تجربة الأحكام الشرعية؟!
وفي شأن السؤال الثاني:
هناك من يصف العمل لإقامة الدولة الإسلامية بالتجربة، ويصف الطريق بأنها الخط التجريبي الذي تمر به الدعوة. فهل يصح هذا الإطلاق؟.
إن وصف الطريق بالتجربة هو في غير محله. ويعطي مدلولاً غير مطابق لمدلول كلمة (الطريق الشرعية).
إن طريق العمل في الإسلام هي أحكام شرعية تعتمد على قوة الدليل. ويجب على الجماعة الالتزام بها التزامها بالشرع ولا يجوز الحيد عنها طالما رأتها بحقها أحكاماً شرعية. فلا تكون موضع تجربة واختبار (إن هي حققت الهدف تكن تجربة ناجحة وإلا فهي فاشلة ويجب تغييرها) حتى تجد الطريق التجربة التي من شأنها تحقيق الهدف.
بل ان الطريق الشرعية هي مجموعة من الأحكام الشرعية – كما أسلفنا – من شأنها أن تحقق غايتها والتي هي استئناف الحياة الإسلامية، وهذه الأحكام تعتمد على قوة الدليل. ويتعبد الله سبحانه بالتقيد بها والصبر عليها طالما أنها أحكام شرعية بحق من يقوم بها. ولا يغيرها إلا إذا تبين له أن هناك دليلاً أقوى في العمل.
والطريق الشرعية يجب أن يظهر فيها التأسي واضحاً بعمل الرسول r، وهي بهذا المعيار تختلف عنها عند الذين يعملون بحسب الأنظمة الوضعية، حيث يجرب الناس أفهامهم ويختبرون العمل ويربطون الصحة والخطأ بالنجاح والفشل وبتحقيق الهدف أو عدم تحقيقه.
إن طبيعة الأنظمة الوضعية أنها غير نهائية عند أصحابها. وتحتاج دائماً إلى التغيير والتطوير. فأي عمل يقومون به يصح أن يطلق عليه أنه تجربة. وإن قوانين الغرب كلها تجارب. ومعيار صحة الفعل عندهم هو تحقيق الغاية منه فقط. فإن حقق النتيجة كان صحيحاً وإلا فلا. وهذا يختلف عن المسلم لاختلاف طبيعة الإسلام الذي هو منهج رباني من العليم الخبير، فهو صحيح ومكتمل طالما أنه اعتمد على الدليل الشرعي. وصحته آتية من صحة الدليل الشرعي، وصحة الاستدلال، وليس من ربطه بالنتيجة. لذلك كان التقيد هو الأساس، ومنه ينطلق بالتقويم . وفيما يتعلق بأعمال الطريق فإن النتيجة أي الاستخلاف والتمكين هو تحصيل يجب حصوله لقوله تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...[ ولقوله تعالى: ]إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[ وإن لم تحصل النتيجة لا يلغى الطريق أو يستبدل، ولا يعلن عن فشله، بل يراجع ويعاد النظر في أحكام الطريق. ولا يترك أي حكم شرعي إلا إذا تأكدت الجماعة من خطأ فهمها فيه. وإذا لم يتبين للجماعة خطأ فما عليها إلا الالتزام بما عندها، والصبر عليه حتى يأتي الله بأمره. وقد يكون الأمر متعلقاً بسنة تأخير النصر التي لم ينج منها الرسل من قبل. قال تعالى: ]حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا[ .
نعم إن العمل شاق ويحتاج إلى جهود ضخمة. ووسائل الجماعة هي أقل بكثير من وسائل الأنظمة التي تواجهها، وإن نجاح العمل ليس مربوطاً بمدة زمنية محددة، حتى إذا انقضت ولم يؤت العمل ثماره حكم عليه بالفشل، بل هو مربوط بصحة الفكرة وقوة الالتزام من قبل القائمين بها. والتقبل للفكرة بشكل عام من قبل الناس. ومتى اكتملت هذه الأمور يُسأل عن النصر الذي يتوصل إليه عن طريق طلب النصرة. كل ذلك كما فعل الرسول r، وتقدير اكتمال هذه الأمور القطعي متروك لله. وتقدير الجماعة في هذا المجال يكون على غلبة الظن .
