تعبرُ فتاةٌ جميلة في أحد شوارع أوساكا الجميلة ، فيتهافت المراهقون بإنجليزيّة مكسّرة : " Cheecky Cheecky" ، المشتقّة من " Check it up " ، و في الواقع تضاف ألوف الكلمات المستوردة إلى القواميس اليابانيّة كلَّ عام ، حتى أصبحت اليابانيّة لغة مريضة مشبعة بما لا تحتاجهُ كأسفنجةٍٍ تشبّعتْ ماءً، حتى أصبح يقطر منها بعشوائيّة و اتساخ.
في اليابان، الفردُ ذرّةٌ من رملٍ في أكوامٍ الرمالِ لا يميزها معلمٌ أو شكل، يقلّدون فقط، و ضياع الهويّة الثقافية مشكلة عويصة و سوف تضع اليابان في مشكلة حضارية و مأزق لا ينتهي، فالرعيل الأول من الشعب الياباني انساقَ خلفَ الثقافة الصينية و التي استوردت اليابان منها الكثير ، فيما يتعلق باللغة و الثقافة و التاريخ.
أمّا بعد الحرب، وبعد أن أوقعت أمريكا اليابان بقنبلة هيروشيما و ناجازاكي، أصبح الشعب الياباني ذيلاً للكلبِ الأمريكيِّ المشوّه، وضاع فكرِ الفرد، وصار آلةً تعمل لنهضة السلطة، و المجتمع الخاص، و صارت الحياة اليابانيّة باردة خالية من أي معنى واضح. فاليوم نستورد ( مع المنتجات الأوروبيّة ) ثقافةً أوروبية أدبية أو فكرية و كثيرٌ منّا يتقن اللغة الإنجليزية، على عكسِ اليابانيين و الذين تزخر بيوتنا بمنتجاتهم دون أي أثر للثقافة اليابانيّة علينا.
حين تدخل احد مطاعم الوجبات السريعة في طوكيو ، أو محطة للـ(Underground) ، ترى جيوشاً بشريّة مصطفة بجانب بعضها البعض ، كتفاً لكتفٍ بنظام، خارجين إلى العمل أو عائدينَ منهُ ، والعمل - بالمناسبة - هو الأهميّة المطلقة للياباني إذ نقدّم أنفسنا بالأصول ، ويقدمون أنفسهم بالشركات .
أحد المواقف التي لامستني حين قرأتها ، هو موقف يوكيو ميشيما - كاتب و روائي ياباني - ، و الذي يقول :
" قبل الحرب كان الكتاب اليابانيون يقدمون الحياة الخام للمجتمع الياباني بتقاليده الخاصة، أما اليوم فالشعب الياباني يشعر بالحريّة . أصبح الناس ماديين و أغنياء ولا يريدون شيئاً سوى الاستمتاع بالحياة لأقصى حد ، لكن كل هذا الاستمتاع والحريّة اصطناعي زائف. هذا ينعكس أيضاً على الكاتب فليس هناك مادة خام يكتب عنها لأن حياته أيضاً أصبحت اصطناعيّة و زائفة وطعام معلّب. لهذا وصلت إلى الاقتناع بضرورة البحث عن شيء أصيل في مجتمعنا. أريد أن ألمس النار، لكن لا نار في حياتنا الحاضرة. من هو الشخص في الأسطورة اليونانيّة الذي أخذ النار من الجبل؟ نعم، بروميثيوس. أنا أريد أن أكون بروميثيوس."
سنة 1970 م ، وفي طوكيو، سيطر ميشيما على مكتب الجنرال العسكري في احد المواقع العسكرية الرئيسة ، و القى خطاباً على ألفٍ جندي من عشر دقائق ، تحدث فيه عن الوضع المزري في اليابان و بأسى شديد و حرقة تسكنه ، وحين انتهى .. أنهى حياته على طريقة الساموراي ،الهاراكيري بنبلٍ ، بعد أن شقَّ بطنه من اليمينِ إلى اليسار، وإلى الأعلى ليموتَ على طريقةِ أجداده. وقد سبب هذا الحدث ضجة في حينهِ و قلقل اليابان داخلياً ، ولكن الآلة ما لبثت أن عادت لعملها.
نهضة اليابان نهضة مزيّفة و مخلخلة، إذ أن اليابانيين مستوردون للأفكار الخارجيّة فقط، فالمحرك مستورد من ألمانيا ، والحاسوب من بريطانيا، وتطول القائمة ، بل حتى الأنيمي و المانجا ( الرسوم اليابانية ) و التي تعد الوسيلة الأولى التي تتصل اليابان عن طريقها بالعالم ثقافياً مستوردة هي الأخرى من أمريكا حيثُ نشأت.
