بسم الله الرحمن الرحيم

لا يستطيع نفر غير قليلين منا أن ينكروا أنهم جرعوا جرعة هائلة من الخرافات حول الجان والعفاريت وهم صغار ، وإن أنس لا أنس ما كان يتكرر كل ليلة ـ وأنا صبي مميز ـ حين كانت جارتنا أم محمد تجمع أبناء الحارة القريبين بعد غياب الشمس ، والشوارع مظلمة والظلام شديد ، لأن حارتنا لم تكن مضاءة آنئذٍ بالكهرباء ، وتظل هذه المرأة ـ ذات الذاكرة العجيبة والرصيد الهائل من قصص الجن ـ تحكي لنا خرافة تجعلنا مسمرين إلى الأرض بمزيج من الرغبة الغامضة في الاستماع ، والرهبة المرعبة من التمادي بسبب فظاعة ما يحكى وثقله على خيالنا الصغير ، وبعد أن تنتهي أم محمد من وجبتها كنا نعود إلى بيوتنا راكضين ـ والمسافة بين البيوت أمتار قليلة ـ يفزعنا الظلام والسكون وجو حكايات السعالي ، والغيلان ، وأم شوشة ، وأبي رجل مسلوخة .



وفي المنام كانت تهجم عليّ المردة ذات العيون الوحيدة المشقوقة عموديـًا ، والتي يخرج منها شرر حقيقي كالذي يتطاير عن آلة اللحام بالأكسجين ، وربما داعبتني أم شوشة أو أبو رجل مسلوخة أو الغول مداعبة ثقيلة فأظل أرز تحت كابوس ثقيل لا يزيحه عني إلا أذان الفجر ، فإن أم محمد كانت تخبرنا أن المردة والشياطين حين تسمع الأذان تولي مدحورة مقهورة .

وبات الجن في الخيال الشعبي مخلوقات ذات قدرات متعددة ، فهو ينفع بعض الناس ويضر آخرين، وهو يعيش بين الناس ـ في الأماكن المظلمة ـ أو الخربة غالبـًا ، أو في الكنف والزّرائب وما شابه ـ وربما تعثر أحدنا في جني متنكر بجانب زير ، أو على هيئة قط أسود ، وربما مر على حية من حيات المنزل ، فاستأذنها في المرور فمالت إلى جانبٍ ليمر من جانبها بهدوء ، وقد حصل هذا غير مرة في بيتنا ، وشاهدته عيانـًا ، وفعلته بنفسي ، وهو صحيح ثابت في عوامر المدينة كما جاء في مسلم .

كما أن الجن يتخذ في الخيال الشعبي أشكالاً ، أبغضها المردة ذوات العيون المشقوقة ، وهي مخلوقات ضخمة تسد الأفق ـ أحيانـًا من الجهات الأربع ـ تستطيع أن تفعل بالصغار أشياء كثيرة مؤذية ومزعجة ، وهناك الغيلان وهي مخلقوت بشعة ـ كما يفهم من اسمها ـ قبيحة الوجوه ضخمة الأجرام ، محبة للأذى ، تكنّ العداوة للآدميين وتكيد لهم ، وهناك أم شوشة ، وهي مخلوقة برمائية تسكن النيل ، تتمتع بشكل جميل وصوت حسن يجذب المارة الذين تغريهم بالنزول للماء ليغرقوا ، أو ربما لتتزوج من أحدهم ، وهناك أبو رجل مسلوخة .. وترهات كثيرة لا يخلو منها ميراث أمة ، ولا تاريخ شعب .

فأما الشعوب البدائية كلها فتؤمن بالجن إيمانـًا يشبه ما عرضناه سابقـًا .. بل أردأ بكثير منه ؛ لأنهم يظنون أن الجِنَّة آلهة تتصرف في الكون ، وتتحكم في مصير الآدميين به .

ولما كان السحر قرين الدين البدائي فقد اعتمد الكلمة وسيلته الأولى .. وشاع المعتقد القائل بأن الرقية أو التعزيمة أو القسم يجبر القوى الخفية على أن تطيع الإنسان أيًّا كان موطنه .

فهذا فرجيل يقول إنه من المستطاع أن نلقي بتعزيمة على القمر فنجبره على أن ينزل من السماء .

