بسم الله الرحمن الرحيم
قيام الدولة الإسلامية فرض على المسلمين
يقوم جهاز الدولة الإسلامية على سبعة أركان هي: الخليفة، والمعاونون، والولاة، والقضاة ، والجهاز الإداري، والجيش، ومجلس الشورى. فإذا استكملت الدولة هذه الأركان السبعة استكمل جهازها، وإذا نقص واحد منها نقص جهازها، ولكنها تبقى دولة إسلامية ولا يضرها نقص شئ من الجهاز ما لم يكن الخليفة، لأنه الأساس في الدولة. وأما قواعد الحكم في الدولة الإسلامية فهي أربع قواعد هي: نصب خليفة واحد، وأن يكون السلطان للأمة، وأن تكون السيادة للشرع، وأن يتولى الخليفة وحده تبني الأحكام الشرعية أي جعلها قوانين. فإذا نقصت قاعدة واحدة من هذه القواعد كان الحكم غير إسلامي، بل لا بد من استكمال هذه القواعد الأربعة جميعها. والأساس في الدولة الإسلامية هو الخليفة، وما عداه نائب عنه أو مستشار له. فالدولة الإسلامية هي خليفة يطبق الإسلام، والخلافة أو الإمامة هي استحقاق تصرف عام على المسلمين، وهي ليست من العقائد، بل هي من الأحكام الشرعية، إذ هي من الفروع المتعلقة بأفعال العباد. ونصب الخليفة فرض على المسلمين، ولا يحل للمسلمين أن يبيتوا ليلتين دون بيعة. وإذا خلا المسلمون من خليفة ثلاثة أيام أثِموا جميعاً حتى يقيموا خليفة، ولا يسقط عنهم الإثم حتى يبذلوا الجهد لإقامة الخليفة ويواصلوا العمل حتى يقيموه. وقد ثبت وجوب نصب الخليفة بالسنّة وإجماع الصحابة، أما السنّة فقد قال صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ولأحمد والطبراني (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) خرّجاه من حديث معاوية، ولمسلم في صحيحه عن ابن عمر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من خلع يداً من طاعة الله لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببِرِّه ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم وإن أساؤوا فلكم وعليهم)، وأما الإجماع فإن الصحابة قد جعلوا أهم المهمات بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نصب الخليفة، على ما في الصحيحين من حديث سقيفة بني ساعدة، وكذا بعد موت كل خليفة من الخلفاء، وقد تواتر نقل إجماع الصحابة على وجوب نصب الخليفة حتى جعلوه من أهم الواجبات ويعتبر ذلك دليلاً قطعياً، وتواتر إجماع الصحابة أيضاً على امتناع خُلُو الأمة من خليفة في أي وقت من الأوقات. فواجب على الأمة نصب إمام أي إقامته وتوليته، وتخاطَب بذلك جميع الأمة من ابتداء موته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.
ويتضح مبلغ اللزوم الحتمي في إقامة الخليفة ومبلغ فهم الصحابة هذا اللزوم مما فعله الصحابة من تأخير دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بويع خليفة لرئاسة الدولة، ويتضح ذلك مما فعله عمر بن الخطاب حين طُعن وكان مشرفاً على الموت، فقد طلب إليه المسلمون أن يستخلِف فأبى، فألحّوا عليه فاستخلف ستة، :أي حصر الترشيح في ستة ينتخب منهم خليفة. ولم يكتف بذلك بل حدد لهم موعداً نهائياً هو ثلاثة أيام، ثم أوصى أنه إذا لم يُتفق على الخليفة بعج ثلاثة أيام فليُقتَل المخالف، نعم وَكّل بهم من يقتل المخالف مع أنهم أهل الشورى، ومع أنهم كبار الصحابة، إذ هم علي وعثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن عوام وطلحة ابن عبيدالله وسعد ابن أبي وقاص. وإذا كان هؤلاء يُقتَل أحدهم إذا لم يتفق على انتخاب خليفة فذلك يدل على اللزوم الحتمي لانتخاب الخليفة.
