سعود بن إبراهيم الشر يم
دار الوطن








الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

جندية مجهولة

فعلى البسيطة من هذا الكون ثَمَّ مخلوقة ضعيفة، تغلب عليها العاطفة الحانية،والرقة الهاتنة، لها من الجهود والفضائل ما قد يتجاهله ذوو الترف، ممن لهم أعين لايبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، هي جندية حيث لاجند، وهي حارسة حيث لا حرس، لها من قوة الجذب ومَلَكة الاستعطاف ما تأخذ به لبَّالصبي والشرخِ كلَّه، وتملك نياط العاطفة دقّها وجلِّها، وتحل منه محل العضو منالجسد، بطنها له وعاء، وثديها له سِقاء، وحجرها له حِواء، إنه ليملك فيها حق الرحمةوالحنان، لكمالها ونضجها، وهي أضعف خلق الله إنساناً، إنها مخلوقة تسمى الأم، وماأدراكم ما الأم؟!

أم الإنسان – عباد الله – هي أصله وعماده الذي يتكئ عليه، ويرد إليهوَاللهُجَعَلَ لَكُم من أنفسكم أَزوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم من أَزواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً[النحل:72]. وكون الشيء أصلاً وعماداً دليل بارز بجلائه على المكانة وعلو الشأن وقوة المرجعية،ألا ترون أن أم البشر حواء، وأم القوم رئيسُهم، وأم الكتاب الفاتحة، وأم القرى مكة،وفي ثنايا العلوم كتاب الأم للشافعي رحمه الله؟!

لماذا الحديث عن الأم؟

من خلال هذه المقدمة الوجيزة عن الأم، ربما يدور بخلد سائل ما سؤال مفاده: أيوجدثمَّ مشكلة تستدعي الحديث عن مخلوقة ليست هي بدعاً من البشر؟ أم أن الحديث عنها نوعتسلية وقتل للأوقات؟ أم أن الأمر ليس هذا ولا ذاك؟.

والجواب الذي لا مراء فيه: أن الأمر ليس هذا ولا ذاك، بل إن الأمر أبعد من هذاوأجلّ، إننا حينما نتحدث عن الأم فإننا نتحدث عنها على أنها قرينةُ الأب، لها شأنفي المجتمع المكوَّن من البيوتات، والبيوتات المكونة من الأسر، والأسر المكونة منهاومن بَعْلِها وأولادها، هي نصف البشرية، ويخرج من بين ترائبها نصف آخر، فكأنها بذلكأمةٌ بتمامها، بل هي تلد الأمة الكاملة، إضافة إلى ما أولاه الإسلام من رعاية لحقالأم، ووضع مكانتها موضع الاعتبار، فلها مقام في الحضانة، ولها مقام في الرضاع،وقولوا مثل ذلك في النفقة والبرِّ وكذا الإرث.

فالحديث عن الأم إذاً يحتل حيزاً كبيراً من تفكير الناس، فكان لزاماً على كل منيهيئ نفسه لخوض مثل هذا الطرح أن يكون فكره مشغولاً بها، يفرح لاستقامة أمرها،ويأسى لعوجه، ويتضرس جاهداً في الأطروحات المتسللة لواذاً؛ ليميز الخبيث من الطيب،فلا هو يسمع للمتشائمين القانطين، ولا هو في الوقت نفسه يلهث وراء المتهورين.

والمرتكز الجامع في هذه القضية، والذي سيكون ضحية التضارب والمآرب، هي أمي وأمكوأم خالد وزيد، وحينئذ يجني الأولاد على أمهاتهم، ويقطعون أصلاً وأُسًّا قرره رسولاللهلرجل حين جاءيسأله: {من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثممن؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك } [خرجاهفي الصحيحين]. وسلام الله على نبيه عيسى حين قال: وَبَراًبِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلني جَباراً شَقِياً[مريم:32].

ماذا يحدث لو غاب دور الأم؟!

إن الارتفاع بشأن الأم في أوساط الناس وفق الحدود والمعالم التي حددها الشارعالحكيم لهو من دواعي رفعة البيت المسلم، كما أن المحاولات الخبيثة في خلخلة وظيفتهاالتي فطرها الله عليها من حيث تشعر هي أو لا تشعر، سببٌ ولا شك في فساد الاجتماع،وضياع الأجناس، وانثلام العروة، فأزاحت الأم عن نفسها مسئولية النسل ورعايته،فأصبحت لنفسها لا لرعيتها، ومن ثم قد تُسائل هي نفسها عن السبب، وما السبب إلا مابيَّناه آنفاً، ولعمرُ الله كم قد تحقر الأم نفسها، أو يغيب عن وعيها مكانتهاوسلطانها، ولو رفعت ببصرها قليلاً في ديوان من دواوين سنة المصطفىلوجدت قول النبي: {والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده } [رواه البخاري]، ومعلوم أنالرعاية لا توكل إلا لذي قدرة وسلطان على رعيته، ومن هنا عُلم أن الله يزع بالسلطانما لا يزع بالقرآن.

