كما يعكس بوضوح العنوان.. حديثي عن الغرابة. عن الأشياء التي إذا ما رأيناها ارتفع الحاجبان وثُبتت العينان !.. عن القصص التي عندما نسمعها نلتفت وكأننا - فجأة - صُعقت منا الأفئدة فكفت عن الخفقان !.. عن الملاحظات التي غابت عنا سنينا قبل أن نلمحها على حين غرة فنتوقف برهة أو برهتين غير مصدقين.. كيف لم يكن هذا في الحسبان ؟
هل تفهم ما أقصد ؟.. هل تحسّ بما أحسّ؟ هل تتلذذ مثلي كلما سمعتَ كلمة (غريب) أو (بيزار) أو (سترينج) ؟ أم أنني وحدي المسحور بهذا الأمر، المأخوذ بهذا الفكر، الغارق في هذا البحرِ ؟.. هل تُراني فيلسوف يهيم في كل واد، يسخر منه كل غادٍ ؟.. ويهزأ من فكره الغريب، وميوله العجيب، ومنظره المريب.. ويرى ذلك شذوذا ونشوزا وخروجا عن المعهود؟.. ألا إني أتفلسف لوحدي الساعات ذوات العدد ثم أعود.. لاهثا ومعي بضع عبارات لزقت بذهني، أكتبها مسارعا كي لا تضيع منيّ في زحمة الدنيا.. ولكن من يُبالي بها غيري ؟ فكلما عرضتها على صاحب من الأصحاب محاولا تجميلها، حريصا على تصويرها كما رأيتها أول ما رأيتها هناك، في ذاك الوادي السحيق.. تأفف وتلفّت ضائقا صدره، وتفلّت من الحديث رويدا رويدا، ثم تسلّل مُهرولا خارجا من تلك السراديب المظلمة التي اصطحبته إليها !
من بين مقولات إينشتين الشهيرة التي أقف عندها..
«لا تتوقف عن التساؤل، فغريزة الفضول إنما خُلقت لسبب».
«ليس لي موهبة خاصة، أنا فقط فضولي متحمس، محب للتعلم باستمرار».
«إن من لا يقف مشدوها ليتعجّب، مثله مثل الميت، فعيناه مغلقتان».
«أنا فنان قادر على الرسم بكل حرية في مخيلتي، فالخيال أكثر أهمية من المعرفة، لأن المعرفة محدودة، بينما الخيال لا حدود له، يلف العالم كله».
«إنها لمعجزة أن تنجو غريزة الفضول من براثن التعليم الإلزامي».
«المنطق سيأخذك من النقطة أ إلى النقطة ب.. الخيال سيذهب بك إلى أي مكان».
«العلامة الحقيقية للذكاء ليست كم المعرفة بل هي القدرة على التخيّل».
هذا ما أعنيه بالضبط.. إن الاكتفاء بعيش أي حياة، وقبول ما نراه أمامنا في الطريق كما هو، والانبهار بكل صيحة تأتينا من وراء البحار، والتّفرج على كل ما تبثه القنوات من سموم دون كلمة نقد ودون مقارنة ما تعرضه بما يمليه ديننا الحنيف.. وحبُّ أي لغة أجنبية، فقط لأنها نافعة في الاقتصاد، مدرّة للمال مطلوبة عند العباد.. دون ما نظر إلى حُسنها وإلى حكمتها والنبل الذي تحمل بين طياتها.. إن كل ذلكم إعاقة ذهنية وجمود وقتل للإبداع و برود..
وإني لأشبّه من هذا حاله بالعلكة تمُضغ ثم تُرمى بقرف إذا هي فقدت حلاوتها التي كانت لها مميزة وكانت لمريدها محفّزة ! فأي حلاوة في من لا رأي له ولا فكر ولا مبدأ ولا خيال ؟
لهذا أقدّر الذين يستحبّون التعمّق على الذين يرتضون السطحية والسخافة والمادّية الفاحشة.. أقدّرهم ما لم يصلوا في غوصهم إلى أعماق نهانا الله عن الوصول إليها للضرر الذي سيصيبنا جراء ذلك لا محالة، فلسنا بقادرين على تحمّل تلك الأسئلة العظيمة ولا نحن بمؤهلين للإجابة عنها.. فهي مغارات مظلمة لم يدخلها إنسان من قبل ولا جان !
