- نعم ؟..
- ما رأيك بمشروب بارد ؟..
قالها (أمجد) أخيرا بعد تردد طويل و هو ينظر إلى حذائه الأسود اللاّمع..
رمقته بشيء من الشك و الدهشة و هي لا تزال تضم محفظتها إلى صدرها..
- لا بأس..
" هل وافقت ؟.. وافقت ؟.. بهذه السرعة.. يا لسعادتي.. "
- ما بك ؟
- لا شيء.. لا شيء... هيا، فلنذهب إلى ذلك المقهى إنه المفضل لدي..
تلفظ بارتباك و هو يشير بأصبعه إلى مقهى (ملتقى الطلبة) الذي كثيرا ما يرتاده..
جلس بمقعده بعد أن جذب مقعدها بأدب و جلست، لتشكره بصوت رقيق، بديع..
أطبق عليهما صمت ثقيل بعدها.. فتظاهر كل منهما بالتأمل في حديقة المقهى..
جاء النادل و تبادل معهما كلمات معدودة ثم انصرف و كم تمنى أمجد أن يلبث قربهما أكثر لينقذه من موقفه الحرج..
لقد تبخّر كل ما حضّره من كلام و أسئلة و إجابات فور أن وافقت.. بهذه السرعة..
نظر إليها الآن بعد أن فهم أنه بالغ في تأمل الحديقة التي لا تبدو بكل هذا الجمال الذي تعكسه عيناه الحالمتان.. و كانت هي تنقر بأصابعها على محفظتها و تطرق ببصرها إلى الأسفل... أ تراه الخجل ؟..
ثم قال فجأة و بطريقة مستعجلة، غير عادية:
- أود إخبارك بأني أكتب الشعر..
حملت نظرها إليه و ابتسمت بعذوبة قبل أن تقول:
- نعم... أعرف.. فالكل يتحدث عن شعرك الرومانسي.
تهلّلت أساريره و قال بحماس:
- حقا ؟... وما رأيك أنتِ ؟..
- أمممم... سبق أن قرأت قصيدة لك.. وجدتها عند إحدى صديقاتي.. لا أذكر عنوانها، لكني أذكر أنها راقتني فعلا و ألفيت بها من رقة الكلمات و موسيقى الأبيات و هشاشة الحس و النزوات ما أدهشني.. فاعترفتُ أنها تنم عن موهبة صاحبها و تفوّقه في هذا اللّون من الأدب رغم كونه دارسا للعلم..
كان يتابع شفتيها بشغف و هو لا يصدق أن لها مثل هذه الثقافة و الإلمام بالذوق الفني، الأدبي ثم قال و هو يعتدل مستفيقا من شروده:
- شكرا صديقتي أخجلتي تواضعي حقا..
و نظر بعيدا بعينين خاويتين قبل أن يتابع بهدوء:
- أ تعلمين أنني.. إذا شُرح صدري و دخلته نسمات السعادة أقول الشعر.. أقوله دون تفكير.. و في هذه الأثناء و بفضل وجودك و كلماتك الحريرية، الناعمة.. أظنني قادر على ذلك..
قالت و ابتسامتها تتسع:
- أطربنا إذن..
سبحت نظراته في مياه عينيها الصافية، و قال كأنه يخاطب شيئا داخلهما:
رميتها بنظرات..
أرسلتُ لها أنفاسا و زفرات
محمّلة برسائل، قصائد و آهات..
و تلاطمتْ أمواج اليأس في قلبي
لما طال الانتظار و أرسل العجز في طلبي
وقَفَتْ و بادلَتْ نظراتي بنظرات..
و مزّقت الأنفاس
و خنقت الزفرات
لماذا ؟..
لماذا لم تقرأ الرسائل ؟..
لماذا مزّقت القصائد ؟..
لماذا ؟
لماذا ذهبتْ ؟
و ماذا ؟
ماذا فعَلَتْ ؟
بقلب نهض من الموت
ليجلب الدواء الوحيد
و العزاء
فلقي الجفاء
و موتا جديد
ثم الفناء.
- واااو... رائع.. رائع..
قالتها مصفّقة بطرب و نشوة و بعض الطلبة الجالسين التفتوا ينظرون إليهما و قد انتهوا عن الكلام..
تنهّد أمجد بعمق و قال و على ثغره تتراقص ابتسامة خجل:
- شكرا.. شكرا.. إنها لا شيء، فقط كلمات بسيطة أهديها لك..
- وااو.. يا لها من كلمات و يا لها من هدية.. أ وَ تقول أنها لا شيء ؟..
ثم أطرقت قليلا و هي تنظر إلى وسط المائدة الفارغة قبل أن تقول:
- لكني أتساءل...
- نعم ؟..
- لماذا تقول شعرا عن عذاب الحب و قساوته و غدر حبيبة وهمية لا وجود لها..
- ومن قال أنها وهمية ؟..
جاء النادل في هذه اللحظة، و وضع، بخفة، كأسي عصير و كأسي ماء من صحيفة بيده ثم غادر ليتلاشى بين الموائد..
رشفت من كأسها البرتقالي ثم قالت:
- هل.. هل تعني أنها موجودة فعلا ؟..
و كأنه كان ينتظر هذا السؤال ليقول باندفاع:
- نعم..
ثم نظر إلى وجهها باحثا عن نظراتها و استطرد بجرأة مفاجأة:
- و أنا الآن أشعر بحبها أكثر من ذي قبل..
- ....
- هه ؟.. ما الأمر ؟..
- لا شيء... فقط أتساءل هل قرأت إحدى قصائدك ؟
- أعتقد ذلك، فقد قرأتُ عليها إحداها قبل قليل !..
انبثقت حمرة بوجنتيها، ورشفت بعصبية عصير الليمون..
- مـا بك ؟.. هل قلت شيئا.. ضايقك ؟..
قالت بعدم الاكتراث:
- لا.. لا.. و لكنك قلت شيئا غير منطقي..
- كــيف ؟
- قلت أنك قرأت عليها قصيدة للتو.. لقد كنت معك منذ انتهاء المحاضرة.. إلا.. إلا إذا كنت تقصد قبل المحاضرة !!..
- لا.. بعد المحاضرة... وقبل دقيقتين من الآن بالضبط..
قالها و ابتسامة نصر على فمه، و أقسم في خاطره أنه أوقعها في الشباك أخيرا و لم يترك لها مجالا للمراوغة بعد...
تأمل وجهها الجميل و هي تحاول النظر بعصبية إلى ساحة تجمّع وسطها الحمام حيث هناك طفل صغير يركض محاولا إرعاب الحشد الهائل من الطيور...
ثم فجأة، رنّ هاتفها.. في وقت غير ملائم إطلاقا..
أخرجته من محفظتها و قرأت شيئا على شاشته فانبسطت ملامحها رويدا رويدا ثم ابتسمت فضحكت..
قال و قد سحرته ضحكتها:
- ما الأمر... أضحكيني معك..
فأجابت و هي تنهض منتصبة:
- مضطرة للذهاب.. إنها رسالة من خطيبي سمير... أ.. نسيت إخبارك أنني مخطوبة.. ربما عرّفتك على سمير ذات يوم، فهو رسام ماهر و يحب الشعر و الشعراء... و ضحكت.
و لم يضحك.