واشنطن: روبرت كايسر وديفيد اوتاوي *
كان أصعب يوم في تاريخ العلاقات الاميركية ـ السعودية هو يوم 20 اكتوبر (تشرين الاول) عام 1973، عندما اشترك الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز في المقاطعة العربية للولايات المتحدة. وفي ظرف عدة ايام فقط، سادت السوق العالمي للنفط الفوضى الشاملة. وصار الاميركيون ينتظرون في صفوف طويلة ليحصلوا على ما يريدون من الوقود. وفي ظرف عدة اسابيع زاد سعر النفط ثلاثة اضعاف على الاقل.
ولم تكن تلك هي المرة الاولى او الاخيرة التي تخطئ فيها الولايات المتحدة قراءة الاوضاع الداخلية في السعودية. فعندما شنت مصر وسورية حرب الايام الستة في اكتوبر (تشرين الاول) من ذلك العام، صرح المسؤولون الاميركيون، في السر والعلن، بأن السعوديين لن يشاركوا مطلقا في حظر للبترول تضامنا مع حلفائهم المصريين والسوريين. ولكن عندما صار واضحا ان اسرائيل في طريقها الى الحاق هزيمة اخرى بالعرب، وعندما طلبت ادارة نيكسون من الكونغرس التصديق على مبلغ 2.2 مليار دولار كعون عاجل لتزويد اسرائيل بمزيد من الاسلحة، لجأ الملك فيصل الى سلاح النفط.
ومع ان الحظر النفطي كان قصير الاجل، الا انه غير العالم بصورة كاملة. وكان مدعاة للارتياح من قبل الملك فيصل انه وجد طريقة مكنته من رفع اسعار النفط من اقل من 3 دولارات للبرميل في مارس (اذار) 1974 الى اكثر من 11 دولارا. وكان ذلك التغيير سببا في تحويل مئات المليارات من الدولارات من مستهلكي البترول الى منتجيه مما جعل السعودية بلدا وافر الغنى. وعلى قاعدة من تلك الثروة، والنفط الذي انتجها، قامت علاقات الشراكة الاميركية السعودية. بادرت باقامة تلك العلاقات، على وجه السرعة ، الولايات المتحدة التي اصابها الرعب من جراء المقاطعة. وقد لخصها وليام سايمون، وزير الخزانة وقتها، واحد مهندسي تلك العلاقات من موقعه ذاك، تلخيصا دقيقا حينما قال عشية زيارة قام بها الى المملكة في اغسطس (آب) عام 1974: «زيارتي الى العربية السعودية تعتبر خطوة مهمة لانشاء شراكة تكون على اكبر درجة ممكنة من المتانة مع السعوديين. المصلحة الاساسية بالنسبة الى الولايات المتحدة، هي الحصول على النفط السعودي بكميات وافرة وبصورة مستمرة، وبثمن مقبول من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. ونحن نأمل كذلك ان السعوديين سيستخدمون نفوذهم المتزايد، في المجالات النفطية والمالية، بحكمة واعتدال».
كانت ارصدة السعودية من «البترودولار» تحتل مكانا بارزا في ذهن سايمون وهو يحضر لزيارته تلك. وكان الاميركيون يأملون ان يستخدم السعوديون الكثير من ثرواتهم المفاجئة، في تمويل العجز في الموازنة الاميركية بشراء صكوك وسندات الخزانة الاميركية. وكان سايمون مصمما على ان تكون تلك الصكوك والسندات في متناول السعوديين متى ارادوا شراءها. وتورد مذكرة اعدت لسايمون حول كيفية مناقشة القضايا مع السعوديين، الحجج التي يستخدمها الاميركيون في اقناع السعوديين بشراء السندات. تقول احدى هذه الحجج: «ان الاستثمار المباشر مع وزارة الخزانة الاميركية، يريح المستثمر من كثير من العناء، ويجنبه المخاطر التي غالبا ما تعترضه عندما يوظف استثمارات ضخمة او يحاول تصفيتها في ما بعد».
ولضمان تدفقات مستمرة من البترودولار، اقترح سايمون ووزير الخارجية هنري كيسنجر، انشاء لجنة للتعاون الاقتصادي بين البلدين.
