ففي ترجمة قتادة
ابن دعامة بن قتادة السدوسى
قال الذهبي : وكان من أوعية العلم وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ وهو حجة بالإجماع إذا بيَّن السَّماع , فإنه مدلس معروف بذلك , وكان يرى القدر نسأل الله العفو , ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه , ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه , وبذل وسعه , والله حكم عدل لطيف بعباده , ولا يسأل عما يفعل , ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه , وعلم تحريه للحق , واتسع علمه , وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه , يغفر له زلّتَهُ , ولا نضلله ونطرحه , وننسى محاسنه , نعم ؛ ولا نقتدي به في بدعته وخطئه , ونرجوا له التوبة من ذلك . (13)
بل نراهم على ورع تام في من جاوز الحد في التجريح , كما وقع للقاضي أبي بكر بن العربي مع ابن حزم رغم ما تلبس به ابن حزم في شأن الصفات .
قال الذهبي -في شأن القاضي ابن العربي - قلت :ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له , وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم , وأحفظ بكثير , وقد أصاب في أشياء وأجاد وزلق في مضايق كغيره من الأئمة , والإنصاف عزيز . (14)
ثم قال في موطن آخر : لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط , وبالغ في الاستخفاف به , وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد , فرحمهما الله وغفر لهما . (15)
بل حينما وقع العداء المفرط بين الإمام مالك وبين محمد بن إسحاق صاحب المغازي وأفرط كل منهما في الآخر .
قال الذهبي - قلت : لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر , ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة , وقد علم أن كثيرا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به , ولا سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف , وهذان الرجلان - يعني الإمام مالك ومحمد بن إسحاق - كل منهما قد نال من صاحبه , لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين , ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة , وارتفع مالك وصار كالنجم , والآخر - يعني ابن إسحاق -فله ارتفاع بحسبه , ولا سيما في السير , وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن , إلا فيما شذ فيه فإنه يعد منكرا , هذا الذي عندي في حاله - والله أعلم . (16)
ولما تكلم محمد بن نصر المروزي في مسألة الإيمان , قام عليه جماعة من أهل العلم كابن منده وغيره - كما ساق الذهبي القصة .
قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة في مسألة الإيمان : صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان بأن الإيمان مخلوق , وأن الإقرار والشهادة وقراءة القرآن بلفظه مخلوق , ثم قال : وهجره على ذلك علماء وقته , وخالفه أئمة خراسان والعراق .
. قلت - أي الذهبي رحمه الله :الخوض في ذلك لا يجوز , وكذلك لا يجوز أن يقال الإيمان والإقرار والقراءة والتلفظ بالقرآن غير مخلوق , فإن الله خلق العباد وأعمالهم , والإيمان فقول وعمل , والقراءة والتلفظ من كسب القارئ , والمقروء الملفوظ هو كلام الله ووحيه وتنزيله , وهو غير مخلوق , وكذلك كلمة الإيمان , وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله داخلة في القرآن , وما كان من القرآن فليس بمخلوق , والتكلم بها من فعلنا , وأفعالنا مخلوقة . ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له , قمنا عليه وبدعناه وهجرناه , لما سلم معنا لا ابن نصر , ولا ابن مندة , ولا من هو أكبر منهما , والله هو هادي الخلق إلى الحق , وهو أرحم الراحمين , فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة . (17)
قال الذهبي : ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض , وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها , فلا فائدة في بثها , ووقع في كتب التواريخ , وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة , والعاقل خصم نفسه , ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه , ولحوم العلماء مسمومة , وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم وكثرة وهمه أو نقص حفظه , فليس من هذا النمط , بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن , والحسن من الضعيف . (18)
والذي يتتبع أخطاء العلماء يرى كما عظيما لا تحتويه الكواغد , فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ وهم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ،كما في قوله تعالى : { وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
فأعظم القرب وأجل المنن التقرب إلى الله بحب العلماء , وتعظيمهم وذكر فضلهم .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
وأهل الحق والإنصاف يقدمون التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالتهعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ . (19) ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتكلم عن أعراض العلماء :نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله . (20) .
وقد علق البخاري : وَقَالَ عَمَّارٌ : ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ . قال الحافظ في الفتح : قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان . (21) .
فينبغي عليك يا طالب العلم أن تذكر نفسك أن العلماء بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة , فإن وقعت فالتمس لهم الأعذار وإلا فأين من تجده معصوما من الخطأ والزلات ؟!.
فيا طالب العلم ! عود نفسك الإنصاف , وإياك والإسراف , فإن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .
كتبه
أبو محمد
(1) رواه مسلم (2699) .
(2) رواه مسلم (المقدمة) .
(3) أدب الإملاء (20) .
(4) ترجمة الطبراني "للأصبهاني" (344) .
(5) حياة الحيوان (1/61) .
(6) الصفوف من الجنود .
(7) ما يخبأ فيه الطيب ونحوه .
(8) ما بكتب فيه .
(9) أماكن وضع الكتب .
(10) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن .
(11) متفق عليه .
(12) سير أعلام النبلاء (11/83) .
(13) سير أعلام النبلاء (5/271) .
(14) سير أعلام النبلاء (20/203) .
(15) سير أعلام النبلاء (18/190) .
(16) سير أعلام النبلاء (7/40) .
(17) سير أعلام النبلاء (14/39) .
(18) سير أعلام النبلاء (10/94) .
(19) رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن .
(20) الفتاوى الكبرى : 6 / 92 .
(21) فتح الباري : 1 / 83 .