وفي أسطورة فاوست الجرمانية تسيطر جملة معينة على الشيطان مفستوفل .

وفي مسرحيات شكسبير يبدو الاعتقاد الشعبي في مقدرة وسلطان الكلام على القوى الخفية، وفي معتقدنا الشعبي أن الإنسان يستطيع بالدعاء أو الرقية أوسواهما أن يسخر قوة غير منظورة تربط أعداءه ، أو يربط الشر بها (أحمد رشدي صالح : الأدب الشعبي ، ص : 168) .

ولعل أثر الكلمة يتضح أيضـًا في الأدبيات العربية التي كانت تستخرج الجني ـ المارد ـ من مصباح علاء الدين بمجرد كلمة ، وتفتح باب المغارة الحجري الثقيل بعبارة مثل : " افتح يا سمسم " .

ولا تزال الشعوب البدائية والمتحضرة حتى يومنا هذا تقدم للجن قرابين ـ عن وعي أو غير وعي ـ في محاولة لاسترضائهم واتقاء شرورهم ، وهناك مواسم ومواعيد سنوية ، يقدم فيها الناس الذبائح أو الطعام في أماكن محددة يزعمون أن الجن بها .

وينثر اليابانيون الأرز للآلهة والقوى الخفية في المعابد ، أو يرمونه بالماء حتى يومنا هذا .

" ونثر الأرز وما يشبهه من التمر أو الفواكه أو النقود ، مصدره الرغبة في تهدئة الأرواح الشريرة ومنعها من الإضرار بالعروسين ـ في الزواج ـ اعتقادًا من البدائيين بأنها تكون حاضرة دائمـًا أثناء الزفاف ، ولذا يقدم الطعام لإرضائها "(العنتيل : 389) .

ولا يزال النوبيون يلقون الطعام ويوقدون الشموع للدجري جنة النيل .. حتى يومنا هذا في طقوس زائدة تنم عن الإجلال والتهيب والخوف والرجاء .. ويعتقد أهل النوبة أن " الدجري " أولئك كائنات خيرة تحمي من الأمراض ، وتحفظ الأطفال من الغرق في النيل ، وتقي من العقم ، ومقابل ذلك يدفع لها الطعام بصورة ثابتة ودائمة .. ففي الزواج والولادة والسبوع والختان وغيرها يتوجه الناس إلى النيل حاملين معهم الثريد .. وربما تذبح ذبيحة لهذا الغرض ، ويضعون الطعام في شيء شبيه بالزورق من سعف النخيل ، مع شيء من الزيت ، وفتيل من القطن مشتعل ، ويتركون هذا كله على سطح الماء ، وسط الأغاني والاحتفالات ، وربما قذف بعضهم الطعام قذفـًا في الماء أو رمى بالعطور والحناء، ويأخذون قليلاً من ماء النيل ليمسحوا جسد الصبي تبركـًا، وكذا المرأة العقيم. ( المأثورات الشعبية ، يوليو 1992م ، الدجري ، د.السيد أحمد حامد ) .

فهي طقوس تجمع بين الرؤية الوثنية ، وعبادة الجن ، والتعميد بالماء كما يفعل النصارى ، مع خلط ذلك كله بلمسة من الأدعية الإسلامية ، ليخرج مزيج غريب من المعتقدات غير السوية .

" فالنوبي يقيم بين الإسلام وعبادة النيل سبيكة عجيبة ، ففي عاشوراء ـ مثلاً ـ يخرج النوبيون نساءً ورجالاً من بيوتهم ومعهم العراجين ـ سباطات البلح ـ المشتعلة حتى يصلوا إلى النهر فيلقون بأجسامهم فيه ، ويربطون الزواج بالنيل ، وطقوس الموت والولادة والجنائز والختان والأفراح .. إلخ .(إبراهيم شعراوي : الخرافة والأسطورة في بلاد النوبة ، ص : 23 وما بعدها ) .