كانت الفكرة، حسب ما عبر عنها تشارلس سكوتا، المسؤول الكبير بوزارة الخزانة وقتها، هي خلق آلية تمكن الاميركيين من تقديم العون للسعوديين في مختلف المجالات، بدءاً بخلق جهاز حديث للعائدات الجمركية، مرورا بكيفية جمع الاحصاءات الدقيقة عن اقتصاد واسع النمو، وحتى تحلية المياه وتوزيعها. هذه الآلية لها خاصية واحدة فريدة، وهي ان السعوديين يدفعون نفقاتها. وبالفعل قام السعوديون بتوفير مليار دولار وضعت في حساب بوزارة الخزانة الاميركية، وذلك للانفاق على كل مشروع ينفذ باشراف اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي، بما في ذلك اجور الموظفين الاميركيين الذين يعملون لتنفيذ هذه المشروعات. وقد عبر سكوتا عن هذه الحقيقة بأسلوبه الخاص حينما قال: «اذا كنت من اصحاب الاعمال الذين يعملون في السعودية، فان الآلية ستكون مألوفة لديك تماما، لانها تعمل بالضبط كما تعمل نظيراتها الاميركيات. انك عندما تصل الى العربية السعودية، وتمر باجراءات الهجرة، فكأنما وصلت الى الولايات المتحدة بالضبط».

* تحالف مفيد للطرفين
* ظلت العلاقات السعودية الاميركية مجهولة او شبه مجهولة في الولايات المتحدة، مثلها مثل اللجنة الاقتصادية المشتركة. قال دون ديمارينو، الذي عاش في العربية السعودية من 1985 الى 1987، وكان المدير المحلي للجنة المشتركة: «لم يكن الجمهور يعرف الكثير عن تلك العلاقة. وعندما كنت اعيش هناك، لم يكن الاميركيون يبدون اية رغبة في معرفة شيء عنها».
ويقول اميركي خبير بالشؤون السعودية، ان السعوديين كانوا يفضلون ان تبقى الامور على ما كانت عليه. وانهم كانوا يفضلون ادارة هذه العلاقات على اضيق وأعلى مستوى ممكن.
واذا وضعنا في الاعتبار الاختلافات القائمة بين الطرفين، فان العلاقة بين اميركا والسعودية تبدو اقرب الى الزواج الذي اعدته العائلة، منها الى الحب الرومانسي.
كان هذا التحالف مفيدا لهما كليهما، اذ وفر للسعودية الامن الذي كانت تتوق اليه في منطقة خطرة من العالم، كما وفر للولايات المتحدة مددا متصلا من النفط، وبأسعار كانت في اغلب الاحيان معقولة. ومع ذلك فقد كانت هناك مصادر عميقة للتوتر. وكان السعوديون من جانبهم يفعلون كل ما يستطيعون حتى لا يفهمهم الاميركيون على حقيقتهم، وخاصة في ما يتعلق بسياساتهم. ومن جانبهم لم يدخر الاميركيون وسعا في تشجيع السعوديين على تكوين وجهة نظر تتسم بغير قليل من سوء الظن تجاه اميركا ونياتها. فمنذ اللحظة التي صارت فيها السعودية دولة غنية، وقف على ابوابها الاميركيون الذين كانوا يريدون المشاركة في تلك الثروات ، سواء كان هؤلاء عمالقة بحجم بوينغ وبيكتل، او بعض شذاذ الافاق الذين كانوا يطمعون في صفقة سريعة وحزمة من الدولارات او الريالات. ومن جانبهم طلب السعوديون من المقاولين الاجانب ان يدفعوا عمولات لا تقل عن 5% للوكلاء المحليين، مقابل العلاقات والتسهيلات التي يقدمونها للاجانب.
قال ادوارد ووكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الاوسط: «دعونا نعترف الان، لقد حصلنا على اموال ضخمة من السعودية».
