القول السديد في اثبات وجود الله القدير
الحمد لله المستغني عن كل ما سواه و المفتقر اليه كل ما عداه القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا بلا بداية الدائم الباقي بلا نهاية. و أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه و سلم و على كل رسول أرسل، أما بعد:
إعلم رحمك الله تعالى أن وجود العالم دليل على وجود الله لأنه لا يصح في العقل وجود فعل ما بدون فاعل كما لا يصح وجود ضرب بلا ضارب و وجود نسخ و كتابة بلا ناسخ و لا كاتب و لا يصح كون ذلك الفاعل طبيعة لأن الطبيعة لا إرادة لها فكيف تخلق ؟ كيف تخصص المعدوم بالوجود بدل العدم ثم بحالة دون حالة ؟ و كذلك لا يصح في العقل أن يكون الشيء خالق نفسه لأن في ذلك جمع بين متنافيين:
</B>لأنك إذا قلت خلق زيد نفسه جعلت زيدا قبل نفسه باعتبار و متأخرا عن نفسه باعتبار. </FONT>
فباعتبار خالقيته جعلته متقدما.
وباعتبار مخلوقيته متأخرا.
وذلك محال عقلا.
وكذلك لا يصح في العقل أن يخلق الشيء مثله أي مشابهه لأن أحد المثلين ليس بأولى بأن يخلق مثله من الآخر فالأب و الإبن لا يصح أن يخلق أحدهما الآخر، لأن كل منهما كان معدوما ثم وجد فمن فكر بعقله علم أنه كان بعد أن لم يكن ، و من كان بعد أن لم يكن فلا بد له من مكون أي محدث من العدم فيستنتج فأنا لا بد لي من مكون ، بعبارة أخرى أنا كنت بعد أن لم أكن و ما كان بعد أن لم يكن فلا بد له من مكون فأنا لا بد لي من مكون . و ايضاح ذلك أنك تعلم أن الإنسان يخلق في بطن أمه ثم يخرج و هو لا يعلم شيئا و لا يتكلم و لا يمشي فيأخذ في النمو شيئا فشيئا فيتطور فتحصل له قوة مشي و كلام و يحصل له علم يتجدد له شيئا فشيئا حتى نشأ طفلا ثم صار شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما . انتقل من ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف فلا يعقل أن يكون طور نفسه بنفسه، و لا يعقل أيضا أن يكون الأب طور الابن و لا يعقل أيضا أن تكون الطبيعة مطورته، و لا يصح في العقل أن يكون تطوره بدون مطور فثبت بطلان هذه التقديرات ، و وجب أن يكون بتطوير مطور مصوف بالحياة والعلم و القدرة والإرادة وجوده قديم أي أزلي أي لا بداية لوجوده، و ذلك المطور هو المسمى "الله" فإن قيل: ما هو؟ ، قلنا موجود لا كالموجودات حي لا كالأحياء عالم لا كالعلماء و قادر لا كالقادرين و مريد لا كالمريدين و ذلك لأنه لو كانت حياته تشبه حياة غيره أو علمه علم غيره أو قدرته قدرة غيره أو ارادته إرادة غيره لكان متطورا كغيره من الإنسان و سائر الأجسام و لاحتاج إلى مطور كما احتاجت سائر المتطورات لأن المتماثلات يجوز عليها عقلا ما يجوز على بعضها. و من الأدلة أيضا على حدوث العالم أي كونه مخلوقا أن العالم بتغير باختلاف الأحوال عليه من حي يموت و متفرق يجتمع و صغير ينمو و خبيث يطيب و قوي يضعف و ضعيف يقوى نجد الإنسان ينتقل من ضعف إلى قوة ثم من قوة إلى ضعف فمنهم من يضف تفكيره من ضعف جسمه حتى يخرف فيصير كالطفل لا يميز بين الحسن و القبيح لا يقوم بتجنب القذر ثم تنظيف جسده مما يصيبه و دفع ما يضره عن نفسه كحاله حين كان قبل التمييز فدل ذلك عقلا على حدوثه بعد عدم. فاعلم أن عقيدة المسلمين إثبات وجود الله و أنه هو الغني المغني و أن كل ما سواه مخلوق محتاج إليه سبحانه.