بعيدة ، فقد حدثني القاضي الفاضل الشيخ عبد القادر العماري أنه اصطدم ببعض العوائد المحلية الخرافية ، حين كان الصيادون في مطلع موسم الصيد يحرصون على أن يكون صيدهم وفيرًا وموسمهم عامرًا ، لذلك كانوا يلجأون إلى الممارسات الخرافية ، فكانوا يأتون بكبش أسود اللون ، يدفعونه إلى البحر حتى يتخبط

في شباكهم ، ثم يذبحونه من قفاه ، ويقطعونه قطعـًا صغيرة يلقونه في المناطق التي يصطادون منها ، بزعم أن هذا يرضي الجنة في البحر ، فيأذنون أن يخرج الصيد وفيرًا ، واصطدم بآخرين يقربون للأرض وينحرون لها ، فكانوا قبل البذر يأتون بكبش يذبحونه ثم يأخذون أمعاءه ، ويدفنونها في وسط الحقل ، يظنون أن الجنة بذلك سترضى ، وأن السنابل ستكون حبلى بالحبوب مكتظة بالخير ، وهذه عادة وثنية ذات جذور قديمة ، فقد كان الإنسان القديم يقدم الفديات للآلهة الخاصة بالإخصاب وخدمة الأرض ، وكان تقديم الفديات البشرية أو غيرها ـ من الماشية ـ بذبحها أو إغراقها أو إحراقها لإرضاء آلهة الزراعة .



وقد يكون من بقايا هذا التقليد ما نراه قائمـًا حتى اليوم في بعض مناطق الوجه القبلي ، حيث يراعي المزارعون ـ عند بذر القمح ـ ترك مسافة وسط الحقل على هيئة عروس بدون بذر ، ثم تبذر بحب القمح بعد فترة ، ولتفاوت موعد الزراعة تظل الرقعة التي تأخر بذرها أقل نموًّا مما يحيط بها ، بادية في شكل العروس وسط الحقول ، إشارة إلى ذلك الإله الذي يزمع " قتلُهُ " عند الحصاد ، فيظل جاثمـًا على الأرض حتى يذبح بالمنجل ، ولا شك أن هذه العقيدة ذات طابع سحري وثني .(سعد الخادم : الفن الشعبي والمعتقدات السحرية ، ص : 32 و 33 بتصرف ) .

ويؤكد هذا المعنى ما ساقه أحمد رشدي صالح ـ ص : 24 وما بعدها ـ من أن " الفراعنة كانوا يخرجون إلى الحقول فرحين بعودة " الإله " حين ينبثق النبات من البذور ـ ولا يزال المصريون يحيون هذه العادة في شم النسيم بالخروج إلى الحدائق والمزارع بعد أن نسوا أصلها الاسطوري ـ كما قدس المصرون النيل ، وكانوا يرونه إلهـًا اسمه هابي Hapi يستثيرون قواه بأدعيات ، ويؤدون له احتفالات دينية لم تزل بقاياها جارية إلى أيامنا هذه " .

ويعتقد السكان الأصليون في أمريكا الوسطى أن الخصوبة التي تصيب أرضهم ترجع إلى أرواح كامنة فيها ، فينتهزون فرصة موسم الحصاد لإقامة حفل جماعي تقدم فيه الأضاحي والقرابين ، وتقام فيه الصلوات والابتهالات استرضاءً وشكرًا على ما قدمت للجماعة من نعمة الحصاد ، وارتبطت الاحتفالات بمواسم الزراعة والامطار والفيضانات ، كما ارتبطت الأعياد بالآلهة التي تتحكم في المحاصيل الزراعية الهامة كالقمح والكروم ، واستمر من ذلك شيء كثير لدى بعض الشعوب كعادات تقديس بعض الأشجار كأشجار الجميز ، وظهر الفداء الذي يعمل على تهدئة غضب الآلهة المسؤولة عن الخصوبة ، أو الفيضانات ، فقد ذهبت بعض العقائد إلى افتراض أن وفرة الفيضانات والمياه ترتبط بتزاوج آلهة الأنهر بالعذارى التي كانت تزف إليها في كل موسم بإغراقها في تلك الأنهار أو البحيرات . (المأثورات ع 28/1992م ، مدخل لدراسة الدراما الشعبية ، د. كمال الدين حسين ) .

فاربط بين هذا ، وبين عقائد النوبيين في النيل ، واليمنيين في الذبح للبحر والأرض وعقائد اليابانيين بنثر الأرز في الماء ،
وقل .. لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ عبد السلام البسيوني
الشبكة الإسلامية

من أراد المزيد فليضغط



هنــــــــــــا


وشكراًً...