الكشف الحادي عشر
" الوحدة "
ماش فى البيداء تحت جنح الليل . السماء مرصعة بالنجوم ، والصحارى تحت ضوء قمر غير مرئي تبدو بلا نهاية .
كان القلب مترعا بالوحدة والشجن الذي لا ينفك يزداد وطأة على النفس كلما طال المسير الذي بدا بلا هدف ولا غاية ، وبينما أنا على هذه الحال ظهر على البعد طيف المحبوب ، فأذكى في الصدر روح الأمل ، وحول الهواء حولي نسيماً وعطراً .
قلت للنفس ممنياً ..
- ليكن الحب هو الغاية
مضيت أحث الخطى خلفه يشدني حنين مبهم حتى وصلنا إلى ممر ضيق بين جبلين وكان قد صار منى قاب قوسين أو أدنى . دخل الطيف المعشوق إلى الممر حيث غاب عن ناظري ، فهمت أن اتبعه ممنياً الفؤاد بجرعات من ماء الهوى تطفئ ظمأ الطريق الطويل ، فإذا بالقدر يتمثل لى شيخاً جهماً يحول بيني وبين المضي في أثره عرفته ، فاعتراني ضيق شديد ، وصحت فى وجهه غاضباً .
- كنت أخيرا قد وجدت غايتي !
تبسم الوجه الوقور الهادئ ، وقال ...
- ليس غايتك ولا طريقك ، ولكن إشارة للطريق المرسوم
همت بإلقاء سؤال عصبي ، ولكن الشيخ كان قد اختفى فجأة كما ظهر ، عندما عدت للسير وثمة يقين بالقلب يهديني الدرب والغاية ...
الكشف الثاني عشر
" هاتف الغروب "
يوم يمر خطوة نحو الموت .. نحو الغناء والعدم .. انه الغروب ... قبل أن تغمض عينيك مستلماً للنوم تذكر ....
هناك أشياء لن تراها بعد الآن بنفس الصورة . هناك حرف لن تقرأه مرة أخرى ، وخطوة لن تخطوها ثانية ، هناك لحظة لن تعود ، وكلمة لن تلفظها شفتاك فى أي وقت أخر . فكرة كانت بداخلك وماتت ...وردة ذبلت ، ومشاعر توارت للمرة الأخيرة ، ولن تئوب ....
مر يوم على هامش الرحلة ...
يوم لن يعود ....
الكشف الثالث عشر
" سر الوجود "
استوقفني وقال ....
- إدراك الفناء هو السبيل الوحيد إلى سر الوجود ..
الكشف الرابع عشر
" إدراك "
قالوا لى يوماً بان الإنسان يدفن بعد موته حيث قبضت طينته فى الخلق الأول عندها أدركت يا صديقي لم وكانت حياتك تمضى ثقيلة حزينة ، لقد دفنوك فى بقعة جرداء ليس بها سوى شجرة وحيدة ماتت منذ عشرين عاما ً.
الكشف الخامس عشر
" العصا والحجر "
حجرة مظلمة جدرانها من طوب لبن تحول إلي ما يشبه الطين بسبب الماء والرطوبة التي تنشع من الأرض الترابية اللدنة ، لم يكن هناك نافذة أو باب أو أية فتحة في جدران المكان الضيق ، ليس سوى سرير سفري صغير يقبع بأحد الأركان ألقى عليه بإهمال بطانية خشنة . لم افهم سبباً لوجودي بمثل هذا المكان غير إنني قد شعرت بأني بصدد مقابلة ما ....
لم يطل تفكيري ، فقد وجدتني فجأة اقف أمام أبى ، وكان قد مضى نحو عام على رحيله تبادلنا التحيات والسؤال ودار الحديث بيننا طويلاً عن الدنيا وأهلها والموت وأهله ثم ساد بيننا صمت قصير شعرت خلاله بان اللقاء أوشك على نهايته قام بعده إلى الفراش القابع فى الركن ، وألقى على جسده الغطاء إشارة لرغبة في الراحة وجدتني أقول له والد مع مختنق فى مقلتي والعتاب المر فى نبرتي ....
- مرة أخرى تتركني !
كان صمته ونظرته رداً واضحا ً بحتمية الفراق ، أحبته أنا بإيمائه المسلم ، غير إنني حاولت التشبث بقشة أخيرة ...
- أما من كلمة أخيرة تقولها لي ؟
قال ...
- إذن لتهتم بالعصا التي على الحجر ..
تغير الزمان والمكان بينما ظل صدى الكلمات يرن فى أذني مثل جرس إنذار مبهم من العالم الأخر ...
