاذه ، فإذا اعتذر فإننا نخفف حكم الإعدام إلى السجن ثم يخرج بعفو صحي بعد ستة أشهر .،
فتدخل عليه أخته الزنزانةوتقول له :- إنهم يقولون: إن حكم الإعدام سيوقف فيما إذا اعتذرت.
فيرد عليها قائلاً :- عن أي شيء أعتذر ؟! عن العمل مع الله ، والله لو عملت مع غير الله لاعتذرت ، ولكنني لن أعتذر عن العمل مع الله ، ثم قال: إطمئني يا أختي ، ان كان العمر قد انتهى سينفذ حكم الإعدام ، وإن لم يكن العمر قد انتهى فلن ينفذ حكم الإعدام ولن يغني الإعتذار شيئا في تقديم الأجل أو تأخيره).
وأسمع له وهم يحاولونه أن يسترحم فيقول : ( لماذا أسترحم ؟! إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضى حكم الحق ، وإن كنت محكوما بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل) .
وبعد أن علم بالحكم بالأعدام قالالحمد لله لقد جاهدت مدة خمسة عشر عاما حتى نلت هذه الشهادة) .
يا سبحان الله ..!!
حبل المشنقة يلوح أمام ناظريه ، ولا تهتز أوصاله ، ولا يضطرب موقفه ، ولا يتراجع عن كلمته ، إنها القمة السامقة التي أحله فيها التوحيد ، إنها الطمأنينة التي سكبها الإيمان بالله في أعماقه..
ويتقدم إليه شيخ من أصحاب العمائم الأزهرية يعمل موظف لتلقين المحكوم عليهم بالإعدام كلمة الشهادتين ،
تقدم هذا الشيخ إليه وقال له: ( يا سيد! قل أشهد أن لا إله الآ الله ) ،
فالتفت إليه متعجباً من كلامه هذا قائلا : ( حتى أنت جئت تتم المسرحية ، نحن نعدم لإننا نقول لا إله الآ الله ، وأنتم تأكلون خبزا بلا إله الأ الله ، إتق الله يا هذا ، ولا تبق سيفا للظالمين ) .
ويصعد الرجل على طبلية الإعدام .. ويهم السجان ليضع الحبال فى يديه وقدميه ..
فيقول الرجل للسجان دع عنك الحبال سأقيد نفسي .. أتخشى أن أفر من جنات ربي ..!!
ويعلو الصمت أرجاء المكان
ثم يشار للسجان بالتنفيذ
وينفذ فى الرجل الحكم ..ويشنق .. ويتعلق جسده بالحبل ..
وتصعد روحه إلى السماء ..
وفاضت روحه إلى بارئها بعد أن أدت دورها..
أن هذا الرجل .. هو عملاق الفكر الإسلامى
الشيخ-الشهيد بإذن الله- سيد قطب.
لقد اعدم صاحب "الظلال" ..وتعلق جسده بحبل المشنقة ..يترنح يميناً ويساراً ..
نعم .. لقد مات ولكن .. الذى مات هو الجسد ..أما الفكر والكلمات ظلت تعيش في الحياة تضرب بما تحمله من قوة ..فى أركان أوتاد الجاهلية التى تمكنت من المجتمع الإسلامي .. ظلت كلماته تزلزل عروش الطواغيت .. تدوي عالية بـ "إن الحكم إلا لله " ..
وقد ظنّ الطواغيت أنهم بقتل الشيخ سيد ..أنهم تمكنوا من قتل دعوته وأنهم انتصروا .. ولكن خاب ظنهم.
ولقد صدق الشيخ قطب عندما قالإن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء) ..
موضحاً لنا السبيل الصحيح للدعوة والعمل لدين الله . عندما قال : (إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها ، وتجمعها ، وتدفعها ، إنها الكلمات التي تقطر دماء لأنها تقتات قلب إنسان حي. كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب انسان ، أما الكلمات التي ولدت في الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي ، فقد ولدت ميته ، ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الإمام ، إن أحداً لن يتبناها لأنها ولدت ميته ، والناس لا يتبنون الأموات) ..
نعم مات قطب .. مات من أجل "لا إله إلا الله" .. ولكن مات ولم يداهن .. لم يقل مصلحة الدعوة تحتم على بالتراجع أو المداهنة .. مات وهو يصدع بالحق ولا يخاف فى الله أحد .
