بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
البومة في غرفة بعيدة
كل صور عدد كانون الأول من المجلة الهندية (( أ.. )) كانت رائعة ، ولكن أروعها بلا شك صورة ملونة لبومة مبتلة بماء المطر .. وتكمن كل روعها في لحظة اللقطة الموفقة ، وفي براعة الزاوية .. وأهم من هذا كله : في اصطياد النظرة الحقيقية للبومة المختبئة في ظلمة ليل بلا قمر .
كنت في غرفتي : غرفة عازب بجدران عارية تشابه إحساسه بالوحدة والعزلة .. أرضها متسخة بأوراق لا يدري أحد من أين جاءت ، والكتب تتكدس فوق طاولة ذات ثلاث قوائم رفيعة ، أما القائمة الرابعة فقد استعملت يداً لمكنسة ما لبثت أن ضاعت .. والملابس تتكوم فوق مسمار طويل حفر عدة ثقوب بظهر الباب قبل أن يتركز نهائياً في ثقبه الحالي .
قلت لنفسي وأنا أشد بصري إلى صورة البومة الرائعة :
- يجب أن تعلق هذه الصورة على حائط ما .. فذلك يكسب الغرفة بلا شك شياً من الحياة والمشاركة ...
الصقت الصورة بالفعل على الحائط المقابل للسرير ، وأطرتها بورقة بنية كي تنسجم مع الحائط بشكل من الأشكال ، كان العمل الفني ، إذاً ، قد أخذ سبيله إلى الغرفة ، وكان لابد أن أغبط نفسي على التقاط هذه الصورة .
عندما آويت لفراشي في منتصف الليل ، فاجأتني الصورة ، كان ضوء الغرفة خفيفاً بعض الشيء ، وقد يكون هذا خو السبب الذي من أجله بدت لي الصورة في غاية البشاعة ، كان رأس البومة أكبر من المعتاد ، وكان يشبه شكلاً رمزياً لقلب مفلطح بعض الشيء ، أما المنقار الأسود فقد كان معقوفاً بصورة حادة حتى ليشبه منجلاً عريض النصل ، والعينان كانتا مستديرتين كبيرتين يختفي أعلاهما تحت انحناءة الحاجبين الغاضبين ، كان في العينين غضب وحشي ، وكانت النظرة – رغم ذلك – تحتوي خوفاً يائساً مشوباً بتحفز بطولي وتشيه إلى حد بعيد نظرة إنسان خضع فجأة للحظة ما ، عليه أن يختار فيها بين أن يموت ، أو أن يهرب ، كان الوجه مخيفاً وبدا أن العيون المستديرة اللماعة بإيماضة حية ، كانت تحدق عبر صمت الغرفة ، وتخترق برعشتها الحية جمجمتي ، وتقول بصوت حاد :
- أتذكر ؟ .. لقد التقينا مرة قبل الآن .
أطفأت الضوء الشاحب ، ودفنت رأسي في الغطاء الموسخ بعرق الصيف اللزج ، ورغم ذلك ، فلقد كنت أرى العينين الغاضبتين الخائفتين تخترقان الظلمة وتحدقان فيّ ، كان وجه البومة المتجحدي لضغط لحظة ليس فيها سوى الاختيار بين الموت أو الفرار ماثلاً في رأسي كأنني لم أحول نظري عنه بعد ، ملحاحاً ، غضوباً يتمسح باشمئزاز ساخر ، وعبثاً ذهبت كافة المحاولات التيبذلتها لأسلخ الصورة عن رأسي ، كان شيئاً قد دخل إلى الغرفة العارية ، وإلى إحساسي ، وتمزق الصمت الميت تحت الصرير الحاد الذي كان ما يزال من المنقار الأسود المعقوف :
- لقد تقابلنا قبل الآن ... أتذكر ؟!
شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماماً ، وأنني يجب أن أرتبط معه بذكرى يجب ألا تمحى ، نعم ، أنا أعرف تينك العينين الحادتين الغاضبتين الصامدتين للحظة اختيار مخيفة .. لكن أين تقابلنا ؟ متى ؟ كيف ؟
لقد بدى كل شيء مغلقاً بضباب متكاثف ، ورغم ذلك فقد كانت ثمة ذكرى تلتمع من بعيد ، إلا أنها كانت غامضة مغرقة في البعد ، هناك سد كثيف يحول دون رأسي وتلك الذكرى ، وكان لابد من التذكر . فعينا البومة الغاضبتين تبعثان دفقة احساس حاد في نفسي بأننا تعارفنا قبل الآن .. ولكن متى ؟ وكيف ؟ وأين ؟.
نهضت من فراشي إذ تيقنت استحالة النوم تحت تلك الوطأة وأضأت المصباح ثم وقفت أمام الصورة الملونة : اتلعيون هي ، لم تزل ، تطل غاضبة واسعة مغروسة في الوجه المفلطح العجيب . والمنقار المعقوف كنصل عريض لمنجل أسود ، لم يزل ، يطبق بعنف على ضرب الاشمئزاز الساخر ، والريش الرمادي الملون بحرة وقحة يتجمع خصلاً كصوف قذر بعد أن ابتل بماء المطر .
سقطت الذكرى ، بعد فترة ، مدوية صاخبة إلى رأسي فأورثتني دواراً مفاجئاً ، والتمعت خلال الضباب المتكاثف كل الأشياء التي ذكرتني بها لابومة المخيفة ، وبدا لي أننا فعلاً نعرف بعضنا جيداً .
***
كان ذلك قبل عشر سنوات على وجه التقريب ، كنت في قريتي الصغيرة التي تتساند دورها كتفاً إلى كتف فوق حاراتها الموحلة ، أذكرها الآن أشباحاً تتلامح منذ زمن بعيد ، كنت طفلاً آنذاك ، وكنا نشهد ، دون أن نقدر على الاختيار ، كيف كانت تتساقط فلسطين شبراً شبراً وكيف كنا نتراجع شبراً شبراً . كانت البننادق العتيقة في أيدي الرجال الخشنة تمر أمام عيونها كأساطير دموية ، وأصوات القذائف البعيدة تدلنا أن معركة تقع الآن ، وأن - ثمة – أمهات يفقدن أزواجهن ، وأطفالاً يفقدون آباءهم ، وهم ينظرون عبر النوافذ صامتين إلى ساحة الموت .
لا أعرف في أي يوم وقع الحدث ، حتى أبي أيضاً نسي ذلك ، كان اليوم المشؤوم ، كان أكبر من أن يتسعه اسم أو رقم ، لقد كان في حد ذاته علامة من علائم الزمن الكبيرة ، من تلك التي توضع في مجرى التاريخ كي يقول الناس (( حدث ذلك بعد شهر من وقوع المذبحة )) .. مثلاً .. كان يوماً من تلك الأيام لا شك ، وإلا لكنا حشرناه تحت رقم أو تحت اسم أو تحت عنوان .
لقد بدأ الهجوم قبيل منتصف الليل وقال أبي الشيخ لأمي فيما هو يتنكب بندقيته الثقيلة :
- إنه هجوم كبير هذه المرة ..
ولقد عرفنا ، نحن الصغار ، من صوات الطلقات أن هناك أسلحة جديدة وأن هناك هجوماً من ناحية أخرى لم تطرق قبل الآن .. وأن قنابل حارقة قد سقطت في وسط القرية فأحرقت بيتاً وطفلاً ، وحين نظرنا من خصائص النافذة الواطئة شاهدنا كمن يحلم – أشباح نسوة منحنيات يسحبن جثثاً إلى داخل القرية ، وكان يستطيع المستمع بإمعان أن يلتقط صوت نشيج مخنوق : احداهن – هكذا كانت تشير أمي – فقدت زوجها وصمودها في آن معاً .
