عشرون عام في العزلة (مذكرات)
شمس خجولة تستأذن في الخروج ونسمات تلفح بلفحات رطبة ,شجرة الفايكس العملاقة تهتز بخشوع كطفل يرتل في آي الله عند خلوة الشيخ (طه البشير)..
ومجموعات النمل تدب في بطولة وهدوء وأسراب من طيور (الرهو) تتجه شمالاً كلوحة متجانسة الألوان والرسم تطلق أصواتاً حزينة حنينة في رحلة مجهولة مقدسة ...
حننيني بحننك ..
مازلت أردد تلك العبارة كلما مر بي سرب من تلك الأسراب بأنامل ممتدة متراقصة كأني أعبث بعاج البيانو ..
وأتمني بين نفسي أمنية ..هكذا قد حدثتني جدتي (عزيزة بت العمدة) رحمها الله مازلت أذكر ملامحها جيداً بشعرها المجعد الناعم (وفلقة الصلاة)تزين وجهها الذي بدت عليه آثار القدم جلية وتلك (الشلوخ) الثلاث إنتظمت في خديها بشكل مرير ..
بدت كمن أراد أن يعطس وهي تغلق عينيها في هدوء وتفتح فمها في عجلة وتشد ملامح وجهها ثم تحنو علي بشئ لم أعهد مثله , ولكنني أحسست بدفئ يتغمدني للحظات وأكاد أميز رائحتها تلك إبتسمت وكأنما أرادت البكاء , سألتها بطفولية مفرطة وأنا إبن السنوات الست ..
- أنتي يا حبوبة (القرن) المعلق في الأوضة ده شنو ؟
زادت عندها تلك الإبتسامة وتلألأت أعينها وحدقت في سقف غرفتها ذات الحصير ثم شهقت بعمق وأخذت تهز رأسها في هدوء ...
- ده قرن التور بتاع عرسي ....
سألتها بعفوية مفرطة ..
- هو إنتي يا حبوبة عرستي ...
أكاد أقسم إنني لم أسمع بضحكة مثل هذه ولم أري في حياتي إستغراق في الضحك مثل مارأيت عندها تلك اللحظة ...
وردت علي وما تزال ضحكتها تلوح ولكنها تلعثمت مع إصرار الجدة علي ردها ..
- كيفن عاد يا ولدي ما عرست ..
ثم تعود إلي ماهي عليه من ضحكها الهستيري وتردد..
- الله يجازيك ياولدي ..
قد يكون الغيب حلواً... إنما الحاضر أحلي