المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فهذه مجموعة من المقالات المقتضبة عالجت فيها بعض الإشكالات والتساؤلات حول النهضة الحسينية والتي وصلتنا من بعض الأخوة والأعزاء في فترات متفاوته، وقد اقتضى الرأي بعد ذلك نشرها وذلك لتعميم الفائدة والمساهمة في تأصيل الوعي العقائدي في الوسط الاجتماعي.
هذا وقد أجبنا في هذه المقالات عن التساؤلات التالية:
الأول: لماذا استجاب الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة رغم علمه بحالهم؟ ولماذا لم يقبل بنصيحة من نصحه بعدم الخروج على يزيد؟
الثاني: لماذا لم يستجب الإمام الصادق (ع) للرسائل التي دعته للثورة واستجاب الإمام الحسين لذلك ؟
الثالث: لماذا لم يقبل الإمام الحسين (ع) بنصيحة من نصحه بالهجرة إلى اليمن رغم ان ذلك مطابق لسنة الرسول (ص) والذي هاجر إلى المدينة المنورة.
الرابع: ما هي الخيارات التي اعتمدها الحسين (ع) في نهضته؟ ولماذا ظل خيار الرجوع مطروحاً ؟
الخامس: هل كان لبني عقيل دور في قرار الثورة؟
السادس: لماذا لم يعمل الحسين (ع) بالتقية؟ ألم تكن ثورته إلقاء للنفس في التهلكة؟
السابع: هل انَّ الشيعة هم من قتل الحسين (ع)!!
الثامن: ما هو الجواب على من ادَّعى أنَّ رأس الحسين (ع) لم يُحمل إلى يزيد!!
التاسع: هل صحيح ما يتناقله الخطباء من أنَّ رأس الحسين (ع) تكلَّم وهو على الرمح؟
العاشر: هل صحيح أنَّ المعسكر الأمويَّ قتل طفلاً رضيعًا للحسين (ع) في كربلاء؟
الحادي عشر: كيف عَرض الخِطاب الشيعيُّ الإمام الحسين (ع) للعالم وهل صحيح أنَّه قدَّمه للعالم على أنَّه رجل حرب وعنف؟
الثاني عشر: لماذا لم يعتمد الحسين (ع) خيارًا سلميًّا في مواجهته للنظام الأموي؟
هذا وقد أجبنا عن هذه التساؤلات بإجابات مقتضبة حتَّى لا يشقَّ على القارئ مراجعتها.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكون هذا الجهد خالصًا لوجهه الكريم وأن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه وأن يحشرنا يوم القيامة مع الحسين الشهيد والعترة الطاهرة من ذرِّيته (ع).
والحمد لله ربِّ العالمين.
محمد صنقور
25ذو الحجَّة 1425هـ
منشأ استجابة الحسين لأهل الكوفة
السؤال الأوَّل:
لماذا استجاب الحسين (ع) لأهل الكوفة وأرسل إليهم سفيره مسلم بن عقيل مع علمه بحالهم ومع نصح بعض أصحابه له بعدم التوجّه إلى هناك؟
الجواب:
لو لم يستجب الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة لأدانه التاريخ ولقال إنَّ الحسين –والعياذ بالله- قد فرَّط في المسئوليّة الإلهيّة المناطة به وذلك لأنَّ الظروف قد تهيَّأت له بعد أنْ راسله الآلاف مِن أهل الكوفة وجمع كبير مِن الوجهاء ورؤساء العشائر، وأكّدوا له أنّهم على استعداد تامّ لمناصرته وأنَّ الكوفة متهيِّئة لاحتضان ثورته، وأنَّه ليس مِن العسير عليهم طرد الوالي الأموي مِنها، وحينئذ وعندما تسقط الكوفة فإنَّ ذلك يُنتج سقوط القرى والمدن المجاورة لها نظرًا لارتباطها سياسيًّا وأمنيًّا بأمارة الكوفة بل وحتّى بلاد فارس والأهواز وبعض المدن الإيرانيَّة وقراها كانت تابعة سياسيًّا لإمارة الكوفة بل إنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار يُنتج سهولة الهيمنة على مدينة البصرة والمدن المجاورة لها، وذلك لأنَّ الثقل العسكري والسياسي في العراق آنذاك كان في مدينة الكوفة، وكلّ مَن له معرفة بالتاريخ يدرك هذه النتيجة.