بعد ساعة من الهجوم المباغت ، تراجع رجالنا ، كانت جهنم قد صعدت إلى ظهر قريتنا وبدا لنا أن النجوم أخذت تتساقط على بيوتنا ، وقالت امرأة مرت تحت شباكنا تسحب جثة وتلهث :
- إنهم يقاتلون بالفؤوس
وقتال الفؤوس لم يكن غريباً على رجال قريتنا ، فلقد كان الفأس هو سلاح الواحد منهم بعد أن تتقيأ بندقيته كل ما في جوفها ، فكان يحمله على كتفه زاحفاً فوق الأشواك الجافة ، ثم يشاهد المحاربون من خنادقهم الرطبة شبح إنسان راكع يرفع كلتا يديه فوق رأسه ما وسعه ذلك ، وبين كفيه يتصلب فأسه الثقيل ، ثم يهوي الفأس ، ويتصاعد صوت ارتطام عريض مخنوق ، ويتبع اللام أنة ممدودة يعقبها شخير عنيف ، ثم يصمت كل شيء .
لقد بدأ قتال الفؤوس إذاً ، هذا يعني أن الرجال قد تلاحموا وأن جثثاً كثيرة قد ضاعت في خطوط الأعداء مطبقة أكفها بتشنج عنيد على الفأس ، واضعة أنوفها براحة مطلقة على التراب الطيب ، ومستلقية بهدوء .
بدأت قريتنا تنكمش ، ولم يعد هناك أي عمل للشيوخ غير أن يعودوا إلى بيوتهم ، ولقد شاهدنا أبي يعود منهكاً ، لكنه لم يضِع أية لحظة بل توجه لتوه إلى درج عتيق كان محظظوراً علينا الاقتراب منه وتناول مسدساً صغيراً دفعه لأمي بعد أن تأكد من حشوه ، وأشار لها بعينيه تجاهنا ، أنا وإخوتي ، وقفل عائداً إلى الشارع .
كانت أختي الكبيرة قد فهمت كل شيء ، فأخذت تبكي دافنة رأسها في كفيها ، بينما ارتعشت أمي وهي تحمل المسدس على راحتها وتتوجه إلى النافذة ، في تلك اللحظة قرع باب عتيق كان يفصل بيننا وبين جيراننا – ولم نكن نستعمل ذلك الباب على الاطلاق – وصاح صوت العجوز ، جارنا ، راجفاً : افتحوا .. افتحوا ..
أز الباب أزيزاً رفيعاً إذ سحبته أمي فاندفع العجوز إلى الغرفة خائفاً ، وأجال بصره فينا ، ، ثم توجه لأني وهمس في أذنها كلاماً أبدت استنكارها له ، ثم عاد فهمس بحماس أكثر ، فترددت أمي ثم هزت رأسها موافقة ، وأشارت إلي أن أتبع العجوز إلى بيته ..
دخلت خلف العجوز إلى غرفة دافئة مفروشة مفروشة ببسط ملونة . وأخذت أراقبه فيما هو يحرك ستارة ، ويتناول من ورائها صندوقاً صغيراً يضعه برفق بين ذراعي ، شعرت بأن الصندوق أثقل مما يبدو فتساءلت برأسي ، وأتاني الجواب من فمه الأدرد :
- هذه قنابل كان المرحوم ابني خبأها هنا ..
وهز رأسه بأسى ، وانتبهت لكلمة (( المرحوم )) التي لم تكن تستعمل قبل ذلك في هذه الغرفة ، ولا في بقية الغرف ، فراودني شعور بالخوف بينما استمر الشيخ :
- يوشك اليهود أن يدخلوا القرية .. وإذا وجدوا هذه عندي قامت قيامتهم !
وتبطأت كلماته ، وبدأ يحرك اصبعه في وجهي حركة تحذير :
- أنت صغير ، وتستطيع أن تخترق الحديقة .. أريدك أن تدفن هذا الصندوق في آخرها .. تحت شجرة التين الكبيرة .. ربما احتجنا له فيما بعد .
