بسم الله الرحمن الرحيم
الإخلاص منفذ ضيق لجنات عرضها السماوات والأرض.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام وكلمة الإخلاص وأن بعثت لنا رسول الله بشيرا ونذيرا، ليهدينا إلى الحق بإذنك وسراجا منيرا.
أما بعد،
أحباء الرحمن يا من ستدخلون الجنة، أسألكم هل تعلمون متى يأخذ ربنا أعمالنا وينميها لنا، كما قال تعالىمَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عشر أمثالها وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الإنعام 160 ؟.
حبيب الرحمن: اعلم أن تحقق الأجر لا يكون إلا إذا كانت الأعمال خالصة لله تعالى ، ولكي تكون خالصة لله تعالى لا يجب أن تعدو الدرجات الثلاث التالية وهي:- " عليا؛ وهي أن يعمل العبد لله وحده امتثالا لأمره، وقياما بحق عبوديته. ووسطى؛ وهي أن يعمل لثواب الآخرة. ودنيا، وهي أن يعمل للإكرام في الدنيا والسلامة من آفاتها " كشاف القناع ج1، ص 486. ، فعندها يكون القبول ويكون النماء ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها. وبلا أدنى شك خير هذه الدرجات يا حبيب الرحمن هو الأولى. وهنا يبرز لنا سؤال وهو: كيف تكون الأعمال خالصة لوجه الله تعالى؟
قالوا أن الإخلاص : هو تجريد العمل وتزكيته عن ملاحظة المخلوقين، كصدقة السر فهي من الأعمال الخالصة لله تعالى. وقيل الإخلاص هو :" التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك؛ و الصدق: هو التنقي من مطالعة النفس؛ فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له، ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ولا يتمان إلا بالصبر" مدارج السالكين ج32، ص 3.
وقد جاء في منطلقات طالب العلم: " قيل ليحيى بن معاذ: متى يكون العبد مخلصا؟ فقال: إذا صار خُلُقُهُ كخُلُقِ الرضيع ، لا يبالي من مدحه أو ذمه" ص 38.
وفي سياق توضيح معنى الإخلاص بما لا يدع شائبة تتلبسه أرجو أن تسمحوا لي بقصة لم أقف لها على سند صحيح إلا أنها رويت في كتاب نزهة المجالس ومنتخب النفائس... قال: (ذكر الدميري في حياة الحيوان أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو لكل جنس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء، فدعا لهن ومسح على ظهورهن، فظهر فيهن نوافج المسك، فسألتهن طائفة أخرى عن سبب ذلك، فقالوا: زرنا آدم، فدعا لنا ومسح على ظهورنا. فساروا إليه، فدعا لهن ومسح على ظهورهن فلم يجدوا شيئاً. فقالوا: قد فعلنا مثلكم فلم نر شيئاً مما حصل لكم. فقالوا: نحن زرناه لله وأنتم زرتموه لأجل المسك)، أحبة الرحمن ما القصد من الحكاية التي قد لا تثبت أبدا إلا توضيح المعنى من الإخلاص، وأرجو أن أكون قد وفقت لذلك.
يا أهل الجنة الكرام إن الله تعالى يحب من الأعمال ما كان له وحده خالصا لوجهه الكريم، فلا يكون لغيره نصيب معه، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" (رواه مسلم)، فلا أعتقد أخي الكريم أنك تريد أن يكون عملك بعد الجهد والتعب هباء منثورا. أو أن يتركك الله تعالى بعد أن استمسكت بصراطه المستقيم فعندها أنت الخاسر وحدك قال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) البقرة 48. فأنظر يا حبيب الرحمن إلى ما تريد أن يكون لك من الجنة مستقرا، والجنة منازل إنما تنزلها بأعمالك الصالحة الخالصة لوجهه الكريم وإن قلّت.
يا أحبة الرحمن إن الإخلاص في القول والعمل إنما هو توفيق من الله تعالى ويطلب منه، وهو من الرزق الذي يسوقه الله تعالى إلينا في اليوم والليلة، لذلك نجد دأب الصالحين دعاؤهم :" اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل...". وأما شرط هذا الرزق فإنما هو: الإقبال على الله تعالى وحده بتوحيده وعبادته والتذلل بين يديه.
ولكن دعوني أسأل: ألسنا نوحد الله ونعمل جاهدين في الإقبال على عبادته والتذلل بين يديه؟ الجواب : طبعا، بلا ريب. فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: هل تشعر حقيقة أنك مخلص لله تعالى، وهل تشعر أنه يستوي عندك المدح والذم فيما أتيت من الأقوال والأفعال؟ وهل تستشعر أنك أوتيت الكنز المكنون الذي قال فيه الجنيد - رحمه الله تعالى -: " الإخلاص سر بين الله تعالى والعبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيُميلُه" الجامع لأحكام القرآن ج 21، ص 169.
هنا اسمحوا لي بأن أجيب بالتالي: نعم الخلاص كنز مكنون، ولذة قائمة لك يا عبد الرحمن إن شئت أن تدفع ثمنها. أما الثمن فهو كما أرشدنا خليل الرحمن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم " مازال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التى يبطش بها ، ورجله التى يبطش بها ، ولئن سألنى لأعطينه ، ولئن استعاذنى لأعيذنه" رواه البخاري.
أخي الكريم ، يا حبيب الرحمن هل تعلم ما هي أحب النوافل إلى الله تعالى خصوصا في رمضان وخصوصا في وقتنا هذا... فإن قلت: هل هي قراءة القرآن، سأقول: لا . وإن قلت: صلاة التراويح .فسأقول: لا، وإن قلت: الإكثار من السنن؟ فسأقول أيضا: لا..... أخي الفاضل يا مستأجر الأرض من مالكها، ويا راحلا إلى دار القرار لقد جاء في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، "قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة" اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ج3، ص 100 . وقد شاء الله تعالى أن تكونوا أن تجري المقادير، فتكونوا ممن يعرض عليهم أن يكونوا من أصحاب اليد العليا التي تحيا بها الأنفس، فها هي الصومال تناديكم فهل من مجيب. وها هو الخير يطرق ببابكم، فهل ستفتحون له الباب.
أخوة الإسلام ويا ساكني الجنان: إن الله تعالى يطلب منكم أن تقرضوه، فأقرضوه وأسألوه أن يرزقكم الإخلاص عوضا لقرضكم، فوالله إن رُزقتموه فقد حزتم خيري الدنيا والآخرة.
أخوكم الدكتور محمد الشقيري
