جلست في مكان اللقاء تحصي الدقائق والثواني , بلغت الساعة الثامنة تماماً , ومضت خمس
دقائق , عشر , عشرون , ثلاثون ,وتضاءلت شجاعة (كاترينا) , وضاق صدرها , وفي خضم كل
ما شعرت به من مشاعر سلبيه , جاء اخيراً من كانت تحترق شوقاً للقاءه.
كان يقف أمامها تماماً...
رجل حليق , أنيق , يرتدي حلة باهظة الثمن , وذلك السجار الكوبي مستقرٌ على طرف شفتيه ,
تفوح منه رائحة تبغ قوية عبقت النادي , أما في عينيه , فقد رأت (كاترينا) بروداً هائلاً , يحار
القلم عن وصفه , وعندما تحدث إنهارت البقية الباقية من اللهب في أعماقها .
حينما رأته نهضت في بطء , وملئت عينيها بوجه أبيها الذي تراه على الطبيعة لأول مرة وفي اعماقها
أخذت تقارن بينه وبين الصورة المحتفظة بها , كان هو أول من تحدث , مسح جسدها ووجهها
بعينيه , ثم سحب مقعده وجلس في هدوء قائلاً بلهجة باردة:
-أنت إذن إبنة (دورثي).
قالت (كاترينا) في خفوت:
-نعم.
وضع ساقاً فوق أخرى , وسحب نفساً عميقاً من سيجارة نفثه في الهواء , ثم قال:
-لست بجمال أمك .
ألتقى حاجباها في تأثر من قسوة كلماته , ومن برودة نظراته وسخافة اللقاء الذي حلمت به ,
وتشاجرت مع أمها بسببه.
عاد يقول في سخرية , ملوحاً بكفه في حركة مسرحية:
-ماذا؟ ستقفين طويلاً؟
ألقت جسدها على الكرسي وعيناها لاتفارقان هذا الوجه البارد , عاد يقول في إستهتار:
-كم عمرك؟
ذهلت من سؤاله , إلا أنها أجابت في خفوت حزين:
-في السادس من الشهر القادم سأتم ستة عشر عاماً
مط شفتيه , ومضغ طرف السيجارة قائلاً:
-امم... وما هذه الملابس التي ترتدينها؟ الم تجدي ملابساً تلائم سنك.
رمقته في حيرة ومرارة , فتابع في ضجر:
-إنها ملابس محتشمة جداً , أين الملابس الشبابية , المفتوحة والقصيرة؟
إتسعت عيناها من فرط ذهولها مما تسمع , "مفتوحة وقصيرة" , "لماذا ترتدين ملابس محتشمة"؟
وبكل التودد والمشاعر السلبية في قلبها , هتفت متسألة:
-ماذا تقصد؟
تملل في جلسته وقال متأففاً:
-بهذا المنظر المزري لن تثيري إنتباه أي شاب.
ألتقى حاجبيها في ضيق , متمتمة:
-ومن قال أنني اود ذلك؟
أجابها متخابثاً:
-لن تتزوجي إذن.
مادت بها الأرض , وشعرت أن حلم لقاءها بأبيها إستحال إلى كابوس بشع , أنها لم تسمع إلى
الأن كلمة حانية , تثبت انه والدها ومصلحتها تهمه , بل العكس تماماً , لقد شعرت أنها تجلس مع
رجل , أي رجل , سوى والدها , شخص يريدها متحررة , تجدب الفتيان...
أهذا ما يقوله أبٌ لإبنته بعد فراق دام أعوام طويلة؟
نهضت من مقعدها في بطء , وسألته في إهتمام حزين , بفؤاد منكسر:
-لماذا هجرت أمي؟
إبتسم في سخرية , وقال:
-هي تعرف الأسباب أكثر مني.
أشاحت بوجهها في أسى يمتزج بالمرارة , ثم غمغمت بعبارة مبهمة وهمت بالرحيل عنه , لكنه
مد يده في سرعة خاطفة قابضاً على معصمها في قوة آلمتها , وجذبها نحوه في غلظة , قائلاً
في صرامة:
-حسبك يا فتاة , تصرين على لقائي وبعد ذلك تفرين , أتظنين أنني متفرغ لنزوات مراهقة
لا تجد ما تفعله لتملىء وقت فراغها.
وترك معصمها ودس كفه في جيب سترته وأخرج رزمة مالية ألقاها على المائدة في إستخفاف
وهو يقول في إستهتار:
-هذا ثمن الإستجداء يا صبية , أديت دور البائسة في مهارة , وتستحقين
مكافئة بالمقابل.