ومع الزمن صار السعوديون على درجة من البراعة في تصدير الاموال الى الولايات المتحدة، تضاهي براعتهم في تصدير النفط. ولم تكن المملكة التي لا يزيد عدد سكانها على 10 ملايين، عام 1980، قادرة على استيعاب مئات المليارات من الدولارات التي كانت تمثل عائداتها من النفط، رغم برنامجها البالغ الطموح في التنمية المحلية. وقد اشترت المملكة عن طريق صندوق النقد السعودي، سندات من الخزانة الاميركية بينما قام السعوديون الافراد الذين اصابوا من الثروة الجديدة، باستثمار اموالهم في المؤسسات المالية الغربية.
وجاء السعوديون الى اميركا لتعلم مهارات جديدة. كانت شركة «أرامكو» الاميركية، قد ارسلت في الخمسينات والستينات، مئات السعوديين الى الجامعات الاميركية. ولكن الحكومة السعودية صارت تمول البعثات الى الجامعات الاميركية لطلاب سعوديين بلغت اعدادهم الالاف. وبالنسبة للسعوديين الذين ولدوا بين 1940 و1960 فان الحصول على درجة من جامعة اميركية كان يمثل ورقة الانتماء الى النخبة. ومن بين الوزراء السعوديين الـ 30، حصل 21 منهم على درجات من جامعات اميركية، 16 منها درجات دكتوراه.
وقد احب اميركا كل الطلاب السعوديين الذين درسوا هنا، وعاشوا فترة من حياتهم في هذه البلاد. ويقدر تشاس فريمان، سفير الولايات المتحدة الى السعودية في اوائل التسعينات، ان 100 الف سعودي يملكون منازل او شققا في الولايات المتحدة.
استخدم السعوديون ثروتهم لخلق صداقات اميركية جديدة، او لمكافأة اصدقاء قدامى. ففي عام 1991، طلب حاكم ولاية اركنسو من السعودية تبرعا لاقامة مركز لدراسات الشرق الاوسط في جامعة الولاية. ولم يتلق الحاكم ردا لمدة عام. ولكن في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1992 تلقى الحاكم بيل كلينتون مكالمة هاتفية، كان الغرض منها تهنئته برئاسة الولايات المتحدة، وتبرعت الحكومة السعودية بمبلغ 20 مليون دولار لتمويل مشروع دراسات الشرق الاوسط.
ويبدو ان الاميركيين ممن عملوا لبعض الوقت مع السعوديين بحكم وظائفهم الرسمية، غالبا ما يحافظون على تواصلهم معهم بعد تركهم للوظائف العامة، وذلك ابتداء بالرئيس السابق جورج بوش، الذي القى محاضرات في السعودية مقابل أجر معلوم، بعد انتهاء فترة رئاسته، الى العديد من السفراء والمسؤولين العسكريين السابقين الذين كلفوا بمهام في السعودية. فوولتر كولتر الذي خدم مرتين كسفير للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية، يملك الآن مركز ميريديان الدولي في واشنطن، وهو هيئة تشجع التفاهم الدولي من خلال التعليم وتبادل الزيارات. وظل المتبرعون السعوديون محافظين على «دعمهم الكبير» للمركز، كما قال كولتر. اما ووكر مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى فهو رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، الذي يشجع التفاهم مع العالم العربي. رئيس مجلس ادارة المعهد هو السيناتور السابق ويش فاولر، السفير في الرياض خلال فترة رئاسة كلينتون الثانية. وقد ساهم الدعم السعودي في تقديم 200 الف دولار اميركي من موازنة المعهد خلال العام الماضي، التي بلغت 1.5 مليون دولار، كما قال ووكر.
وكان الامير بندر بن سلطان قد قال لمعاونيه انه يعمل على استمرار التواصل الحميم مع المسؤولين الذين قاموا بمهام في المملكة العربية السعودية، بعد تركهم للخدمة العامة.
* الدبلوماسية الصامتة
* ورغم ان السعوديين كانوا ببساطة اهم مشتري السلاح من اميركا، الا انهم ظلوا مستائين من العملية التي كان يتوجب عليهم القيام بها للحصول على احدث انظمة التسلح الاميركية. وخلال مناسبتين، تمكنوا بصعوبة من الافلات من عدم موافقة الكونغرس عندما عارض اصدقاء اسرائيل بيع طائرة متطورة للسعوديين. وفي مناسبات عديدة كان على الادارة الاميركية مراوغة معارضة الكونغرس لصفقات بيع اسلحة للرياض. وقد امتنعت الولايات المتحدة عن بيع بعض انواع الاسلحة المتطورة للمملكة العربية السعودية، بما فيها الصواريخ. وهكذا اشترى السعوديون ما يحتاجونه من دول اخرى ايضاً، بما فيها بريطانيا وفرنسا ـ وفي صفقة اصابت الولايات المتحدة بالدهشة ـ من الصين.
