القواعد الأصولية المستفادة عن طريق السنة النبوية
إن من الغباوة والحمق دعوى الاكتفاء بالقرآن عن السنة ومحاولة عزل السنة القولية عن العمل ، ومن المعلوم من دين الإسلام ومن إجماع علماء السلف الكرام أن السنة هي شقيقة القرآن ، فهي الوحي الثاني لقوله سبحانه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي }.
فالسنة تفسر القرآن وتفصل ما أجمله وتأتي بما سكت عنه ، يقول الله: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون } من سورة النحل . فمن حاول أن يتصدى لتفسير القرآن أو تأليف أي كتاب من العلوم الشرعية مع عزمه على عزل السنة النبوية وعدم احتياجه لها ، فهذا بلا شك أخرق وأحمق، أشبه من يقتحم لجة البحر وليس بماهر في السباحة،فهذا مما لا شك في غرفه، لأن بعض الناس لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ، فذلك مائق فاتركوه.
تصدر للتأليف كل مهوس جهول يسمى بالفقيه المدرس
وحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدى من هزالها كلاها وحتى استامها كل مفلس
وسنورد من القواعد الأصولية والواصلة إلى الناس عن طريق السنة النبوية
إن أكثر القواعد والعقائد والأصول إنما استفادها العلماء و الحكماء عن طريق السنة النبوية ، حتى قيل : إن حاجة الناس للعلم بالسنة والعمل بها أشد من القرآن ، مع العلم أن القرآن هو الأصل ، فمن ذلك قوله –صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىءٍ ما نوى " وهذا الحديث رواه البخاري عن عمر .
وقد اعتمده الفقهاء من إحدى القواعد التي عليها مدار صحة الأعمال وفسادها وهي خمس قواعد ،
أحدها الضرر يزال,
والثانية ,العادة محكمة ،
والثالثة ,المشقة تجلب التيسير ,
والرابعة الشك لا يرفع اليقين
’
والخامسة ’ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى " إذ مدار الأعمال الصالحة على إخلاص العمل وصوابه ، ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر ، أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال :" بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج."
فهذه الأركان التي بني عليها الإسلام ذكرت مفرقة في القرآن بدون ذكر البناء ومن غير السهل حفظ العوام لها مفرقة. وقد سبكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم –بانسجام حسن لتكون عقيدة للعلماء والعوام والخاص والعام ، ولن توجد بهذه الصفة في غير السنة حتى صارت عقيدة وطريقة لسائر الموحدين السلفيين يحفظها العوام فضلا عن العلماء الأعلام .
ومنها قوله –صلى الله عليه وسلم – " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة .وفي رواية لمسلم :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" فهذا الحديث مبني على الإخلاص والمتابعة لكون العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا على نهج السنة ، فإنه مر دود على فاعله.
إذ أن من واجب الإيمان برسول الله –صلى الله عليه وسلم –هو طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وألا يعبد الله إلا بما شرع ، إذ لا مدخل للعقول والآراء في عبادة الله-عز و جل – لكون العبادة هي ما أتى به الشارع حكما من غير اضطراد عر في ولا اقتضاء عقلي ، وهي تبنية علي التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع . يقول الله سبحانه : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله –: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله ، وأنه ليس موقوفا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه ،فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم بعقولنا حكمته، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قالوا:{لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله } ومن سلك هذا السبيل فليس في الحقيقة مؤمنا بالرسول ولا متلقيا عنه الأخبار بالقبول ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به.
فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به ، بل يتأوله أو يفوضه ، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به ، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم وجود الرسول وإخباره . وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده ....انتهى.
ومنها قوله –صلى الله عليه وسلم –في حديث بريرة : "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق و دين الله أو ثق و إنما الولاء لمن أعتق " رواه البخاري من حديث عائشة.
ومنها ما رواه البخاري عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن ؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل و فكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر . رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث علي " بلفظ المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسقى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " ، و صححه الحاكم
.
فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم - : أن الإسلام يساوي بين الناس في دمائهم ودياتهم ، فيجعل دية المقعد الأعمى والأصم بمثابة دية الشاب السوي الواعي إذ النفس بالنفس والجروح قصاص . ثم قال : ويسعى بذمتهم أدناهم، فأيما رجل آجر رجلا أو رجالا في ذمته ، فحرام على المسلمين أن يخفروا ذمته حتى ولو كان المجير امرأة، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم - "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
وأما قوله : " وهم يد على من سواهم "، فمعناه : أنه متى بغى عدو على طائفة أو أهل بلد من المسلمين ، فإن الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره ، إذ المؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولو ذهبنا نتبع النصوص والأصول المستفادة عن طريق السنة لخرج بنا الاستطراد عن موضوع ما عزمنا عليه من الاختصار والاقتصار .
وحتى الحيوان فقد جاءت السنة بمشروعية رحمته والرفق به والإحسان إليه . ففي الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم –قال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم من حديث عن أبي يعلى شداد بن أوس
.
وفي البخاري أن النبي _صلى الله عليه وسلم –قال:"بينا كلب يدور على بئر يلهث عطشا إذ نزعت له امرأة بغي موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها. فقالوا : يا رسول الله أو لنا في البهائم أجر ؟ فقال: نعم . إن في كل كبد رطبة لأجرا " .وقال :" دخلت النار امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت"، ونهى أن تتخذ ذات روح غرضا –أي هدفا _ للرمي ، كما لعن من وسم دابة في وجهها
.
فهذه النصوص تستفاد من السنة ، ولو ذهبنا نتتبع أمثال ذلك لخرج بنا عن موضوع الاختصار والاقتصار
.
والحاصل أن من ادعى الاكتفاء بالقرآن عن السنة فإنه ليس مؤمنا بالقرآن ولا بالسنة ، لكون التكذيب بأحدهما مستلزما
للتكذيب بالآخر ، فيكون ممن قال الله فيهم : { يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيل
، أولئك هم الكافرون حقا و أعتدنا للكافرين عذابا مهينا} من سورة النساء .
السنة التي ندعو إلى الإيمان بها والحكم بموجبها
إن من الواجب على كل مسلم متابعة الرسول في المعقول والمنقول ، لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم –قد بين للناس بطريق التلقين والتعليم جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم .
قال تعالى : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}.
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسولا منهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ، يتلو عليهم آياته القرآنية ويلقنهم حفظها ، ويسألونه عما أشكل عليهم منها .
قال ابن مسعود : كنا إذ تعلمنا عشر آيات لم نتجاوز هن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن ، ثم قال: {ويزكيكم } ، أي بالمحافظة على الفرائض و الفضائل ، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل ، لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتشرفها وتنشر في العالمين فخرها ، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
ثم قال :{ ويعلمكم الكتاب والحكمة}، فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة ، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –يعلم أصحابه الكتاب والسنة ، ويقول :" إنما بعثت معلما" {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} من كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم .
فالرسول بين للناس جميع الدين بالكتاب والسنة . وأن الله لم يرسل رسولا إلا ليطاع بإذن الله ، يقول الله :{ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}.
ومعنى شهادة أن محمدا رسولا الله هي طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وان لا يعبد الله إلا بما شرع، فمن واجب المؤمن أن يعرف حقيقة ما أخبر به رسول الله ، وأنه الحق لكونه لا يقول إلا حقا. وأن من عصى الرسول فقد عصى الله.
فمن واجب أهل العلم والإيمان التسليم والقبول لما جاء به الرسول من صحيح المنقول ، إذ الحكمة في بعث الرسل هو طاعتهم فيما أمروا واجتناب ما عنه نهوا وز جروا ، وسواء أدركوا معرفة ذلك بعقولهم أو لم يدركوه.
ثم إن السنة التي ندعو إلى الإيمان بها والعمل بموجبها . هي السنة الثابتة عن النبي-صلى الله عليه وسلم –بنقل الثقات الأثبات عند أهل المعرفة والعلم بالحديث ، الذين يميزون بين الصحيح والضعيف ، فهم يعرفون رجال الحديث وصحته كما يعرفون أبناءهم.