فإذا تحققت عوامل النصر جاء، وإلا فهو يتأخر. وتأخره لا يعني وجود خطأ ما بالضرورة بل قد يعني أن نسبة الإعداد والتهيئة غير كافية، ويجب أن تزاد. والتأخير قد يكون من باب الابتلاء لشباب الكتلة أو الجماعة: أتسقط بعد يأس، أم تبقى على العهد، أو يسقط أفراد منها. على كل حال تجب المراجعة. وفي حال لم تجد الجماعة ما يدعو إلى تغيير طريقها فلا يجوز التغيير تحت حجة التأخير. وعليها أن تفتش في أساليب عملها ووسائلها التي هي في الأصل مباحة وتختار منها الأنسب. وعليه فإن التأخير قد لا يعني فشلاً، وليس هناك أدلة شرعية على بلوغ الهدف في مدة زمنية معينة.
نعم يجب أن ينصبّ النظر على صحة الأفكار والأحكام المتعلقة بالطريق، وبها يُعدّ الشباب، وبها تُهيأ الأمة. فإن صحت هذه الأفكار وهذه الأحكام بنظر الجماعة، وتم اختيار الأساليب والوسائل الناجحة لها ، فيجب الصبر عليها ولا يجوز تغييرها مهما تأخر قطاف ثمرها.
إن أمر التغيير يتعلق بأمه، وليس بتغيير فرد أو أفراد. ودولاب تغيير المجتمع أكبر بكثير من دولاب تغيير الأفراد. لذلك فحركته أبطأ بكثير. حتى لا يكاد يراها إلا من أوتي بصيرة نافذة وتوجهاً صحيحاً. وهذا لا يعني أن الفرد عندما يعمل يجب أن يعمل وفي ذهنه أن هذا الأمر لن يقوم على يديه، وأنه سيقوم على أيدي الأجيال القادمة. بل ينطلق الفرد أو أفراد الجماعة وفي ذهنهم أنه سيقوم على أيديهم، وسيشهدونه ان شاء الله تعالى . كما قام على أيدي الرسول r وصحبه. بل المقصود أن عمر الفرد الزمني قد يقصر وقد يطول. والوعد لم يأت لفرد أو لأفراد بل للجماعة. فهذه الجماعة المؤمنة هي التي وعدها الله سبحانه بالاستخلاف، وحين العمل قد يموت الفرد، وقد يموت الأمير، وقد يسقط الكثير ويبقى الوعد قائماً ما دامت الجماعة قائمة على أمر الله، وسيتحقق النصر على يديها طال أمده أم قصر . فهذا علمه عند الله ولا يُسأل عنه. والجماعة مسؤولة عن الالتزام فقط.
لذلك لا يقال عن الحكم الشرعي إنه تجربة، بحيث لو تأخر تحقق هدفها حكمنا عليها بالفشل وتخلينا عنها ، لمصلحة عمل آخر تجريبي. لا يقال ذلك ما دمنا متأكدين أنه حكم شرعي بحسب الدليل. أما الأساليب والوسائل فيصح إخضاعها للتجربة.
أُطروحات مخالفة
للطريقة الشرعية
إزاء ما ذكرنا عن طريقة الرسول r وعن أهمية التأسي به وعدم الخروج عن طريقته نجد هناك أطروحات يقف وراءها جماعات إسلامية، أو مفكرون مسلمون، تتعلق بهذا الموضوع. وبغض النظر عن القائل فلا بد من الاهتمام بالقول. ولا بد من استعراض سريع لها وإماطة اللثام عنها حتى لا يبقى المسلم في حَيْرة، يضيع في متاهات هذه الطروحات ، أو يحمل شبهات تتعلق بحمل الدعوة. ونعرض فيما يلي أهمها:
l هناك من المسلمين من يقول بأن فرض العمل لإقامة الخلافة يجب أن يقتصر على دعوة الحكّام وملئهم:
والملأ من الناس هم سادة الناس ممن بيدهم الأمور ويحيطون بالحكام. فإن نجحت دعوة هؤلاء تغيرت المجتمعات لصالح الإسلام بسهولة وإلا فلن يحصل تغيير. والذي ألجأ إلى هذا الفهم من الاقتصار على الملأ في الدعوة هو أن العمل لإقامة الخلافة من خلال دعوة المسلمين العاديين سيوقعهم تحت إذلال الحاكم، وستُحَمَّل نفوسهم ما لا تطيق الصبر عليه، والمسلم قد نهي عن ذلك بقول الرسول r: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه» قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: « يتعرّض من البلاء لما لا يطيق» [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة].