وخلال المفاوضات السرية التي بدأت في الصين عام 1985، تفاوض الامير بندر على شراء صواريخ «إس سي سي 2» الصينية التي يصل مداها الى 1500 ميل او الى مسافة تصل الى تركيا واسرائيل اذا ما انطلقت من الاراضي السعودية. ولم تتمكن الولايات المتحدة واسرائيل من اكتشاف ما حدث طوال سنتين من المفاوضات. وعندما ادركت اجهزة المخابرات في البلدين ان هناك شيئاً ما اصيبتا بصدمة. واصدرت وزارة الخارجية الاميركية تعليماتها لهيوم هوران الذي كان قد وصل الى الرياض سفيراً للولايات المتحدة، بأن يطلب مقابلة الملك فهد خلال شهر مارس من عام 1988، لينقل له رسالة تعبر عن «الدهشة على هذا الاجراء»، كما قال هوران في مقابلة اجريت معه.
وكان هوران قد خدم كرجل ثان في السفارة ما بين اعوام 1972 الى 1977. ويتمتع بمجموعة واسعة من الاتصالات مع المجتمع السعودي. وهو معروف في الاوساط الدبلوماسية بأنه افضل اميركي يتحدث باللغة العربية، وبأنه افضل باحث في قضايا العالم العربي. وهو نجل ارستوقراطي ايراني كان يعمل وزيرا لخارجية ايران، ووالدته اميركية.
قال هوران انه علم بأن القيادة السعودية قد تشعر بالغضب من لهجة الرسالة، ولذلك فانه هاتف واشنطن ليتأكد من ان المسؤولين هناك يدركون اهمية تعليماتهم له. كان الرد، اجل.. أنقل الرسالة. وقد فعل ذلك. لكنه عندما عاد الى السفارة وجد برقية جديدة من واشنطن تتضمن تعديلاً للتعليمات السابقة ـ التي كان قد نقلها بالفعل. حينها قال: «يا للهول لقد وقعت في ورطة».
كان الامير بندر قد اقنع مسؤولين كباراً في ادارة الرئيس ريغان بعدم التعبير عن احتجاج رسمي. واكد بندر للأميركيين أن الصواريخ ستستخدم في الردع وفي حالة الدفاع عن النفس.
حينها بعثت الادارة الاميركية بفيليب حبيب مساعد وزير الخارجية المتقاعد، الذي كان يشغل منصب المبعوث الخاص للسلام في الشرق الاوسط، الى الرياض لكي يحاول تلطيف الاجواء مع الرياض. وقد اصطحب حبيب السفير هوران معه خلال لقائه بالملك فهد، في مهمة دبلوماسية لم يتم الكشف عن تفاصيلها من قبل.
كان الملك فهد مستاء من السفير، كما يتذكر هوران، وسأل حبيب، بحضور هوران، ان يتم استبدال الاخير. وعندما اثار حبيب قضية الصواريخ، قال الملك بغضب انه اخبر هوران «بأن لا يتدخل في الامر».
قررت ادارة ريغان عاجلاً ان تستبدل هوران بارسال السفير الذي كان هوران قد حل مكانه. وهو السفير كولتر، الموظف المحترف لدى وزارة الخارجية الاميركية، ولم تبعث بشخص يجيد التحدث باللغة العربية كهوران. كان القرار عاجلاً جداً الى درجة سبقت مغادرة هوران للمملكة، وقد طلبت منه وزارة الخارجية الاميركية ان يسعى للحصول على موافقة السعودية على تعيين كولتر كسفير لديها. وتلك كانت مهمة اهانت هوران، كما اوضح ذلك بعدما يقرب من 14 عاماً من قيامه بها.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»