واجب الأمة الإسلامية
إن الله سبحانه وتعالى جعل العقل مناط التكليف، ولم يجعله مصدرا للتشريع، فالحسَن هو ما حسَّنه الشرع والقبيح هو ما قبَّحه الشرع، فليس للعقل أن يُحسِّن أو يُقبِّح من أفعال العباد شيئاً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يترك البشر عرضة لتناقض العقول واختلافها، قال تعالى ,ضربَ اللهُ مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون -، وقال تعالى ,أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم- فبعث الله النبيين وأنزل معهم الكتاب بالحق، قال تعالى ,كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه- ثم أرسل الله سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، قال تعالى ,اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون! يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون!هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- فكان رسول الله هادياً لجميع البشر، وكان رحمة للعالمين، قال تعالى ,وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين-، وكانت الأمة الإسلامية هي الأمة المسؤولة عن حمل الرسالة للعالم أجمع، لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى , الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد-. فحملت الأمة الإسلامية الرسالة واتصلت بالعالم اتصال رعاية ومسؤولية حتى وصل الإسلام إلى ما وراء الصحارى والبحار، وأخرجت قسماً كبيراً من سكان المعمورة من دياجير الظلم والجهل إلى عدل الإسلام ونوره. وبهذه المسؤولية العالمية التي أُلقيت على عاتق الأمة الإسلامية كانت خير أمة أُخرجت للناس قال تعالى ,كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر-.
وكأية أمة من الأمم تعرضت الأمة إلى انتكاسة، أقعدتها عن متابعة مسؤوليتها عن العالم، لا بل أصبحت مسلوبة الإرادة، مسربلة برداء القهر والذل والاستعباد. فمنذ أواسط القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) والعالم الإسلامي ينحدر عن المستوى اللائق به انحدارا سريعاً، ويهبط إلى هوة الانحطاط هبوطاً فظيعاً، بسبب الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام. حتى إذا كان القرن الثالث عشر الهجري(التاسع عشر الميلادي) تحدى النظام الرأسمالي ـ وهو نظام كفرـ نظام الإسلام في أفكاره ومشاعره. وما هي إلا جولة قصيرة حتى هُزِمَ المسلمون أمامه هزيمة فكرية أعقبتها الهزيمة السياسية المدمرة بزوال سلطان الإسلام من على وجه الأرض. ولكن الإسلام لم يُهزَم ولن يُهزَم لأنه وحده الحق. ولكن أنّى له أن يبقى في حلبة الكفاح وقد هُزِمَ أهلُه، ولم يُدركوا موقعه في الكفاح. وبهزيمة المسلمين أصبحت الأمة الإسلامية ومعها العالم كله، تتخبط، وترزح تحت نير الظلم السياسي والاقتصادي، وتَخضع ومعها العالم كله لعبودية قوة غاشمة، تئِن تحت كابوس الشقاء والاستعباد والإذلال.
غير أن الأمة الإسلامية وهي تعتنق العقيدة الإسلامية ـ فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ـ عقيدة سياسية تُتَّخَذ أساساً ما بعده أساس للبحث عن رعاية شؤون الدنيا، قاعدة فكرية تُبنى عليها الأفكار وتنبثق عنها الأنظمة، قيادة فكرية تقود معتَنِقها إلى حملها للناس كافة، وجهة نظر معيّنة في الحياة تُصور الحياة بأنها الحلال والحرام، يجب عليها أن تأخذ على عاتقها مهمة إنقاذ العالم، وإخراجه من ظلمات الضلال والتضليل، إلى نور الهدى، وسعادة الحياة. فإنها وإن كانت رازحة تحت نير القوة الغاشمة، فإنه لم يعد جائزاً لها أن تفكر في نفسها فحسب، فإن الأنانية بعيدة عما تعتنقه من عقائد، وغريبة على ما تحمله في ثنايا نفسها وفي صميم فؤادها من قيم وأفكار. لذلك يجب أن تفكر في إنقاذ العالم مع إنقاذ نفسها، وأن تضطلع بمهمة تحرير العالم لا بنفسها وحدها. فإنها جزء من هذا العالم، وهي وُجِدت من أجل هدى البشر، وبعد أن اعتنقت عقيدة الإسلام، صار فرضاً عليها أن تنقذ الإنسانية من الشقاء، وأن تخلِّص البشر من الظلم والتعاسة، ومن الإذلال والاستعباد.