والناظر في الواقع الذي تنشأ فيه الدعوات يرى أنها تنشأ في المجتمعات التي يكثر فيها الظلم والفسق والضياع والعنت ومشقة الحياة. وحيث يكون مرد كل هذه الظواهر إلى البعد عن الإيمان بالله وحده وحقه بالحاكمية. لذلك كان الأنبياء سابقاً، ومنهم رسولنا الكريم r يدعون أول ما يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته.
والمجتمعات بشكل عام، قديماً وحديثاً، يقودها الحكام وَمَلأُهم. وتكون التصورات الاعتقادية الباطلة وما ينشأ عنها من قوانين بحسب مصالحهم. ويحافظون عليها لحفاظهم على مصالحهم ومراكزهم. ويتولون كبر الدفاع عنها وحمايتها. وهذا ما حدا بأعرابي حصيف عندما سمع بدعوة الرسول r لأول مرة لأن يقول كلمة بعيدة الغور، صائبة الهدف: "إن هذا أمر تكرهه الملوك". والناس في هذه المجتمعات ينقادون لهؤلاء الحكام ومَلئِهم، فهم يتأثرون أكثر مما يؤثرون. ويخضعون للنظام المطبق عليهم ولو كانوا له كارهين. ويعلمون أن دفع ظلم الحكام عنهم مكلف.
والأنبياء والرسل عندما يبعثهم الله، يبعثهم إلى أقواهم ليبصروهم الحق ويهدوهم سواء السبيل. وكان الذي يتولى مسؤولية الرد وقيادة المواجهة هو الحكام وملأُهم من الذين استكبروا.
والملأ : هم أعوان الحكام، وهم أصحاب المصالح والأغنياء المترفون. وهم زعماء الناس وسادتهم، وهم الذين يشكلون الوسط السياسي والفكري للحاكم، يعتمد عليهم ويستعين بهم. وهم الذين بيَّن الله سبحانه أنهم في طليعة من يتصدى لأنبياء الله، لأن نفوسهم قد امتلأت بحب المال والجاه، ومصالحهم ارتبطت بمراكزهم. لذلك فعندما تأتي دعوة الله سبحانه وتعالى لهم يظنون أنها تتعارض مع مصالحهم ومراكزهم فيتصدرون المواجهة ويوغرون صدر الحاكم، ويزينون له محاربتها والقضاء عليها. فينصاع بما تحمل نفسه من شرور وآثام لنصائحهم وتقوم المواجهة على أشدها بين أنبياء الله وهؤلاء الحكام الذين يحيط بهم هؤلاء الملأ، وتبدأ المعركة الفكرية والكفاح السياسي بين أنبياء الله وهؤلاء الحكام وملئهم على كسب الناس. ويقوم الأنبياء بالدعوة إلى الحق بالحق وهم عزل وضعفاء لا يملكون من القوة إلا سلطان الكلمة الصادقة بما لها من تأثير على النفوس. فيواجههم الحكام ومعهم ملأُهم بالحجة الباطلة ابتداءً، من قولهم إنها سحر البيان أو إنها أساطير الأولين أو إن حاملها مجنون أو كذاب. وإن المؤمن بها سفيه من أراذل الناس. وحين لا ينفع ذلك يلجأون إلى التعذيب والتشريد والبطش والتقتيل. وتنفتح المعركة من أوسع أبوابها بين الأنبياء وأتباعهم وبين الحكام وملئهم ومن يبقى من الناس على دين ملوكهم. سُنّة واحدة يحدثنا القرآن عنها بإيجاز معبِّر.
فها هو سيدنا نوح عليه السلام يدعو قومه. فيعترضه أول ما يعترضه الملأ من قومه. قال تعالى في سورة الأعراف: ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ @ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ @ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ[.
