حدث في الفترة الماضية في هذا المنتدى كلام بشأن دعوة الحركات الاسلامية و ادعى البعض انها حركات ضالة و انه كان الأولى بهم ان ينهو عن الطواف بالقبور ... بدلا من ان يحاولوا لملمة جراح المسلمين!

و البعض ايضا انتقد "عقيدة" بعض كبار الدعاة -- مع ان هؤلاء عاشوا و ماتوا من أجل العقيدة الاسلامية .. فكانت العقيدة عندهم محركا يبعث الحياة و يوقظ النفس .. اما منتقديهم فجعلوا من العقيدة متاهات في علم الكلام لا يخرج منها المرء بطائل.
عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: أبهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض! بهذا هلكت الأمم قبلكم!".

و انا اقرا الان مقالا بعنوان "المقاومة و عقيدة التوحيد" للدكتور محمد عياش الكبيسي, عضو هيئة العلماء المسلمين في العراق. و قد رأيت ان انقله هنا لما فيه من رد على تلك الادعائات.

---

التوحيد قاعدة الإسلام الأولى، أسس أمة، وأقام حضارة، وغير خارطة العالم، ومع ضعف المسلمين اليوم وعجزهم عن الانسجام مع متطلبات التوحيد الكبيرة، إلا أن هذه العقيدة ما زالت قادرة على تحريك الموات وصنع المعجزات، وما يحدث اليوم في ميادين الشرف على أرض فلسطين والعراق دليل شاخص على هذه الحقيقة الكبيرة. حيث اتضح لكل مراقب أن هنالك عقيدة دافعة تقف وراء هذا الصمود الأسطوري الذي لا يأبه بفارق عسكري ولا يلتفت لضجيج إعلامي!


وبقيت كل مدارس التحليل النفسي في المؤسسات الغربية عاجزة عن فهم المحرك الحقيقي لطوابير الاستشهاديين الذين يقدمون على الموت بقلب مطمئن وثغر باسم! كما أن هنالك حيرة حقيقية لدى علماء السياسة والاجتماع كيف تسقط دول كبيرة وتستسلم لعدوها دون مقاومة بعد أول ضربة قاسية تتعرض لها ثم تستمرئ التبعية لعدوها لعقود طويلة، وهذه حال اليابان بعد هوريشيما، وألمانيا بعد هتلر، ولكن بالمقابل نرى شعوبا جريحة ومحاصرة تنتفض لكرامتها وتدوس تحت قدمها تلك الآلات الجبارة التي أرهبت العالم.

إن هناك -لا بد - شيئا ما لدى هذه الشعوب تفتقر إليه اليابان وألمانيا، وليس ذاك إلا عقيدة التوحيد!!

وهذه العقيدة لا بد أن يتنادى كل الغيارى في هذه الأمة لحمايتها وتفعيلها لتؤدي دورها الحقيقي في نهوض الأمة وتفجير طاقاتها. وبالمقابل لا بد من أن ننتبه إلى أن العدو - وقد رأى فاعلية هذه العقيدة - أنه سيحاول تفكيكها و إفراغها من محتواها!!

وإذا أردنا أن نخطو الخطوة الأولى في هذا المجال فلننظر في المعاني الرئيسة التي صاغها القرآن كمعالم واضحة في عقيدة التوحيد:

1- توحيد الله في الخلق، بمعنى أن الله هو الخالق الوحيد لهذا الخلق، وقد أصّل القرآن هذا المعنى من خلال دعوة الإنسان للنظر في وحدة الخلق المتجلية في انسجام مكونات هذا الكون في خارطة هندسية وظيفية في غاية الدقة والجمال! «أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون»(النمل:60)

2- توحيد الله في الملك، وهذا المعنى مبني على المعنى الأول اذ من العدل والمنطق أن الذي خلق الخلق من العدم هو الذي يملك هذا الخلق «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة»(تبارك:1)

«ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء»(المائدة:17) وهكذا يتضح الربط بين الخلق والملك فإذا كان الله هو الخالق الوحيد فهو إذن المالك الوحيد.

3- توحيد الله في الحكم والتشريع، وهذه نتيجة طبيعية للمقدمتين الأوليين فإذا كان الخلق لله والملك لله فمن المنطقي أن المالك هو الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء! ولذلك ندد القرآن بمن يفصل بين هذه النتيجة ومقدماتها فقال «ألا له الخلق والأمر»(الأعراف:54) ومن ثم «إنْ الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه»(يوسف:40).

4- توحيد الله في الطاعة والعبادة، وهذه هي الثمرة العملية لما قبلها فمن له الأمر له الطاعة، والعباد المخلوقون والمملوكون لله ما عليهم إلا الخضوع والاستسلام لله الواحد، وهذا هو المعنى الحقيقي للإسلام!! «أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها واليه يرجعون»(آل عمران:83).

5- توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالله الذي خلق الخلق بقدرته وملكهم بإرادته وأخضعهم لحكمه وألزمهم بطاعته لا بد أنه كامل في صفاته لا ندّ له ولا شبيه فهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.

