بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأحبة هذا قليلٌ من فوائدِ العزلة.. وشيء من أدابها نقلتها لكم من كتاب الإمام ابن قدامة المقدسي = مختصر منهاج القاصدين.. و من رسالةٍ للشيخ محمد بن سرار اليامي ..
و أسأل الله أن يمن علينا وعليكم بالإخلاص له وحده سبحانه..
أولاً فوائد العزلة
الفائدة الأولى: الفراغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه، فإن ذلك يستدعى فراغاً، لا فراغ مع المخالطة ، فالعزلة وسيلة إلى ذلك خصوصاً في البداية. قيل لبعض الحكماء: إلى أي شئ أفضى بهم الزهد والخلوة؟ قال: إلى الأنس بالله. وقال أويس القرني رضى الله عنه: ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره.
واعلم: أن من تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة.
الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض لها الإنسان غالباً بالمخالطة، وهى أربعة:
أحدهما: الغيبة، فإن عادة الناس التمضمض بالأعراض والتفكه بها، فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى، وإن سكت كنت شريكاً، فإن المستمع أحد المغتابين، وإن أنكرت أبغضوك واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة، وربما خرجوا إلى الشتم.
الثانية: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من خالط الناس لم يخل ع مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله، وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر، في العزلة سلامة من هذا.
الثالثة: الرياء، وهو الداء العضال الذي يعسر الاحتراز منه، وأول ما في مخالطة الناس إظهار التشوق إليهم، ولا يخلو ذلك عن الكذب، إما في الأصل، وإما في الزيادة، وقد كان السلف يحترزون في جواب قول القائل: كيف أصبحت، وكيف أمسيت؟ كما قال بعضهم وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
واعلم: أنه إذا كان سؤال السائل لأخيه: كيف أصبحت؟ لا يبعثه عليه شفقة ولا محبة، كان تكلفاً أو رياء، وربما سأله وفى القلب ضغن وحقد يورث أن يعلم فساد حاله، وفى العزلة الخلاص عن هذا، لأنه من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم، مقتوه واستثقلوه واغتابوه، ويذهب دينهم فيه، ويذهب دينه ودنياه في الانتقام منهم.
الرابعة: مسارقة الطبع من أخلاقهم الرديئة، وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلاء فضلاً عن الغافلين، وذلك أنه قل أن يجالس الإنسان فاسقاً مدة، مع كونه منكراً عليه في باطنه، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فارقاً في النفور عن الفساد، لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هيناً على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه، ومهما طالت مشاهدة الإنسان الكبائر من غيره، احتقر الصغائر من نفسه، كما أن الإنسان إذا لاحظ أحوال السلف في الزهد والتعبد، احتقر نفسه، واستصغر عبادته، فيكون ذلك داعية إلى الاجتهاد، وبهذه الدقيقة يعرف سر قول القائل: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. ومما يدل على سقوط وقع الشيء بسبب تكرره ومشاهدته، أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً قد أفطر في رمضان، استعظموا ذلك، حتى يكاد يفضي إلى اعتقادهم فيه الكفر، وقد يشاهدون من يؤخر الصلاة عن أوقاتها، فلا ينفرون عنه نفورهم عن تأخير الصوم، مع أن ترك صلاة واحدة تخرج إلى الكفر، ولا سبب لذلك إلا أن الصلاة تتكرر، والتساهل فيها يكثر، وكذلك لو لبس الفقيه ثوباً حرير، أو خاتماً من ذهب، لاشتد إنكار الناس لذلك، وقد يشاهدونه يغتاب، فلا يستعظمون ذلك، ولا غيبة أشد من لبس الحرير، ولكن لكثرة سماعها، ومشاهدة المغتابين، سقط عن القلوب وقعها، فافطن لهذه الدقائق واحذر مجالسة الناس، فانك لا تكاد ترى منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا، وفى غفلتك عن الآخرة، وتهون عليك المعصية، وتضعف رغبتك في الطاعات، فإن وجدت مجلساً يذكر الله فيه، فلا تفارقه فإنه غنيمة المؤمن.
الفائدة الثالثة: الخلاص من الفتن والخصومات،وصيانة الدين عن الخوض فيها، فإنه قلما تخلو البلاد من العصبية والخصومات، والمعتزل عنهم سليم.
وقد روى ابن عمر رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الفتن، ووصفها وقال: " إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم (5) " ، وخفت أماناتهم، فكانوا هكذا" وشبك بين أصابعه، فقلت: ما تأمرني؟ فقال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ما تنكر، وعليك بأمر الخاصة، ودع أمر العامة". وقد روى غير ذلك من الأحاديث في معناه.