المانجا ، هي فكرة أدبيّة جميلة ، وتقوم على توصيل الفكرة مقرونةً بالصورة ، إذ تقترن بالعاطفة ، والعمل ، والأفكار ، و القيم و المبادئ ، و كلّ شيءٍ تتحدث عنه أي وسيلة ثقافية أخرى. وهي جميلة جداً ، إذ ينكب اليابانيون في أوقات فراغهم على كتب المانجا و بإدمان ، وكذلك الأنيمي - الرسوم المتحركة - و المتميّزة هي الأخرى ، وعالمياً أحياناً، وقد دخلت إلى الشرق الأوسط في أواخر القرن العشرين حين بدأت حركة دبلجة الرسوم المتحركة بلغة عربيّة سليمة و مراجعة - وهي خطوة جميلة - بعكس ما أقدمت عليه شركات الدبلجة المصرية.
العقدة الثقافيّة في اليابان متأصلة بشكل رهيب، وهي لاحقة بالمشكلة الأمريكية ، إذ أن الشعب الأمريكي مُستهلك إلى آخر الحدود ، فالأمريكي جاهلٌ متابع للمسلسلات المخدّرة لعقله بشكل يومي، و يعمل كآلة براتب منخفض، ولم يربح من النهضة الأمريكية سوى أصحاب رؤوس الأموال، أما بقيّة الشعب فيؤهل ليكونَ عاملاً يسير مع الموجة مخدوعاً بالحريّة المزعومة.
واليابانيون يطاردون الأمريكان، فيخلو عقل الياباني من أي فكر و مبادئ ، ولا يستطيع أن يبتكر أو يخلق مبادئه ، و إنما يطور مبادئ الآخرين فقط و يتبعها معصوبَ العينين، وتلكَ هي مصيبة الحضارة، ومن حسن حظنا في العالم العربي أن هذهِ المشكلة مختفية فرغم سذاجة الآراء و بساطتها لكنّها تبقى أراء فرديّة وذلك شيء جميل نسبياً فكل ما ينقصنا هو أن نوقظ أجفاننا ونرى العالم.
الدين في اليابان مشتت هو الآخر ، فاليابانيون تائهون بين الشنتويّة و البوذيّة ، وبعض المبادئ الكونفوشيّة ( Confucianism ) ، والتي أسسها كونفوشيوس في الصين ، واستوردها الجيل الأول في اليابان ولا زال يحافظ على تقاليده و عاداته ، والتي يثور عليها الجيل الجديد (المتأمرك)،و تقوم فكرة الكونفوشيّة على الاحترام المتبادل ، من المرأة للرجل ، والصغير للكبير ، ومن العالم لمن هو أعلم منه ، وهذا ما نطبّقه منذ 1400 سنة.. لكن تُلاحظ بعض بدايات التذييل الثقافي في بلادنا ، ومع ذلك تبقى مجرد بدايات ، والصحوة الثقافية في طور البداية.
يلزمنا صحوة ثقافيّة مشابهة للصحوة العلمية في أوروبا و التي لحقت عصور الظلمة ، والتي اعتمدت على الانتقاء الحضاري و إنشاء المبادئ المناسبة للمجتمع وطبيعته. على عكس الصحوة التي كانت بدايتها في المملكة سنة 1407 هـ ، تحت اسم الصحوة ( المباركة ) في أوساطها آنذاك ، والتي أثمرت عن الحركات الإرهابيّة كنتائج لاحقة حالياً ، و قامت بالعديد من الفِعال الموغلة في الجهل ، كاختفاء الدكتور الجريّان سنة 1417 هـ من أمام بيته ، أو كالاغتيالات التي حدثت في وقتِ من الأوقات وعادت للظهور على شكل أعمال إرهابيّة.
و مهما تحدثنا ، العُقد الثقافيّة لا تنتهي ، و أمّة بلا أخطاءٍ لا تتعلم ، و أمّة بلا تاريخٍ أو أساطيرٍ لا تنشأُ أصلاً ، فلولا الميثولوجيا ما نشأت الفلسفة الإغريقية ، ويتكرر الأمر مع المصريين ، ولولا أخطاء الكنيسة المتكررة في أوروبا لمّا حدثت الصحوة العلمية الفكرية في وقتها. و التاريخ أخطاء .