ومِن هنا يكون إهمال الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة يعدُّ تفريطًا وتفويتًا لفرصة استثنائيّة خصوصًا وأنَّ الحسين يُدرك أنَّ الأمّة ما كانت لتستجيب ليزيد لولا قوّته وسطوته، فإذا ما استطاع أنْ يوهن هذه القوّة فإنَّ الحواضر الإسلاميّة سوف تتداعى واحدة تلو الأخرى، إذ ليس ثمّة حاضرة مِن الحواضر الإسلاميّة تكنّ الولاء الحقيقي ليزيد وللنظام الأموي إذا ما استثنَيْنا بلاد الشام، هذا بالإضافة إلى عنصر آخر يؤكّد المسئوليّة التاريخيّة على الحسين (ع) وهو احترام وتقدير الأمّة له نظرًا لقرابته مِن رسول الله (ص) ونظرًا لإيمانها بنزاهته وكفاءته وليس مِن عائق يحول دون مؤازرته سوى بطش السلطة الأمويّة الذي أصاب الأمّة بالإحباط واليأس، فلو أنَّ الحسين (ع) استطاع إدخال الوهن على النظام الأموي فإنَّ الأمّة ستهبُّ لا محالة لمؤازرته.
مِن هنا كان سقوط الكوفة مع ملاحظة الاعتبارات الأخرى مساوقًا لضعف النظام الأموي وعجزه عن بسط هيمنته على الحواضر الإسلاميّة. ذلك لأنَّ مركز القوّة للنظام الأموي متمثِّلاً في بلادَيِ الشام والكوفة، لهذا تمكّن الثوّار في المدينة المنوّرة وكذلك مكّة الشريفة مِن طرد بني أميّة بكلّ سهولة أيّام يزيد بن معاوية، ولولا أن بعث إليهم يزيد بن معاوية جيش الشام بعد أنْ رفض ابن زياد واليه على الكوفة الذهاب إليهم لما تمكّن مِن استرجاع هاتَيْن المدينتَيْن مِن يد الثوّار.
وهو ما يعبّر عن أنَّ الكوفة والشام هما مركز القوّة للنظام الأموي، وأنَّ سرّ هيمنته وانبساط سلطته هو ما يدركه الناس مِن أنَّ عاقبة التمرُّد هو أنْ يسلّط عليهم النظامُ الأموي جيشَ الشام أو الكوفة.
ومِن هنا نؤكّد أنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار معناه أنَّ النظام الأموي يصبح أمام قوّة مكافئة لقوّته، وهو ما كنّا نقصده مِن دخول الوهن على النظام الأموي المستوجب لتداعي الحواضر الإسلاميّة بعد أنْ لم يكن خضوعها له ناشئًا عن ولائها وإيمانها بجدارته واستحقاقه، وإنّما كان ناشئًا عن خوفها مِن بطشه وشدّة بأسه.
وبما ذكرنا اتّضح المنشأ لاستجابة الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة فقد تواترت عليه كتبهم حتّى تجاوزت الاثني عشر كتابًا كلّ كتاب مختوم مِن اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وكتب إليه رؤساء العشائر والوجهاء وأوفدوا إليه الرسل، ورغم كلّ ذلك بعث إليهم مسلم بن عقيل ليقف على واقع حالهم، فجاءه كتاب مسلم بن عقيل أنْ أقدم فإنَّ الكوفة مهيّئة لاحتضان نهضتك، فما كان يسعه التخلُّف ولم يكن يسعه الاعتذار عن المصير إليهم بدعوى أنَّ لهم سوابق توجب عدم الوثوق بجدّيّة دعواتهم بعد أن بايعوا مسلم بن عقيل وأبدَوْا جدّيّتهم وصدق نواياهم، وأمَّا عدم رجوع الحسين بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل فلأنَّ الخيار الذي اتّخذه الإمام الحسين هو الاستشهاد وذلك حينما ينكشف للأمّة وللتاريخ أنَّ المسلمين لم يكونوا حينذاك مؤهّلين للجهاد ولمقارعة النظام الأموي، فقد عقد العزم على أنْ يقدِّم نفسه قربانًا لله عزّ وجلّ مِن أجل أنْ تستفيق الأمّة مِن سباتها، وتدرك أنَّ النظام الأموي مريدٌ لتقويض بُنَى الإسلام، وأنّه لا يرعى حرمة لرسول لله (ص) وأنّه على استعداد لفعل كلّ عظيم مِن أجل أن يبقى سلطانه وتبقى هيمنته، وأنّه لا يهمّه كثيرًا أنْ يعصى الله في الأرض بل يمارس هو دور التضليل والإفساد.