الكشف السادس عشر
" المكتوب "
رأيتني اجلس في حلقة بأحد المساجد ، ونظرت الشيخ المعلم هو " الحلاج " وكان يلقى على الجمع درساً فى تفسير قول الله تعالى على لسان نبيه " يونس " : ( فنادى فى الظلمات إذن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ...
لما رآني توقف عن الكلام ، ورمقني بنظرة من يعرفني جيداً ، ثم أشار إلي أن أدنو ففعلت وسط نظرات الحاضرين وما أن أصبحت منه قريباً حتى سألني عن سبب وجودي في هذا المكان ، ثم تبسم واستطرد ...
- ألم تعرف مكتوبك بعد ؟!
وجدتني أقول في حرج ...
- بلى ، عرفت ..
شملني بنظرة ودودة ، وهو يربت على كتفي ، وقال ..
- اذهب إذن حيث قدر لك ، ولا تنسى بان العمر قصير
وثبت نظرة فى عيني ، واكتسى صوته بنبرة قدرية ....
- تدلت عناقيد الحب والألم على أشجار الحكمة . لتقطف منها ما شئت .. انه المكتوب …
الكشف السابع عشر
" القصور "
تأملت البدر المحارب بين الغيوم وعقلي يموج بأفكار شتى . أخذتني منها رعشة باردة سرت فى جسدي ، فأحكمت باقة المعطف حول عنقي وأنا أطلق زفرة سأم لا شعورية …
- حزينة هي ليالي الشتاء ..
نفث دخان سبحانه فى خواء ، ومرت هنيه من الصمت قبل أن يرمقني قائلا في هدوء …
- أنت حزين
نحيت البدر جانباً ، وقلت مقراً بعد تفكير قصير ..
- ربما …
اخذ نفساً عميقاً من سيجارته ، ونفثه فى الأفق بغير اكتراث قائلا ...
- نحن لا نرى سوى من خلال عيوننا ، ولا نسمع إلا بآذاننا ولا نفكر سولا بعقولنا . نحن قاصرين ، والكون ... هذا الكون لا يدور فى فلكنا وفلك أفكارنا الضيقة بعين الخيال رأيت " الحلاج " يقف وينظر إليه باسماً ويقول ...
- صدقت ...
الكشف الثامن عشر
" النداء "
رأيتني ماضٍ في سفر طويل . فى كل لحظة أقابل أناسا مختلفين ، واشهر مرور قوافل غريبة . تمضى فلا اعرف عن أهلها ولا يعرفون عنى ، وفى كل يوم أحط الرحال بأرض احسبها الوطن حتى يعود التراب الغريب يلفظني .. ينادى في الوجود صوت غيبي ...
- إذا الموت جاء ، فافتحوا له الصدور .. لعله الخلاص
أسائل نفسى ...
- ألم يساور من سبقونا ندم " أو يعتريهم للحياة حنين ؟
..فينادى الصوت ساخراً مريرا ً ..
- أيكون الحنين لدار كان البكاء أول ما علمتنا ؟!!
الكشف التاسع عشر
" المشيئة "
رأيتني بمكان مجهول وإذا يؤتى إلى بحمامة وسكين رمقت الحمامة فى يدي بحيرة ناقلاً البصر بينها وبين السكين فى اليد الأخرى ، ولم أجد من يرشدني إلى ما يتوجب على فعله ، وهداني تفكيري إلي انه قد أنيط لى ذبح الحمامة وإلا لم كان السكين ؟ ! ... مددت الحد إلى العنق الرقيق ، فتدفق الدم على ثيابي مختلطاً بالدموع ، وإذا ينادى في الفضاء أن خلق الإنسان عجولا فنظرت للدم المراق على ثيابي وقلت أهون على نفسي ...
- لتكن مشيئة الله ....
الكشف العشرون
" الحب "
كنت فى دنيا أخرى وعالم أخر من الأنوار والأثير أناجى بالروح طيف المحبوب فإذا به يتواري كأنه الدخان ، وإذا أنا ماثل أمام " خورخي لويس بورخيس " الذي بادرني قائلا ....
- أو تعلم ما هو أسوأ الحب ؟
قلت ....
- ما هو ؟
ضاقت عيناه وهو يتابع طيراً يعبر صفحة السماء قبل أن يلتفت لى قائلا ...
- إن تعرف ما تحب ..
ثم بعد هنيه من الصمت ..
اجمل ما فى الحب عشقك ما لا تعرف . حب المعلوم فان لا محالة .
ابن الانسان