التأمل والألم الثاني.......:؟: سبق لي أن عرضت التأمل الأول في موضوع سابق، والآن أذكر هنا التأمل الثاني، فأقول:
أول أسباب العشق الاستحسان والإعجاب سواء تولد عن نظر أو سماع، ومما لا شك فيه أن ما يحصل في الشات الكتابي من النوع الأول. ثم يقارنه طمع في الوصال، فينجذب إليه القلب بالكلية، وتميل إليه النفس كل الميل.وما أجمل ما قيل:
الحب أول ما يكون لجاجــة.... تأتي به وتسوقه الأقــدار
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى.... جاءت أمور لا تطاق كبـار
من ذا يطيق كما نطيق من الهوى.... غلب العزاء وباحت الأسرار
ولنعلم جميعا أن العشق الحاصل في الشات من العشق الذي يسارع فيه العاشق لمجرد النيل من وصال معشوقه والتلذذ بذلك، وإلا فمن العشق عشق عفيف لطيف، ولكن هذا النوع من العشق لن تجده عند سفهاء العقول من عباد الشهوة ومن نُزع خوف الجبار من قلبه، ومن انطرح بين يدي هواه.
والعشق العفيف لا يمكن تحصيله في الشات وإن حصل فعلى العاشق أن لا يبوح بعشق صاحبه إطلاقا. وعليه أن يبادر إلى ترك الشات قبل أن يتمكن الهوى من فؤاده فيرديه قتيلا له. وقد كان عقلاء العشاق يخفون ما بصدورهم من العشق، حتى قال قائلهم:
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
وقال محمد بن سيرين:: كانوا يعشقون في غير ريبة، وكان الرجل يأتي القوم فيتحدث عندهم لا يستنكر له ذلك.
ثم ليعلم الكل أن الله جبلنا على الميل إلى الجنس الآخر، وأودع فينا هرمونات ذات خصائص معينة ينبعث منها طاقة حرارية تبعث نوعا من اللذة في النفس. هذه الطاقة تستحثها نوع من المثيرات الخارجية، كالصور الحسنة، والصوت الحسن، والكلام الحسن، وكل ذلك مع اعتقاد مغايرة الجنس الآخر.
هذه الفسيولوجية لا يمكن دركها ابتداءا، ولكنها مع الوقت تبدأ في البروز التدريجي، حتى تؤثر على صاحبها، وتأسر صاحبها طوعا أوكرها.
إذا تبين ما سبق فليعلم الجميع أن للصور الحسنة وللكلام الحسن في الشات تأثيرا في استثارة تلك الغريزة الداخلية. وعندما تستثار يبدأ الوهم والخيال في رسم صورة حسنة للمخاطب من الجنس الآخر، ويزينها ويجملها في نظر الآخر بمباركة الشيطااان.
وينشأ ما يعرف بدعوى الحب، وهو مع التأمل والتركيز فيه، لا يعدو كونه وهما كاذبا، وسرابا شاتيا، من ادعى تحققه، فهو مغالط، ومدع لدعوى عارية من الدليل، وأما المتجرد عن الهوى ، الملتفت بعين البصيرة إلى ما قبل التعلق، وإلى ما قد ينتج بعد قضاء الوطر من الآخر، سيجد أن هذا الحب لا يعدو تلبية لرغبة من رغباته النفسية الآنية، وأنه في الواقع لا يعد لذة حقيقة، بل هو حسرة وندامة بالنظر إلى المآل، وما أجمل ما قيل:
تفنى اللذاذات ممن ذاق صفوتها.... من الحرام ويبقى الإثم والعاار
تبقى عواقب سوء في مغبتها.... لا خير في لذة من بعدها النااار
وقول الآخر:
وكم ذي معاصي نال منهن لذة.....ومات فخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي..... وتبقى تباعات المعاصي كما هيااا
فيا سوءتا والله راء وسامــع..... لعبد بعين الله يغشى المعاصيا
فعلى العاقل، ومن كان هدفه من الشات المتعة في الحديث مع الجنس الآخر، عليه أن يتدارك أمره، وليعلم أن للحب ووهمه سلطانا جائرا، قد يوقع صاحبه في مدلهمات الخطووب. وحينها لا ينفع الندم.
والقاعدة العامة في تمييز الحب المحمود من غيره، أن يقال أن ما يجلب لصاحبه في الدنيا والآخرة، فهو المحمود، وما لا يجلب إلا الضرر، ولو مآلا، فهو المذموم.
ولا شك أن العاقل لا يمكن أن يختار محبة ما يضره ويشقيه، وإنما يصدر ذلك عن جهل أو ظلم؛ فإن النفس قد تهوى ما يضرها، وهو الهوى المذموم، وهذا من ظلم الإنسان لنفسه. والنفس – أيضا- قد تهوى ما تجهل مضرته في المآل، وهذا هو الجهل. وبهذين يحصل التألم، وبحصوله ننهي الحديث عن هذا التأمل، والله الموفق.![]()