إن الأمة الإسلامية تعتنق فكرة أساسية عن الحياة، فكرة سياسية، وتعتنق طريقة لتنفيذ هذه الفكرة في الحياة. وإذا ملكت أمة الفكرة الصحيحة مع طريقتها، فإنها ولا شك تكون أهلاً لإعطاء الخير وتكون أهلاً لحمل قيادة هذه الفكرة. ولذلك فإن الأمة الإسلامية، ليست قادرة على النهضة الصحيحة فحسب. بل هي قادرة على ذلك، وعلى أن تكون مصدراً للخير لغيرها، وعلى حمل هذه الفكرة للناس. قيادة فكرية ووجهة نظر في الحياة. وبالتالي هي قادرة على حل مشكلة العالم، وعلى إنقاذه مما يتردى فيه من الشقاء والاستعباد والذل. بحمل الدعوة الإسلامية إلى الشعوب والأمم.
والأمة الإسلامية لم تُغلَب في تاريخها من أية أمة، ولن تُغلب مطلقاً في صراعها مع الشعوب والأمم، مهما كانت قوة تلك الشعوب والأمم، ولذلك فهي قادرة على إنقاذ العالم مهما كانت قوة الدول المسيطرة عليه، أما ما حصل في الحروب الصليبية من حرب استمرت أكثر من قرن، فإنه فوق أن النصر النهائي كان للمسلمين، فإن الأمة الإسلامية لم تصارع الغرب بوصفها أمة إسلامية. وإن كانت الشعوب الأوروبية قد استُنفرت كلها لمحاربة الأمة الإسلامية. فإن الواقع هو أن الحرب كانت محصورة في بلاد الشام ومصر، والذين حاربوا هم أهل الشام ومصر، والذين انتصروا هم أهل الشام ومصر، أما الأمة الإسلامية فقد كانت موزعة إلى ولايات تشبه الدول، ولم تكن لخليفة المسلمين السيطرة الكاملة على هذه الولايات، فلم تدخل الأمة الإسلامية في حرب مع الصليبيين، وإنما دخلت بلاد الشام ومصر ليس غير. وكانت باقي الولايات غير مشتركة في هذه الحرب، لأن الولاة الآخرين، فوق كونهم مشغولين بتركيز سلطانهم، فإنهم كانوا يرون أن جهاد الكفار فرض على كفاية، وأن بلاد الشام وبلاد مصر كافية لصد الكفار عن بلاد الإسلام، وكانت كافية بالفعل، ولذلك كان النصر النهائي للمسلمين، وطُرِدَ الصليبيون من مصر وبلاد الشام ورجعت سيطرة الإسلام إلى هذه البلاد.
وأما ما حصل في الحرب العالمية الأولى، فإنها لم تكن حرباً صليبية ضد الأمة الإسلامية، وإن كانت في دوافعها الخفية تجاه بلاد الإسلام أشد من الحرب الصليبية الأولى وأكثر عمقاً وأشد تأثيراً. ذلك أن إنجلترا وحلفاءها دخلت الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، والدولة العثمانية دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا، فهي حرب بين دول أوروبا اشتركت فيها الدولة العثمانية. ولذلك لم تعتبرها الأمة الإسلامية أنها حرب ضدها، ولم تشترك فيها الأمة الإسلامية. لذلك اشترك فيها المسلمون الهنود مع الجيش البريطاني، واشترطوا أن لا يحاربوا المسلمين، واشترك فيها إلى جانب الإنجليز الكثير من بلاد العرب ومن رجال العرب مع أنهم في جمهرتهم مسلمون، وإن كانوا قد اشتركوا تحت عامل التضليل، ولكن الذي سهّل هذا التضليل هو عدم ظهور أنها حرب ضد الأمة الإسلامية.