وما أوضح كلماته في ذلك عند تفسير قول الله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
فكتب عند هذه الأية :-
(إن الدخول في الإسلام صفقة بين متابيعين.. الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله لايبقى بعدها للمؤمن من شيء في نفسه ، ولا في ماله يحتجزه دون الله -سبحانه- ودون الجهاد في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله...
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن... كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها ، بعونك اللهم فإن العقد رهيب.. وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم (مسلمين) في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير الوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد ، ولا يقتلون ولا يقتلون ، ولا يجاهدون جهادا ما دون القتل والقتال)..
مات الأستاذ .. بعد أن وضح لنا السبيل إلى الإصلاح .. عندما قال :-(وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم حازم... أنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ولا رفعة ، ولا بركة ، ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله ، والرجوع إلى الله -كما يتجلى في ظلال القرآن- له صورة واحدة ، وطريق واحد... واحد لا سواه... إنه العودة بالحياة كلها إلى هذا الكتاب).
أنني أحسب الشيخ سيد -والله حسيبه -ممن يشمله قول النبي عليه الصلاة والسلام ( سيد الشهداء حمزة، ورجل قام عند سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله ) ..
فكلما سمعت هذا الحديث .. أتذكر الأستاذ.
أن الشيخ سيد قطب أثر في البشرية وهز الجيل فانتفض بإسلامه ، ورسم " معالم الطريق " ، وأقام " الظلال " لتستريح الأجيال المسلمة من هجير الجاهلية ولفحها وتتقي حرها وصلاءها .. ووضح " خصائص التصور " وبين " المقومات " ، حتى يكون لل " شخصية المسلمة " خصائصها ومقوماتها ، وبشرنا أن " المستقبل لهذا الدين " بعد أن وضح لنا حقيقة " هذا الدين " .
وأختم بهذه الأبيات التى كتبها الأستاذ سيد ..
فهذه دعوة للتأمل بهذه الكلمات التى كتبها الأستاذ
أخي :
أخي أنت حرٌ وراء السدود .. أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما .. فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام .. و يشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها .. ترى الفجر يرمقنا من بعيد
أخي قد أصابك سهم ذليل .. و غدرا رماك ذراعٌ كليل
ستُبترُ يوما فصبر جميل .. و لم يَدْمَ بعدُ عرينُ الأسود
أخي قد سرت من يديك الدماء .. أبت أن تُشلّ بقيد الإماء
سترفعُ قُربانها ... للسماء .. مخضبة بدماء الخلود
أخي هل تُراك سئمت الكفاح .. و ألقيت عن كاهليك السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح .. و يرفع راياتها من جديد
أخي هل سمعت أنين التراب .. تدُكّ حَصاه جيوشُ الخراب
تُمَزقُ أحشاءه بالحراب .. و تصفعهُ و هو صلب عنيد
أخي إنني اليوم صلب المراس .. أدُك صخور الجبال الرواس
غدا سأشيح بفأس الخلاص .. رءوس الأفاعي إلى أن تبيد
أخي إن ذرفت علىّ الدموع .. و بللّت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع .. و سيروا بها نحو مجد تليد
أخي إن نمُتْ نلقَ أحبابنا .. فروْضاتُ ربي أعدت لنا
و أطيارُها رفرفت حولنا .. فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إنني ما سئمت الكفاح .. و لا أنا ألقيت عني السلاح
و إن طوقتني جيوشُ الظلام .. فإني على ثقة بالصباح
و إني على ثقة من طريقي .. إلى الله رب السنا و الشروق
فإن عافني السَّوقُ أو عَقّنِي .. فإني أمين لعهدي الوثيق
أخي أخذوك على إثرنا .. وفوج على إثر فجرٍ جديد
فإن أنا مُتّ فإني شهيد .. و أنت ستمضي بنصر جديد
قد اختارنا الله في دعوته .. و إنا سنمضي على سُنته
فمنا الذين قضوا نحبهم .. ومنا الحفيظ على ذِمته
أخي فامض لا تلتفت للوراء .. طريقك قد خضبته الدماء
و لا تلتفت ههنا أو هناك .. و لا تتطلع لغير السماء
فلسنا بطير مهيض الجناح .. و لن نستذل .. و لن نستباح
و إني لأسمع صوت الدماء .. قويا ينادي الكفاحَ الكفاح
سأثأرُ لكن لربٍ و دين .. و أمضي على سنتي في يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام .. وإما إلى الله في الخالدين






























الحمد لله لقد جاهدت مدة خمسة عشر عاما حتى نلت هذه الشهادة) .