إن كل هذه المعاني العظيمة جمعها الإسلام في جملة واحدة ( لا اله إلا الله) بمعنى لا شريك لله في خلقه، ولا شريك لله في ملكه، ولا شريك لله في حكمه، ولا شريك لله في صفاته، وكل من نازع الله في واحدة من خصائصه هذه فهو طاغوت ينبغي أن نكفر به «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»(البقرة:256).

وبهذا يكون التوحيد في حقيقته رفض ومقاومة لكل طاغوت على وجه الأرض أيا كان شكله وحجمه، وهذه العقيدة بدورها هي التي تمد المقاومين بروح الصمود والاستمرار، وبهذا نفهم كيف تجرأ إبراهيم -عليه السلام- وهو الفتى الوحيد أن يجعل أصنام قومه جذاذاً! وكيف صرخ السحرة بعد إسلامهم بوجه فرعون «فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا»(طه:72)، ومحمد -عليه الصلاة والسلام- وصحبه «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل»(آل عمران:173)، وهكذا إلى صلاح الدين والملك المظفر وعمر المختار وعز الدين القسام والى آخر موحّد سيقاوم الدجال.

لكن هذا التوحيد الحي والقادر على نفخ الحياة في الموات يتعرض اليوم لمحاولات ترويضية أو تهجينية لعزله عن دوره الحقيقي ولصنع توحيد جديد لا يعارض ولا يقاوم ولا شأن له بمجرى الحياة! ومن ملامح هذا التوحيد الجديد:

1- محاولة لحصر معاني التوحيد في شعائر معينة لا تشكل إلا جزءا يسيرا من المعاني الكبيرة التي أكدها القران الكريم -كما مر- فالتوحيد هنا ليس سوى إفراد الله بالذكر والدعاء والقرابين والنذور وما إلى ذلك!! وهذا كما ترى توحيد مهادن مسالم لا يتطلب تضحية ولا مواجهة فهذه الأعمال كلها يمكن أن تؤدى بالزوايا والخلوات بعيدا عن الحياة وتحدياتها، ولكن يشكل على هؤلاء أن كل دعاة التوحيد الأوائل من الأنبياء والمرسلين قد قدموا صورة للتوحيد تختلف عن هذه الصورة، وقد سجل القرآن الكريم من قصصهم ومواقفهم في هذا الشأن الشيء الكثير مما لا مجال للتواري أو التغاضي عنه.

2- محاولة لإثبات التوحيد من خلال الكفر بطواغيت وهمية أو هامشية لا وجود لها ولا تأثير، إنها محاولة لترحيل المواجهة إلى زمان أو مكان آخر هروبا من الامتحان الحق الذي لا يتجلى التوحيد إلا به، فمنهم من يتحدث اليوم عن الأصنام والقبور متجاهلا شرك القانون والدستور، ومنهم من تفطن الآن للحديث عن الملحدين والشيوعيين والماركسيين!! متغافلا عن الصهاينة والصليبيين، ورأينا اليوم في بغداد من إذا حدثته عن موقف المسلم من الاحتلال ذكرك بجرائم النظام السابق والمقابر الجماعية!!

ونحن هنا نتساءل ماذا لو أن السحرة كفروا بكل الأصنام والقبور والتمائم لكنهم لم يجرؤوا أن يقولوا لفرعون: لا؟ هل سيخلد القرآن ذكرهم؟ وماذا لو أن الصحابة الكرام تركوا ما لكسرى لكسرى وما لقيصر لقيصر وانصرفوا يتحدثون عن جرائم فرعون وملئه.. من سيذكرهم؟ إنها قضية في غاية الخطورة، لكن الله لن يترك هؤلاء الهاربين حتى يقحمهم في قاعة الامتحان الحق «أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون»(التوبة:16).

إن لكل زمن طاغوتاً يبتلي الله به إيمان المؤمنين وتوحيد الموحدين من فرعون إلى الدجال وبينهما آلاف الفراعين والدجالين، ولا تتجلى حقيقة التوحيد إلا بأن تكفر بالطاغوت الذي امتحنك الله به أنت، آنذاك فقط يظهر إن كنت تخاف من الله أم تخاف من الطاغوت! وان كنت ترجو ما عند الله أو ترجو ما عند الطاغوت.

3- محاولة إقناع الأمة أن ركوعها للطاغوت واصطفافها معه لا يتعارض بحال مع حقيقة التوحيد!! فإنما الأعمال بالنيات، وان الشريعة قائمة على تحقيق مصالح العباد، وأن الضرورات تبيح المحظورات - وهذا ما سنناقشه إن شاء الله في حلقات قادمة- ويكفينا هنا أن نقول : إن الضرورة والمصلحة تتطلب تعبئة الأمة للاحتفاظ بهويتها وانتزاع حقها وتحرير أراضيها ومقدساتها، وأن الفتات الذي يتساقط من موائد الغاصبين مما يسمى مصالح ومكاسب ما هو إلا تخدير لجسد الأمة وفت في عضدها وتمييع لقضيتها و إعطاء الفرصة لإنجاح المشروع الغازي وفتح المجال لكل خوّان أثيم أن يعتذر بمثل هذه الأعذار حتى لا تعرف الأمة أصدقاءها من أعدائها، و أخيراً فأين الله الخالق المالك الحكم العدل من كل هذا «ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم» (محمد:4).