الفائدة الرابعة: الخلاص من شر الناس، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتهمة، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفى العزلة خلاص من ذلك، كما قال بعضهم:
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
وقال عمر رضى الله عنه: في العزلة راحة من خلطاء السوء. وقال إبراهيم بن أدهم: لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكر من تعرف.وقال رجل لأخيه: أصحبك إلى الحج؟ فقال: دعنا نعش فى ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهى بقاء الستر على الدين والمروءة وسائر العورات.
الفائدة الخامسة: أن ينقطع طمع الناس عنك، وطمعك عنهم. أما طمعهم، فإن رضاهم غاية لا تدرك، فالمنقطع عنهم قاطع لطمعهم في حضور ولائمهم وإملاكاتهم (6) ، وغير ذلك. وقد قيل: من عم الناس بالحرمان رضوا عنه كلهم.
وأما انقطاع طمعك، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر المطامع فيتأذى. وفى الحديث: "انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". وقال الله تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا} [طه:131].
الفائدة السادسة: الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى، ومقاساة أخلاقهم، وإذا تأذى الإنسان بالثقلاء، لم يلبث،، أن يغتابهم، فإن آذوه بالقدح فيه كافأهم، فانجر الأمر إلى فساد الدين، وفى العزلة سلامة من ذلك.
وقال الشيخ محمد اليامي حفظه الله..
رأيت أن في السلامة من مخالطة الناس فوائد كثيرة ،
منها : حفظ اللسان من اللغط ، ومنها حفظ العقل من الإختلاط ، وإختلاف المزاج ، وورود الشبه ، والأباطيل ..
ومنها : حفظ العين من فضول النظر ، والذي ربما حرم القلب من حلاوة الإيمان .
ومنها : حفظ السمع عن سماع القبيح من القول ، وما يستقذر من الألفاظ ..
ومنها : حفظ او زجر القلب عن التعلق بغير الرب جل وعز ، إذ أن الحاجة للناس دافع على التعلق بهم .
ومنها : حفظ النفس من الفتن ، والبعد عن مواطن التهم .
ومنها : التفرغ لطلب العلم الأصيل المتلقى عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم
ومنها :التفرغ لمراجعة النفس ، إعادة التصحيح لما مر ، فإن إستراحة المقاتل مطلوبة لكل حامل فكر ..
ومنها : إستجماع قوى النفس ، وجمع طاقاتها , للمنشط فى النجاحات المستقبلية...
ومنها : النظر آلي عواقب الأمور وضبط النفس , والثبات على الطاعات في الأزمات ..
ومنها : التفكير والتدبير في أقدار الله , وفى مخلوقاته , فان ذلك معين لا ينضب للإيمان , والثبات....
ومنها : عدم التعجل في الآمر كله , فان ذلك مجلبة للخسائر...
ومنها : البعد عن الرياء , وخلوص القلب للرب جل ذكره , فمبدأ خلص خلص له... ومن خلط خلط له..
ومنها : تربية النفس تربية ذاتية سليمة صحيحة بعيدة عن المؤثرات الخارجية
ومنها : محاسبه النفس , ومراجعتها في علاقاتها , سواء مع ربها جل وعز , او مع الخلق , آو حتى مع الذات...
ولها فوائد جمة لا تحصر...
فا جعلها كالدواء....
ولا تغالي فيها , فان زيادتها قاتلة...
وإن نقصها يجرى عليك السفيه والأحمق..
أداب العزلة:
ينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله تعالى أبداً، فهذه آداب بينة. ثم ليكن في خلواته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، فيجتنى ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ليصفو وقته، وليكف عن السؤال عن أخبارهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به، فإن جميع ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة، فوقع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض، وليقنع باليسير من المعيشة، وإلا اضطره التوسع إلى مخالطة الناس. وليكن صبوراً على ما يلقاه من أذى الناس، ولا يصغي إلى الثناء عليه بالعزلة، ولا القدح فيه بترك الخلطة، فإن ذلك يؤثر في القلب فيقف عن السير في طريق الآخرة. وليكن له جليس صالح يستريح إليه ساعة عن كد المواظبة، ففى ذلك عون على بقية الساعات، ولا يتم الصبر في العزلة إلا بقطع عن الدنيا، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر أمله، فيقدر أنه إذا أصبح لا يمسي، وإذا أمسى لا يصبح، فيسهل عليه صبر يوم.
وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر متى ضاق عليه قلبه من الوحدة، وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به، لم يطق وحشة الوحدة بعد الموت، وأن من انس بذكر الله ومعرفته لم يزل الموت أنسه، لأن الموت لا يهدم محل الأنس والمعرفة، كما قال الله تعالى في حق الشهداء: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} [سورة آل عمران: 169] وكل متجرد لله في جهاد نفسه، فهو شهيد، كما ورد عن بعض الصحابة أنه قال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
اللهُ أكبر كلُ متجردٍ للهِ في جهادِ نفسه فهو شهيد..
نستودعكم الله