وها هو سيدنا هود عليه السلام يدعو قومه عاداً. فيردُّ عليه دعوته أول ما يردّ الملأ منهم . قال تعالى في سورة الأعراف: ]وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ @ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ[ .
وها هو سيدنا صالح عليه السلام حين دعا قومه ثموداً كان أول من أنكر عليه دعوته هم الملأ من قومه . قال تعالى في سورة الأعراف: ]وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ...[.وقال تعالى: ]قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ @ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[.
وها هو سيدنا شعيب عليه السلام حين دعا قومه في مدين واجهه الملأ مستكبرين. قال تعالى في سورة الأعراف: ]وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ...[وقال تعالى: ]قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا...[.
وها هو سيدنا موسى عليه السلام، إذ أرسله الله إلى فرعون وملئه فكذبوه وأخافوا من معه وأشاعوا عليه وحرضوا فرعون على قتله. قال تعالى: ]ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[ وقال تعالى: ]قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ[ وقال تعالى: ]وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ...[ وقال تعالى: ]فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ[.
وتحدثنا سيرة الرسول r، والتي لا تشذ عن سيرة من سبقه من الأنبياء، أن الذي كان يجمد الدعوة ويمنع الإيمان بها والاستماع لها هو شدة الملاحقة والتعذيب للمؤمنين. فيخاف المؤمن أن يفتنه قومه وأهله عن إيمانه. ويخاف الذي يريد أن يؤمن أنْ يلاقي ما يلاقيه من قد آمن. وتبقى المعركة سجالاً بين المؤمنين وبين من خالفهم وعلى رأسهم الملأ. ثم ينسحب البساط من تحت أرجل الطواغيت، ويمسك بزمام الأمر من قام بحق هذه الدعوة.
وقد جاء في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «بينما النبي r ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفه على ظهر النبي r، فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك. فقال النبي r: اللهم عليك الملأَ من قريش: أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف»، ... "قال ابن مسعود رضي الله عنه: فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر".
إنّ مكة لم تعرف زمن الرسول r حاكماً واحداً فقط وملأَه، بل كان فيها ملأ متعددون، وهؤلاء هم الذين تصدروا مواجهة دعوة الرسول r وصرف الناس عنها.
والأنبياء أُرسلوا إلى أقوامهم بينما أُرسِلَ محمد r في دعوته إلى الناس كافة.
وإذا تولى الملأ من قريش كِبْرَ الرد والصد فليس معنى ذلك أن الدعوة كانت مقصورة عليهم. فالرسول r قد دعا الجميع من غير تفريق، فلم تعرف دعوته تفريقاً بين غني وفقير ولا بين سيد ومسود. حتى أن الرسول r قد عاتبه ربه لما عبس في وجه ابن أم مكتوم، وهو مؤمن فقير أعمى، وحرص على دعوة السادة الذين كان مجتمعاً بهم مع أنه كان يطمع بإيمانهم وبإيمان من وراءهم. وليس هذا العتاب من الله لرسوله منعاً من الاهتمام بدعوة السادة بل فيه منع من التفريق فقط. فدعوة السادة كدعوة العامة سواء في الطلب.
حتى أن السِّيَرَ تذكر أن الرسول r عندما كان يدعو السادة لم يكن يدعوهم فقط لأنهم زعماء وسادة بل كان يدعوهم طمعاً في إيمان من وراءهم من الناس العاديين. إذاً فإن الدعوة كانت تشمل الجميع.
وكذلك فقد لبى نداء الدعوة أناس لم يكونوا معتبرين أسياد في قومهم من مثل بلال وعمار وأمه وأبيه. وكذلك صهيب وسلمان لم يكونا من سادة قريش. وكذلك فإن عامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة والنهدية وابنتها وجارية بني مؤمل كلهم كانوا رقاباً أعتقهم أبو بكر رضي الله عنه وهؤلاء كانوا من أوائل المؤمنين.
فالرسول r كان يدعو من يأنس فيه الخير ابتداء، ثم دعا الناس جميعاً، وكان يستجيب له صغار السن وكبارهم، والوضيع في قومه والشريف.
فلا اقتصار في موضوع الدعوة بل شمول للجميع، وبالطريقة التي سلكها الرسول r حتى يحقق لنا ما حققه الرسول rمن إقامة دار الإسلام.