سرني أن أشارك بعمل بطولي ، فاندفعت إلى خارج الباب ، وعندما وجدت نفسي في الطريق إلى الحديقة تملكني خوف رهيب ، وحدثتني نفسي ، وهي ترتجف ، أن ألقي حملي الثقيل ، وأقفل عائداً أدراجي ، ولكنني تنبهت إلى أن أمي لا شك تطل من نافذتها وتشاهدني ، كانت السماء شبه مضاءة بقنابل اللهب ، وكانت الشرارات تلتمع في الأفق راسمة خطوطاً مقطعة منتهية بضوء ساطع ، وفي لحظات الصمت المخيفة التي كانت تتبع كل دفقة نار كانت تسمع أصوات ما تبقى من رجالنا تغني على طريقها في المعارك غناء يبدو كأنه يتصاعد من عالم آخر ، عالم يموت فيه الإنسان وهو يعض على بقية الأغنية الحلوة ثم يتمها هناك في السماء .
اخترقت الحديقة منحنياً ، وكانت الطلقات تمس أعلى الشجر بصفير خافت ، وكانت التينة العجوز تنتصب في آخر الحديقة .عندما وصلتها شعرت بحماسة غامضة ، وأنشأت أحفر في الأرض مستعيناً بعودة صلبة ، وفي اللحظة التي أسقطت فيها الصندوق بالحفرة ، سمعت صيحة حادة في أعلى الشجرة .. وتملكني خوف أسقط ركبتيّ إلى الأرض ، وأخذت أحدق مرتجفاً عبر الأغصان .. ثم شاهدتها على ضوء اللهب المتصاعد في سماء قريتنا ، تقف هناك وتحدق إليّ بعينين واسعتين غاضبتين أخفى أعلاهما انحدار الحاجب عليهما .. كان منقارها معقوفاً كمنجل أسود ذي نصل عريض ، ورأسها الكبير كصورة قلب رمزي مفلطح يتمايل بانتظام ، كان ريشها مبتلاً بماء المطر الذي انهمر في أول الليل ، وكان يوض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب ، وكانت تحدق إلي عبر الظلمة ، تحديقاً متواصلاً لا يرتعش .
هدأ الرعب في صدري ، وعدت إلى عملي ، حتى إذا أتممته أنشأت أنظر إلى البومة بإمعان ، كانت ما تزال على وضعها الأول وكان ضوء القنابل المباغت يعطي لعيونها ظلالاً مرعبة ، وبدت لي أنها مصرة على وقوفها المتحدي ، وأنها سوف تبقى رغم كل الرصاص والموت .
عدت أدراجي إلى البيت ببطء وهدوء فلقد زايلني كل خوف كنت أحسه قبل أن أراها .. ثم لم أملك إلا أن أتوقف هنيهة وأعود إلى النظر إليها ، كانت ما تزال تحرك رأسها المفلطح بتحذير إنساني عميق ، وعلى إيماضة قنبلة بعيدة ، شاهدت في عينيها ذلك التحدي الباسل ، الخائف بعض الشيء ، ولكن الصامد لضط لحظة اختيار واحدة بين الفرار والموت .
***
أوشك الصبح أن يطلع وأنا في وقفتي أمام الصورة الملونة الملصوقة على الحائط العاري .. لقد أنهكتني الذكرى ولكنني أحسست بارتياح غريب فجأة ، فهأنذا ألتقي بالبومة الغاضبة بعد غيبة طويلة ! وأين ؟ في غرفة منعزلة مترامية تتنفس بوحدة مقيتة ، بعيدة عن قريتي التي كات تعبق بالبطولة والموت ، وكانت البومة ما تزال ملصوقة على الحائط تحدق فيّ ، عبر زمن متباعد وينحدر من منقارها المعقوف صرير حاد :
- ايه أيها المسكين .. هل تذكرني الآن ؟؟!
(( منقول من كتاب ))