أتسعت عيناها في ذهول , وأخذت تنقل بصرها بين الرزمة المالية , وبين القسوة المطلة
من عيني أبيها , وتمنت الموت في تلك اللحظة ... وبلا شعور طفرت دموعها وأنسابت في
صمت تغرق خديها الجميلتين , بينما مرق والدها بجوارها وكأنما أمرها لا يعنيه , وأظلمت
الدنيا في عيني (كاترينا).
************************************************** *
غادرت (كاترينا) النادي في جمود , كان إقتماع وجهها أبلغ من ان يذكر, طعنها والدها في الصميم ,
وأضحى لقاءهما الذي طالما حلمت به , زمهريراً في شتاء عاصف , شاركتها السماء حزنها
فهطلت أمطارها في غزارة , وتحت المطر... وجدت (جون) يقف منتظراً خارج سيارته , وألتقاء
حاجبيه أبلغ دليل على قلقه وترقبه , رمقته في ألم ومرارة , خطت الدرجات وعيناها متعلقة
بعينيه , وتابعت سيرها حتى وقفت أمامه , والمطر يبللهما في هدوء....
قالت في خفوت::
-رأيتــه.
أومأ (جون) برأسه , إيجاباً في بطء , فتابعت بنفس النبرة وإن أرتفع صوتها قليلاً:
-ونبذنــي.
عاد يهز رأسه صامتاً , فتابعت والمرارة تغزو قلبها أكثر فأكثر :
- وجرح كبريائي.
أكلملت وبريق عينيه يمتلء حسرة عليها , فأجهشت بالبكاء , وأندفعت نحوه تلكم صدره بقبضتيها,
وقد فاضت مشاعرها في تلك اللحظة , وهي تصرخ قائلة في إنهيار:
-لماذا فعل ذلك ؟ لماذا ؟
أخذت تكرر سؤالها وهي تبكِ في مرارة , و(جون) مشيحاً بوجهه في صمت حزين , وببطء شديد
رفع كفه وأحتضن قبضتها , وبساعده الأيسر ضمها إلى صدره , وألقى رأسه على رأسها في
عاطفة صادقة , فأخذت تبكِ بلا صوت , فقط شهقات أليمة , والمطر يتساقط في غزارة , يشاركها
إنفعالها , وسكبها الدموع الحارة على صدره القوي .
في سيارته السوداء الرياضية , دثرها بمعطف مطر خاصته , وسار بغير هدف , والسكون
سيد الموقف , عدا صوت قضيب مامحة الزجاج الأمامي , الذي يبذل جهده لإزاحة الماء المنسكب
من عيون السحاب , ترك (جون) كفه يتسلل خلسة يبحث عن كفها , وأحتضنه في محبة وهمس
وعيناه لا تجرؤ على النظر فيهما:
-عزيزتي (كاترينا) , حرمك الله من أبيك الحقيقي , ومنحك آخر يستحق أهتمامك وحبك.
أجابته في جمود , بنظرات تنظر للاشيء:
-بالنسبة لي , أملك أباً واحداً أفخر به , (نيل روبرتس) , ولا أب لي سواه.
وأدارت رأسها إليه مستطردة:
- ليس من المفترض أن أحب شخصاً لمجرد قيل لي أنه أبي الحقيقي.
وعادت الدموع في عينيها تتدفق في سرعة ومرارة , وهتفت في حدة وجسدها يميل نحوه:
-ليتك منعتني يا (جون) , ليتك عارضت رغبتي منذ البداية.
هتف بها وعينيه تفران من مواجهة عينها:
-كنت ستحقدين علي , وتحسبينني متواطىء مع عائلتك للحيلولة دون رؤيته , لذلك كان
من المحتم عليك خوض التجربة , وأن كانت قاسية.
إرتسمت الدهشة على ملامح وجهها البريء , وشعرت انه محق لولا تشوش ذهنها عن التفكير
الصحيح.
قال لها بصوت حمل عاطفة قوية , يتسلل من دفء عميق:
-كثيرون حرموا من وجود أباء في حياتهم , أكنت ستفقدين عنصراً حيوياً في حياتك , إن أنت
منعت من لقاء أبيك , أرأيت الأن كانت أمك محقة , عندما غضبت منك.
ورمقها في حب , وتابع وشبح إبتسامة يتسلل إلى شفتيه:
-الدنيا مازالت بخير , وزوج والدتك خير دليل.
وجدت (كاترينا) نفسها تبتسم , وقد ازال حديث (جون) الدافىء , الجزء الأعظم من توترها
وإنفعالها , وشكرت الله كثيراً على وجود هؤلاء الناس الطيبين من حولها.
***********************************************
النهاية
أنتظر ردودكم وأرائكم