وإذا ما أدركت الأمّة كلّ ذلك واستفاقت على وقع فاجعة هي بحجم قتل الحسين (ع)، وقتل ذرِّيّته وسبي بنات رسول الله (ص) فإنّ مِن المفترض أنْ تنبعث فيها روح جديدة قادرة ولو بعد حين على أنْ تجهز على هذا النظام الفاسد.
أراد الحسين بنهضته وتضحيته أنْ يكسر حاجز الخوف وأنْ يبدّد حالة اليأس والخنوع الذي أصاب الأمّة نتيجة البطش والتعسّف اللذين مارستهما السلطة الأمويّة معها، وأراد أنْ يؤسّس لفهم إسلامي أصيل هو شرعيّة المواجهة للسلطان الجائر، وشرعيّة السعي لتقويض سلطانه ذلك لأنّ النظام الأموي عمل وفي غضون عقدَيْن مِن الزمن على ترويج دعوى هي حرمة الخروج على النظام الحاكم حتّى ولو كان فاسدًا جائرًا، وسخّر لذلك المأجورين ممّن ينسبون لصاحبة رسول الله وغيرهم ليضعوا مِن عند أنفسهم روايات تؤكّد على عدم شرعيّة الخروج والثورة على السلطان وإنْ كان فاسقًا مستحلاًّ لحرمات الله عزّ وجلّ، وأنَّ وظيفة المسلم هي النصيحة والدعاء له بالهداية، فإن ثاب إلى رشده وإلاّ فعلى كلّ مكلّف الصبر، وإنْ جلد السلطان ظهره وأخذ ماله.
وهذه الثقافة الخطيرة التي سادتْ وتجذّرت بفعل السياسة الأمويّة لم يكن مِن الممكن تصحيحها لو لم يتصدَّ لذلك رجل هو بحجم الحسين (ع) ولم يكن التصدّي بنحو التضحية، فالحسين قدّم نفسه قربانًا لله عزّ وجلّ مِن أجل أن يعيد الأمّة إلى المسار الصحيح، يقول (ع): "أيّها الناس إنّ رسول الله (ص) قال: مَنْ رأى منكم سلطانًا جائرًا مستحلاًّ لِحُرَمِ الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر...".
وأمّا نصيحة بعض أصحابه له بعدم الخروج على يزيد أو بعدم التوجّه إلى الكوفة فلأنّ حساباتهم كانت سياسيّة، ولأنّهم أنفسهم ممّن شملهم الداء وأصابهم الوهن واستبدّ بهم اليأس والإحباط، لذلك فهم لا يفهمون لغة الحسين (ع) ولا يدركون أبعاد خروجه ونهضته.
فهذا ابن عبّاس الذي لا نشكّ في إخلاصه للإمام الحسين (ع) يتمنّى لو كان يتمكّن مِن حبس الحسين (ع) والحيلولة دون خروجه، ذلك لأنّه لم يكن قادرًا على استيعاب معنى التضحية والاستشهاد، إذ هي لغة لا يفهما إلاّ أهل البصائر ولا يقف على أبعادها إلاّ مَن تجرّدت روحه عن كلّ علائق الدنيا، فكم هو غريب قول الحسين: "إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما" فهو يأنس بالموت والآخرون تؤنسهم الحياة.
وقد تمكّن الإمام الحسين (ع) مِن تحقيق غايته ولم يتمكّن النظام الأموي مِن إرغام الحسين على خياره رغم ما بذله مِن وسع، وما اعتمده مِن وسائل لا تصمد أمامها أقوى الإرادات، وهذا هو معنى انتصار الدم على السيف.
وهكذا تبخّر النظام الأموي وتلاشت أطروحته الرامية لتقويض بُنَى الإسلام وخلد الحسين وخلدت مبادؤه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
منشأ رفض الصادق لكل الرسائل واستجابة الحسين لها
السؤال الثاني:
لماذا رفض الإمام الصادق (ع) كلّ الرسائل الّتي وصلته والتي كانت تدعوه للثورة؟ ولماذا استجاب الإمام الحسين لرسائل أهل الكوفة؟
الجواب:
لم تصل للإمام الصادق (ع) –في حدود اطّلاعي- سوى رسالتَيْن؛ الأولى مِن أبي مسلم الخراساني، والثانية مِن أبي سلمة الخلاّل.