فالأمة الإسلامية لم تُغلب في تاريخها مطلقاً بوصفها أمة إسلامية، وكانت تُعقد لها راية النصر المؤزر في جميع الأحقاب التي حاربت فيها بوصفها أمة إسلامية، وفَتحت أكثر بلاد العالم القديم الذي كان معروفاً حينئذ، وأوجدت هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف. ولذلك فإن الأمة الإسلامية إذا وقفت أمة إسلامية، فإنها قادرة على إنقاذ العالم من هذه القوى الشريرة التي تتحكم فيه وتتسلط عليه وتذيقه ألوان الشقاء والذل والاستعباد.
قد يتساءل الكثيرون قائلين: إن الأمة الإسلامية خاضعة كسائر العالم لسيطرة الدول الكافرة وتتجرع ما يتجرعه سائر الناس من السيطرة والشقاء والذل والاستعباد، وتُفرض عليها ما يُفرض على سائر الناس من السيطرة بجميع أنواعها، السياسية والاقتصادية والثقافية، وحتى العسكرية في بعض الأحيان، فأحرى أن يُطلب منها تحرير نفسِها من السيطرة والنفوذ لا أن يُطلب منها تحرير غيرها، وهي أحوج الناس للتحرير! على أنها وقد تحررت فعلا أو سارت في طريق التحرير فإن مقارعة الدول الكافرة أكبر من قدرتها فكيف يكون في قدرتها أن تصارع هذه القوى؟.
قد يتساءل الكثيرون هذا التساؤل، وقد يسأل الكثيرون هذا السؤال، ولكن ذلك إذا حصل إنما هو نتيجة جهل لطبيعة المسلمين، وعدم إدراك لمدى قوة الإسلام في الصراع، فوق كونه مغالطة أو تضليلاً. أما كونه مغالطة أو تضليلاً فإن الغرب الكافر، العدو اللدود، من جملة أساليبه التضليلية أن يشغل الأمة بتحرير نفسها حتى منه لصرفها عن حمل رسالتها للعالم، ويوقعها في حِبال دوامة من الأفكار والأعمال للتحرير تؤدي إلى زيادة قيودها لا إلى حلها، وإلى تثبيت سيطرته عليها لا إلى تحريرها من سيطرته ونفوذه، لذلك فإن انشغال الأمة بنفسها عن حمل الدعوة إلى العالم لإنقاذه، هو وسيلة من وسائل صرفها عن دعوتها ووسيلة من وسائل تثبيت هذه السيطرة، وتطويل أمد بقائها فوق بلاد الإسلام. ومن هنا كان من الخطأ والخطر على الأمة أن تنشغل بنفسها عن دعوتها وأن يلهيها شأنها عن العمل لإنقاذ بني الإنسان.
وأما كونه جهلاً بطبيعة المسلمين وعدم إدراك لمدى قوة الإسلام فإن العقيدة الإسلامية؛ عقيدة التوحيد هي التي أنشأت العرب نشأة جديدة، وبثّت فيهم روحا أحالتهم خلقاً جديداً، حين اقتحمت على نفوسهم مناطق عقائدها، واتصلت بوجدانهم في صميمه، فإنَّ بذرة التوحيد إذا أُلقيت في نفوس أي شعب صافية الجوهر، نقية من كل شائبة، بسيطة كل البساطة، دفعت إلى نفوس ذلك الشعب قوة روحية هائلة لا قدرة لأحد على تقدير مداها، فإن هذه القوة تجعل صاحبها يستهين بالحياة في سبيل هذه العقيدة، فكيف لا يستهين بالصعاب مهما بلغت، وهي دون الاستهانة بالحياة، لذلك لم يكن عجيباً أنْ قَدِرَ العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم، لأن بذرة التوحيد أحالتهم خلقاً جديداً وليس بعجيب أن يَقدر المسلمون اليوم على الأمريكان والإنجليز والفرنسيين إذا ما أُحييت في نفوسهم بذرة التوحيد.