على أن كثيراً من الواجبات الشرعية يتوقف عليه كتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وسد الثغور وتجهيز الجيوش، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وحفظ الأمن، ونحو ذلك من الأمور التي بين آحاد الأمّة، ولذلك كان نَصبُه واجباً. وليس طلب الخلافة مكروهاً، فقد تنازع فيها الصحابة رضوان الله عليهم في السقيفة، وتنازع فيها أهل الشورى، ولم يُنكَر عليهم ذلك أحد مطلقاً، بل انعقد الإجماع من الصحابة في الصدر الأول على قبول هذا التنازع عليها منهم.
ولا يُولّى أكثر من خليفة واحد على جميع المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليُطِعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)، وفي رواية (فاضربوه بالسيف كائناً من كان). والأمر بقتل الآخر محمول على ما إذا لم يندفع إلاّ بالقتل قُتِل. وإذا اجتمع عدة ممن توفرت فيهم صفات الخليفة، فالخليفة من انعقدت له البيعة من الأكثر، والمخالف للأكثر باغٍ. وهذا إذا اجتمعوا في الوجود لا في عقد الولاية لكل منهم، أمّا إذا انعقدت الولاية لواحد مستوفٍ شروط الخلافة ثم بايع الأكثر غيره، فالأول هو الخليفة والثاني يجب رده. والشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة هي: الإسلام والذكورة والبلوغ والعقل والعدالة، أي يجب أن يكون الخليفة رجلاً مسلماً بالغاً عاقلاً عدلاً. أمّا شرط الإسلام فلقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)، وأمّا شرط الذكورة فلقوله صلى الله عليه وسلم: (كيف يُفلح قوم تملكهم امرأة)، وأمّا البلوغ والعقل فلأن المجنون والصبي يولّى عليهم في تصرفاتهم، فمن لم يكن له ولاية على نفسه لا تكون له ولاية على غيره، وأمّا العدالة فإن عمل الخليفة هو تنفيذ أحكام الدين وإذا لم ينفذها على نفسه لا يصدق في تنفيذها على غيره لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وقد اشتُرط في الخليفة أن يكون عدلاً فإذا كان فاسقاً لا يصلح للخلافة ولا يبقى في الخلافة لأن العدالة شرط في انعقاد الخلافة وشرط في استدامتها.
هذه هي شروط الخليفة الثابتة، أمّا ما عداها من الشروط التي ذكرها الفقهاء من مثل الشجاعة والعلم وكونه من قريش أو آل فاطمة وما شاكل ذلك فليست هي شروط انعقاد للخلافة ولم يصح أي دليل على أنها شرط لانعقاد الخلافة وصحة البيعة، ولذلك لا تعتبر شرطاً، فكل رجل مسلم بالغ عاقل عدل يصح أن يبايَع خليفة للمسلمين، ولا يشترَط فيه أي شرط آخر. وعلى ذلك فإن إقامة الدولة الإسلامية فرض على المسلمين جميعاً وقد ثبت ذلك بالسنّة وبإجماع الصحابة، ولأن المسلمين خاضعون لنفوذ الكفر في بلادهم وتطبَّق عليهم أحكام الكفر وأصبحت دارهم دار كفر بعد أن كانت دار إسلام أي أصبحت تابعيتهم ليست تابعية إسلامية وإن كانت بلادهم بلاداً إسلامية، وواجب عليهم أن يعيشوا في دار الإسلام وأن تكون لهم تابعية إسلامية، ولا يتأتى لهم ذلك إلاّ بإقامة الدولة الإسلامية، وسيظل المسلمون آثمين حتى يعملوا لإقامة الدولة الإسلامية فيبايِعوا خليفة يطبق الإسلام ويحمل دعوته للعالم. ************
من كتاب الدولة الإسلامية للامام تقي الدين النبهاني






























o
o
: o
)