أمّا الرسالة الأولى فأجاب عنها الإمام الصادق (ع) بقوله: "إنَّ أبا مسلم ليس مِن رجالي ولا الزمان زماني".
أمّا أنّه ليس مِن رجاله ذلك لأنّه كان مِن القادة العبّاسيِّين وهو مبعوثهم إلى خراسان ليوطّئ لهم الأمر هناك، وقد كان بعثه لهذا الشأن كلّ مِن إبراهيم الإمام وأبو العبّاس السفّاح وأبو جعفر المنصور، وقد حقّق لهم انتصارات كثيرة في خراسان قبل أن يبعث إلى الإمام بهذه الرسالة، ومِن هنا لا يمكن الاطمئنان بجديّة الدعوة الذي دعا بها الإمام في الرسالة، ولو كانت جادّة فهي غير نافعة بعد أن استوثق الأمر للعبّاسيِّين وأوشكت السلطة أن تسقط بأيديهم وهذا هو معنى "أنَّ الزمان ليس زماني".
على أنّه يمكن تأكيد الفقرة الأولى مِن جواب الإمام الصادق (ع) مِن ملاحظة سيرة الرجل الذاتيّة، فقد ذكر المؤرِّخون أنّه كان رجلاً فاسقًا سفّاحًا يقتل على الظنّة والتهمة، وقد أحصى عليه المؤرِّخون ستّة آلاف قتيل هذا والأمر لم يصفُ لهم بعد!
وأمّا الرسالة الثانية فقد أحرقها الإمام الصادق (ع) بالسراج وقال لحامل الرسالة: "هذا هو جوابي". والجدير بالذكر أنَّ أبا سلمة الخلاّل بعث برسالة مشابهة إلى عبد الله بن الحسن المحض، واستبشر الأخير بالرسالة وأخبر حامل الرسالة بأنّه على استعداد للاستجابة، وقد فات السيد عبد الله المحض أنَّ الأمر قد خرج مِن يد أبي سلمة الخلاّل، ولهذا لم يصل جوابه إلى أبي سلمة، لأنّه قُتل قبل أنْ يصله جواب السيّد عبد الله المحض.
ومقتله كما يقول المؤرِّخون كان بتدبير مِن أبي مسلم الخراساني حيث كان بينهما تحاسد وتنافس على المناصب العسكريّة والسياسيّة، حيث كانا مِن القادة العبّاسيِّين وكان لهما دور بالغ الأهميّة في توطئة الأمر لبني العبّاس في خراسان والعراق.
وقد ذكر المؤرِّخون أنَّ أبا سلمة الخلاّل قد أنجز انتصارات كبيرة لصالح بني العبّاس وكان يدعو إليهم في العراق وفي خراسان، ثمَّ رأى أنْ يُرجع الأمر إلى الطالبيِّين وليس للإمام الصادق (ع) بالتحديد، إلاَّ أنَّه لم يكن يُدرك أنَّ الأمر قد خرج مِن يده كما اشرنا إلى ذلك قبل قليل، ولعلّ رسالتَيْه قد اطّلعت عليها عيون بني العبّاس أو أبو مسلم الخراساني ولهذا تعجّل حتفه.
وبهذا العرض التاريخي يتبيّن منشأ رفض الإمام الصادق (ع) لما ورد في رسالتَيْ هذَيْن القائدَيْن العبّاسيَّيْن.
ثمّ إنَّ هنا أمرًا لا بدّ مِن التنبيه عليه وهو أنَّ مِن المحتمل قويًّا أنَّ هذَيْن القائدَيْن لم يكونا يقصدان تسليم الأمر بتمامه للإمام الصادق وينسلخان هما عنه، وإنّما كانا يُدركان أنّهما عندما ينفصلان عن بني العبّاس فإنّهما يحتاجان لغطاء يتحرَّكان وراءه إذ لم يكن لهما بشخصَيْهما قاعدة اجتماعيّة يصولان بها.