ولسنا نعني ما في بطون الكتب من التفاسير وكتب الفقه الترغيب والترهيب ونحوها ، فإن في هذه الكتب الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة مما يتبرأ منها الإسلام ، وليست من كلام محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم -.
وقد تصدى لهذه الأحاديث علماء نقاد فأخرجوها عن حيز الاعتبار بما يسمى كتب الموضوعات.
فمن واجب أهل العلم بالله أن لا يتجر أو على الاستشهاد والاحتجاج بالحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وصحته، إذ أن كتب الفقه المتداولة بأيدي الناس من شتى المذاهب مشحونة بالأحاديث الضعيفة الموضوعة، ينقلها بعضهم عن بعض.
وعلى كل حال فإن كل من تصدى للقضاء أو التفسير أو التأليف في الفقه أو في غير ه من سائر العلوم الشرعية، فإنه لن يستغني عن الاستعانة بسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم – القولية والفعلية ، إذ هي من الأمر الضروري ولن يتم أمره بدونها ، إذ هي بمثابة المصابيح التي يهتدي بها.
وكلما كان الشخص عالما بالسنة ومتوسعا في حفظها وفهمها ، فإنه سيكون أقدر وأجدر على معرفة تفسير القرآن واستنباط المعاني والأحكام ممن هو جاهل بها { أفمن يعلم كمن لا يعلم أفلا تذكرون}.
إن أكثر ما أعبد ضلال المسلمين من علماء الكلام قديما وحديثا عن الدين ، هو بعدهم عن السنة وضعف نصيبهم منها، فحكموا عقولهم وآراءهم في القول على الله و تحريف كلام الله وصفاته حتى وصفوا الرب بالجمادات ، فأنكروا كلام الله وأنكروا صفاته بطريق تحريفها عن المعنى المراد منها.
فقالوا : القرآن مخلوق والله لا يتكلم . وقالوا : إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر ، ووجه الله عظمته ، ويده قدرته، ونزوله نزول أمره ، والاستواء على العرش بالاستيلاء، وأنكروا رؤيته في الآخرة . وغير ذلك من تحريف الكلم إلى فير المعنى المراد منه.
وهذه التحريفات إنما حدثت بعد انقضاء عصر الصحابة الذين بلعوا معاني التنزيل من الرسول –عليه أفضل الصلاة والتسليم- فكانوا أعلم الناس بالتأويل ولم يقع منهم تحريف للصفات بصرفها عن غير المعنى المراد بها، وبعد انقضاء عصر التابعين انقسم العلماء فريقين :
فريق يقال لهم علماء السنة،
وفريق يقال لهم علماء الكلام .
فأهل السنة وقفوا مع القرآن ، فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه من الصفات بدون تشبيه ولا تعطيل { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقالوا: إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فكما أن الله ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين، وقد قال في شرح العقيدة الطحاويه.
كيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة ، وإنما يتلقاه من قول فلان وعلماء الكلام ومن زعم أنه يأخذه من كتاب الله وهو لا يتلقى تفسيره من كتاب الله ولا من أحاديث رسول الله ، ولا ينظر فيما قاله الصحابة فإنه يعتبر بأنه خاطئ خارج عن حدود الحق .
فإن المنقول إلينا من السنة عن الثقات الذين تخيرهم النقاد : أنهم لم ينقلوا إلينا نظم القرآن وحده فقط ، بل نقلوا نظمه ومعناه ،ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان ، بل كانوا يتعلمونه بمعانيه، وكل من لا يسلك سبيلهم في العلم والتعلم والعلم، فإنما يتكلم برأيه و هواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
والحاصل : أن من يتكلم برأيه وبما يظنه من دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة ، فإنه مأثوم وإن أصاب ، وإن أخذه من الكتاب والسنة، فإنه مأجور وإن أخطأ.... انتهى.
فالواجب على المسلمين جميعا وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وإقامة التشريع عليهما، فإن هذا هو الضمان لهم والكفيل بعلاج عالمهم وإصلاح مجتمعهم { قل هو للذين آمنوا هدى شفاء } وحتى لا يرجعوا القهقرى ضلالا كما حذرهم رسول الله عن ذلك بقوله :" تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" . رواه مالك بلاغا والحاكم موصولا بإسناد حسن.