لقد أصبح دور الأم ضعيفاً في تربية الأبناء وتوجيههم الوجهة الصحيحة؛ بسببجهلها، أو غلبة المفاهيم الدخيلة عليها، فانحرفت مع التيارات المناوئة لما فُطِرتعليه، فخرج كثير من الأمهات من بيوتهن، وقلَّ تدينُهن وقربُهن من الله، فحصلالإهمال وضاع العيال، ولربما سلّمت فلذات كبدها إلى أيدي خادمة غير مسلمة !! وإنكان ثم مسلمة فجهلها أضعاف جهل الأم، فكانت كالمستجير من الرَّمْضاء بالنار،والمعلوم المقرر أنه ليس لبشر أمان.

أماه … لا تنخدعي !

لقد انقاد كثير من الأمهات وراء صيحات أهل الكفر، فأُعجبت ببريق ما عندهم، وظهرالنَّهم عندهن، حتى إنك لتحسه من إحداهن، فتراها كلما تقدمت في السن والإنجابازدادت في التشبب، ولا تزال تبتدئ من حيث انتهى أهل الكفر أنفسهم. إذاً الأم هناكتعيش تعيسة مُهَانة، لا أمل لها في ولد ولا بنت، ولربما لم تشعر بقيمة الأمومةوالبنوة إلا بكلب تقتنيه، أو سِنَّور يحل في قلبها محل ابن آدم، وذلك كله ليس بمانعهذا الحيوان من أن يكون يوماً ما وريثها الوحيد دون أولادها، وأولادها في غفلةسادرين، ينتظرون خبر وفاتها بفارغ الصبر، لينعموا بما تخلفه من تركة أو عقار، وإنكانت الأم فقيرة الحال ففي دور العجزة والرعاية بالمسنين متسع لها ولمثيلاتها.

إن الذين يزدرون وظيفة ربة البيت التي هي الأم،هم جُهَّال بخطورة هذا المنصبوآثاره العميقة في حاضر الأمم ومستقبلها المشرق، بل إن أعباء هذا المنصب لا تقلمشقة ومكانة عن أحمال الرجال خارج بيوتهم، وإن القدرات الخاصة التي توجد لدى بعضالأمهات لا تبرِّر لهن إلغاء هذا المنصب، الذي لا يليق إلا لهن، ولا يلِقْن إلا له. فطرة اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِاللهِ[الروم:30].

أكمل الأمهات !!

ليس أكمل الأمهات تلكالأم التي امتلأت في عقلها بصنوف من العلوم والمعارفالنظرية أو التجريبية،في حين أن القلب خواء مما ينفع بيتها أو يفيده، إن مثل هذهالأم تحل بما تعلمت مشاكل وتخلق مشاكل أخرى، لا ليس نضح الأم كمثل هذا، إنما الأمهي تلك المصونة العفيفة، التي أضاءت قلبها بنور الإيمان والطاعة، والاتباع للكتابوالسنة، والتي هي لبعلها وولدها كالإلهام والقوة في إدخال السرور، والنقص منالآلام، ولم تكن الأم قط أعظم من الأب إلا بشيء واحد هو خلقها ودينها، الذي تجعل بهزوجها وولدها خيراً وأعظم منها، وقديماً قيل: وراء كل رجل عظيم امرأة. فالمرأةأيها الناس – إما زوجة حانية، أو أم مربية، أو هي في طريقها إلى هذا المصير النبيلبعد أن تشبّ عن الطوق.

دورك يا أمَّاه !!

إن تصور الأم قاعدةً في البيت لا شغل لها جهلٌ مُركَّب بمعنى الأسرة الحية، كماأن تصورها محلاً لإجادة الطهي والخدمة فحسب ضربٌ من السلوك المعوج الذي عرفته الأمالكافرة إبَّان إفلاسها الأخلاقي والأسرى، والذي أثبت من خلاله أن الأم العاطلة خيرمن الأم الفاسدة الخرَّاجة الولاَّجة، وأن الأمهات المحتبسات في المخادع والبيوتأشرف من اللواتي يتكشَّفن لكل عين، ولا يرددْن يد لامس أو نظرة لاحظ.

ونحن - معاشر المسلمين - لا نريد في حياتنا من خلال الواقع المرير أن نوازن بينشرين، لنختار أحدهما أو أخفهما، كلا بل إننا نريد أن نحقق ما طالبنا الإسلام به، منإقامة أسرة مستقيمة يشترك الجنسان معاً في بنائها، وحمل تبعاتها على ما يرضي اللهورسوله، ليتحقق فينا قول الباري جل وعلا: وَالذِينَ ءامَنُوا وَاتبَعَتهُمذُريتُهُم بِإِيمانٍ أَلحَقنَا بِهِم ذُريتَهُم وَمَا أَلَتنَاهُم من عَمَلِهِم منشيء كُل امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ[الطور:21].

يقول وكيع بن الجراح: قالت أم سفيان المحدِّث لولدها سفيان: اذهب فاطلب العلمحتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه وإلافلتتبعني. هذه هي أم أمير المؤمنين في الحديث.

وقبل ذلك حذيفة بن اليمان تسأله أمه: يا بني، ما عهدُك بالنبي؟ قال: من ثلاثة أيام، فنالت منهوأنَّبته قائلة: كيف تصبر يا حذيفة عن رؤية نبيك ثلاثة أيام؟.