فلأنَّ الإمام الصادق كان يحظى بشعبيَّة واسعة في الأوساط الاجتماعيّة لذلك كان مِن المناسب –بنظرهما- اتّخاذه واجهة للنفوذ والهيمنة لا أقلّ أنّهما لم يقدِّما تطمينات تؤكّد عزمهما على الطاعة المطلقة للإمام (ع) وأنّهما أرادا مِن دعوتهما للإمام وضع الأمر في موضعه، فلعلّ دعوتهما للإمام نشأت عن شعورهما بأنَّ بني العبّاس سوف لن يحفظوا لهما جهودهما التي بذلاها وسوف لن يكون لهما نصيب في الأمر، وهو ما دعاهما للبحث عن جهة أخرى يتمكّنان بواسطتها استثمار الجهد المبذول للمآرب الشخصيّة.
ولو كان هذا هو ما دفعهما لمراسلة الإمام (ع) فإنّ مِن غير المناسب استجابة الإمام لدعوتهما إذ أنَّ منهج الأنبياء والأولياء يتنافى ولغة المساومات السياسيّة على المراكز وتقاسم الغنائم، ونحن لا نعلم بفحوى الرسالتَيْن إذ لم يكشف لنا التاريخ ذلك.
ولو افترض أنَّ الرسالتَيْن لم تكونا معبِّرتَيْن عن هذا الغرض إلاّ أنّه يكفي لرفض الدعوتَيْن أن يحتمل الإمام ذلك احتمالاً معتدًّا به نظرًا لمعرفته بواقع الرجُلَيْن وحينئذ لا يكون مِن التعقّل استجابة الإمام لهما إذ أنَّ عدم الاطمئنان في مثل هذه المسائل يقتضي التوثّق وعدم الاستجابة كيف الحال أنَّ الظروف ومقتضياتها تنحو نحو الاطمئنان بعدم خلوص دعواهما عن المآرب الشخصيّة.
على أنَّ تأكيد الإمام في موارد عديدة على أنّه لو وجد أنصارًا يعتمد عليهم لما تأخّر عن القيام بالتغيير الجذري بواقع الأمّة، هذا التأكيد يعبّر عن سوء ظنّ بالرجُلَيْن أو بقدرتهما على المساهمة في هذه المهمّة.
هذا ما يتّصل بالشقّ الأوّل مِن السؤال، أمّا الشقّ الثاني وهو ما يتّصل بمنشأ قبول الإمام الحسين (ع) بدعوات أهل الكوفة فقد أجبنا عنه في السؤال الأول، ونضيف هنا أنَّ الكتب التي بلغتِ الإمام مِن أهل الكوفة وهو في مكّة المكرّمة تصل إلى اثني عشر ألف كتاب، كلّ كتاب يشتمل على ختم الواحد، والاثنَيْن، والثلاثة، والأربعة، وكلّها تؤكّد الاستعداد التامّ على مؤازرة الإمام (ع) في مواجهة النظام الأموي، وأنّه ليس لهم إمام غيره، وأنّهم جند له مجنَّدة، وأنّهم لا يحضرون لعامل بني أميّة جمعة ولا جماعة، وأنّهم على استعدادٍ لطرده، وأنَّ ذلك ليس عسيرًا عليهم، ورغم كلّ هذه التطمينات استوثق مِن جدِّيّة دعواهم عندما بعث إليهم مسلم بن عقيل ليستطلع حالهم فبايعه على أقلّ التقادير ثمانية عشر ألف رجل وفيهم الأعيان ورؤساء العشائر، وفي بعض النقولات أنَّ المبايعين للحسين (ع) على يد مسلم بن عقيل أربعون ألفًا.
ولذلك لم يسع الإمام الحسين (ع) التلكّأ في الاستجابة لهم بعد كلّ هذه التطمينات، ولو أهمل الإمام الحسين (ع) هذه الدعوات لأدانه التاريخ ولاتّهمه بالتقاعس عن القيام بمسئوليَّته الرساليّة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
منشأ عدم قبوله باقتراح الهجرة إلى اليمن
السؤال الثالث:
لماذا لم يقبل الإمام الحسين بما اقتُرِح عليه مِن الهجرة إلى بلاد اليمن اقتداءً بسنّة رسول الله (ص)، والذي هاجر إلى المدينة المنوّرة وأمر بعض أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة؟
الجواب:
ثمّة فرق كبير بين الأمرَيْن إذ أنَّ اقتراح اللجوء إلى اليمن والاختباء بها وتحصين نفسه مِن بطش بني أميّة نشأ عن توهّم أنَّ الحسين (ع) لم يكن له مشروع إصلاحي وإنّما كان رافضًا للبيعة وحسب، ولأنّ رفض الحسين (ع) للبيعة يُنتج ملاحقة بني أميّة له ولإرغامه عليها أو قتله فإنَّ مِن المناسب لو كان الأمر كذلك هو البحث عن بلد يتمكّن فيها مِن الاختباء إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك، فقد كان للحسين (ع) مشروع إصلاحي أعلن عنه في مواضع كثيرة فقد أفاد أنّه خرج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه (ص)، وأنّه يريد أنْ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جدّه وأبيه (ع).