ولكن هناك فعلا من الأمور التي جعلتها العادة مملة رتيبة، ما إن تأملت فيها وزدتها تأملا.. فزعت وذُعرت مما تخفيه بجوفها من حقائق مروّعة أو جواهر بديعة..
أليس جسمنا غريبا ؟ وهذه الأنابيب التي تُسمى أصابعا ؟ وما هو هذا الخرطوم المزدوج الذي بين ناظرينا نستشعر به طبيعة الروائح ؟ بل انظر إلى هاتين الكرتين السحريتين التي نرى بهما ما حولنا ؟ سبحان الخالق المصوّر !
ألم تسأل نفسك يوما ما مدى جمال سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ؟ وقد قطّعت النسوة أيديهن من فرط الانبهار لما خرج عليهن ! فكيف كان عليه السلام ؟
ما بال أقوام لا ينظرون في أمر خالقهم وما ينتظرهم ؟ كيف سيكون مشهد الحشر وأي ذعر ذاك الذي سيجتاح جماهير الناس وأي ندم سيقطع قلبك ؟ وأي لذة تلك التي ستغمر أصحاب الجنة وهم يتطلّعون إلى وجه ربهم الجميل ؟ جعلنا الله منهم..
ما هو هذا الفعل الذي يُدعى ضحكا ؟ وكيف تدل أصوات وحركات شفهية على الفرحة أو الطرافة ؟ كيف اخترعوا اللغات ؟ ومن يقول وكيف تشتهر النّكت ؟ وماذا عن إشكالية (من سبق البيضة أم الدجاجة ؟) التي تعترضنا ولابد في حياتنا.. حتى لا تدري ما إذا كنتَ أنت من ابتكر فكرة ما أم قد سمعتها من قبل أم رأيتها فيما يراه النائم ثم اختمرت في ذهنك طويلا قبل أن تخرج كأنها ترى النور لأول مرّة.. أشياء كثيرة نعجز عن العودة إلى أصلها !
لا تقل هذا ممل، فأنت الملول.. أما الجمال والغرابة فمكانهما باديان لمن أطلق بصره أو ألقى سمعه وهو شهيد، واستدعى عقله السّارح في مكان بعيد، ثم فرّغه تفريغا ليمارس إحدى أرقى الأنشطة الإنسانية.. التأمّل.
وأزيدك من الشعر أبياتا.. أليس من المبهر أن تكون كل أحداث الدنيا بعناوينها وتفاصيلها وتواريخها وأماكنها.. مسجلة في كتاب عند الملك تعالى في علياءه ؟ كيف هي الرّوح وأين محلّها فينا؟ ما سرّ الأحلام ؟ هل توجد كائنات غيرنا بهذا الكون ؟ ما سر تلك الأصوات التي كنت أسمعها وحدي داخل المطبخ ليلا وأنا صغير؟ كيف يفكر المجنون ؟ كيف هم الجن وكيف يحيون؟ كيف نختلف ولا يشبه أحدنا الآخر في الظاهر أو الباطن ؟ كيف يفكر المجرمون الذين يقتلون الأطفال الأبرياء ويغتصبونهم بعد القتل ثم يمزقونهم كل مُمزّق ؟ كيف يكون العبقري في صغره غبيا مغفّلا ؟ كيف لا يزال يعيش بيننا صالحون في هذا الزمن القذر ؟ كيف تُنسينا الأيام ما ظننا أن لن ننساه ما حيينا ؟ ولماذا نخطأ دائما ذات الخطأ الذي طالما أحزننا فبكينا ؟
أليس كل هذا غريبا ؟
وكتبه
رفعت خالد المزوضي
عفا الله عنه وعن والديه