وإذا كان هذا هو غرضه فإنّ مِن غير المناسب الاختباء عن ساحة الأحداث لينتظر ما تتمخّض عنه الظروف فإنْ جاءت وفق ما يتمنّاه مِن تمرّد الأمّة على النظام الأموي ثمّ إسقاطه وإعلانهم الولاء والبيعة له خرج إليهم واستلم زمام الحكم، وإنْ لم تتمكّن الأمّة مِن ذلك فإنّه يكون قد نجا بنفسه وبعياله، ولم يصبه مِن بطش بني أميّة شَيْء.
هذا النوع مِن التفكير يناسب القادة النفعيِّين الذين يقطفون ثمار غيرهم ولا يهمّهم أنْ تطحن جماجم الشعوب إذا كان ذلك هو وسيلة الوصول إلى مآربهم.
أمّا القادة الرساليّون الذين يبتغون وجه الله وخلاص الشعوب مِن كلّ ألوان الظلم، والفساد والتضليل فوسيلة التغيِّير التي يعتمدونها هي الوقوف مع الأمّة وفي الصفّ الأوّل لمقارعة الظلم فيكتوُون بالنار لتي يكتوي بها الناس بل يكونون على استعداد لتحمّل أعباء الدور الأصعب فتكون الوطأة عليهم أشدّ والظلم عليهم أقسى، وهكذا كان الحسين الشهيد (ع) حيث هو الرجل الإلهي الذي منحته السماء لأهل الأرض وأناطت به مسئوليّة الأمانة الإلهيّة ولذلك لم يصغِ لأيّ ناصح، لأنّه ما مِن أحد يسعى لثنيِ الحسين (ع) عن عزمه على تصحيح مسار الأمّة إلاّ وهو غافل عمّا يرومه الحسين (ع) أو غير قادر على استيعاب موقف الحسين وقد أوضحنا ذلك في جواب السؤال الأول.
وأمّا هجرة رسول الله (ص) للمدينة المنوّرة فلم تكن انسحابًا مِن ساحة العمل الرسالي كما لم تكن لغرض الاختباء والتحصّن مِن بطش قريش والمشركين بل هي هجرة قد خُطِّط لها كما تشهد لذلك بيعة العقبة وبعث مصعب بن عمير قبل هجرته إلى المدينة ليوطّئ له المناخ هناك، فكانت هجرته تستهدف تأسيس دولة قادرة على حماية دعوته ومنجزاته وحماية المؤمنين بها بعد أنْ لم يكن ذلك متاحًا في مكّة المكرّمة وكانت تستهدف للامتداد وتوسيع نطاق التبليغ والدعوة.
وقد كانت هجرة الحسين الشهيد (ع) إلى العراق تستهدف الغرض الذي مِن أجله هاجر الرسول (ص) إلى المدينة المنوّرة بعد أنْ أصبحت مكّة والمدينة المنوّرة غير قادرتَيْن على احتضان ثورته.
وأمّا هجرة المسلمين إلى الحبشة فهي وإنْ كانت لغرض النجاة بأنفسهم مِن بطش المشركين إلاّ أنّ الظرف كان مختلفًا عمّا كانت عليه ثورة الحسين (ع) فهؤلاء كانوا يخشَوْن الاستئصال أو الافتتان عن دينهم ولم يكونوا يطمحون في التغيّير بقدر ما كانوا يطمحون في التحفّظ على دينهم، فليس مِن وسيلة سوى الهجرة لحماية لأنفسهم ودينهم، وأمّا الحسين (ع) فلم يكن يخشى الافتتان عن دينه، كما لم يكن يطمح في حماية نفسه وعياله ولو شاء لكان ذلك متاحًا.
يتبع