قال تعالى : ((ليشهدوا منافع لهم )) فما هي المنافع ؟
الغاية الأساسية من العبادة ، هي تحقيق العبودية لله سبحانه ، والخضوع له ، فيما أمر ونهى ، والانعتاق من سائر العبوديات بأشكالها وألوانها ، التي كانت سبب الشر في العالم ، الكامن في تسلط الإنسان على الإنسان ، وعدم التسليم ، بأن السيادة لله ، فمن لم يكن عبدا لله، فهو عبد لسواه يقينا . وإن الذين يحاربون الإيمان بالله والعبودية له ، إنما يحاربونه لأنه يسويهم بغيرهم ، وهذا يحول دون استعبادهم للناس واستخفافهم لهم ، وتسلطهم عليهم .
والعبادات في الإسلام -التي بها قوامه ، وبناء أركانه- وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا - (متفق عليه) - هي التعبير الإيجابي العملي العضوي عن العقيدة ، والغذاء الدائم لها . وهي أشبه بالمحطات التي يتزود منها الإنسان بطاقات ، تضمن له ديمومة تغلب دوافع الخير على نوازع الشر ، ليبقى معنى العبودية الحقة ، في حراسة دائمة ، وحرز أمين .
ولكل عبادة من العبادات الإسلامية، معنى خاص بها، ذلك أنها تتولى بناء جانب من جوانب الشخصية المسلمة ، ولو كان للعبادات في الإسلام مدلول واحد ، لكانت إحداها كافية في عملية بناء الشخصية المسلمة ، وتربيتها على العبودية لله تعالى .
صحيح بأن الصلاة فرض على كل مسلم ، تبدأ مع تمييزه ، ولا يخرج من عهدة التكليف ، ما لم يؤدها بشروطها وأركانها ، ولا تسقط إلا بسقوط العقل . وإن بناءها النفسي والعملي للمسلم أمر على غاية من الأهمية ، حيث تتكرر في اليوم خمس مرات ، إلا أن أركان الإسلام الأخرى ، كالصوم والزكاة والحج ، إنما فرضت أيضا لكنها أنيطت بالاستطاعة ، لأن هذه الحالة من الاستطاعة التي يصير إليها المسلم ، لا بد لها من تربية خاصة بها لتتوجه الوجهة النافعة المفيدة لصاحبها وللمجتمع تسير وجهة النعم ولا ترتكس ارتكاس النقم . وشكر المنعم سبب دوام النعم ، وشكرها إنما يكون بوضعها ، حيث أراد المنعم .
فلعل الإنسان إذا ملك نصابا -والنصاب كما هو معلوم ، بلوغ المال حدا معينا زائدا عن نفقته ونفقة من تجب عليه نفقته- استيقظت في نفسه نزعة الاستغناء والطغيان ، قال تعالى: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى (العلق : 6)
من هنا كان لا بد لهذه الاستطاعة من تربية خاصة بالحالة التي انتهى إليها هذا الإنسان ، حتى لا تضل مسارها ، ولا تحمل صاحبها على الطغيان والظلم للأخرين ، حيث السقوط في إسار المادة القاتل.
ومن هنا كانت عبادة الزكاة ، أو تربية الزكاة لازمة بالنسبة لمن بلغوا من المال حدا معينا ، حتى يسير الجانب المادي في حياتهم ، منسجما ومتوازنا مع سائر الجوانب الأخرى ، والزكاة عبادة سنوية . وما يقال في شأن الزكاة ، يقال في شأن فريضة الصيام على المستطيع المعافى ، لأن الإنسان القوي المعافى الذي لا يشكو ضعفا تتسرب إلى نفسه بعض نزعات التأله الكاذب ، والاستغناء بقوته عن قوة الله ، فكان لا بد له من تربية الصيام ، التي تشعره ببشريته المحتاجة إلى الطعام والشراب ، إلى جانب الشعور العملي بحاجة الأخرين ، فيكون أقدر على مساعدتهم.
أقول: الشعور العملي ، والتدريب العملي ، وليس الشعار السياسي ، الذي يطرحه المترفون من شرفاتهم العالية ، لذا نرى أن رمضان ارتبط بالأشهر القمرية يتكرر كل عام مرة حتى يستغرق كل الفصول وكل الأنواء ، ويحكم مختلف الحاجات . والحج هو الركن الخامس ، تربية للمسلم الذي يملك الزاد والراحلة ، تربية لا تتأتى في تأدية كل العبادات الأخرى ، فلكل عبادة مدلولاتها في النفس وبناؤها للفرد المسلم ، ولو تأتى هذا البناء من الصلاة أو الزكاة أو الصوم ، لما فرض الحج مرة في العمر ، ولما كان لفرضيته معنى .
صحيح أن العبادات توقيفية ، وأن الغاية منها : العبودية والخضوع لله ، لكن هذا لا يمنع أبدا من معرفة الحكم والتماسها ، خاصة وأن الله تعالى الذي فرض علينا هذه العبادات قد نص على بعض حكمها ، قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (العنكبوت : 45) وقال: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها (التوبة : 103) وقال: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تئقون (البقرة : 183) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : الصيام جنة (متفق عليه)
يبقى الأمر المطروح هنا ، أن الصلاة والزكاة والصيام تتكرر في اليوم أو السنة ، أما الحج ففرضه في العمر مرة ، على المسلم الذي يملك الزاد والراحلة ، حيث لا بد للمسلم من أن يشهد ولو لمرة واحدة في مستوى الفرضية ، الآيات البينات قال تعالى : فيه آيات بينات (آل عمران : 97) !
يشهد مهبط الوحي ، ويترسم خطوات النبوة الأولى ، يشهد المرابع ، التي تربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حفظه الله من عقائد الجاهلية ، السائدة وعاداتها ، وكره إليه أصنامها... يشهد مكان صراع قريش ، على وضع الحجر الأسود ، وحكمة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، يشهد المكان الذي اتصلت به السماء بالأرض ، وكان بدء الوحي ، وكان اكتماله . يعيش رحلة اللدعوة ، التي قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين مكة والمدينة ، متجاوزا كل الروابط القسرية ، التي تواضع عليها الناس ، بكل ما في هذه الرحلة من المعاني الكبيرة الخالدة ، حيث البلاء يشتد هنا وهناك ، وحيث المواجهة المؤمنة ، حيث الأمل والرجاء وبرد اليقين ، لا تحزن إن الله معنا (التوبة : 40) يستروح الذكريات والمعاني ليعيشها ويتمثلها... يستذكر الهجرة إلى الطائف ، وما حملت في طريق الذهاب ، والإياب ، من صور المعاناة والعذاب إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي فيكون شعاره: لا يأس مع الإيمان ، ولا إيمان مع اليأس ، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
يرى التاريخ أمامه على أرض التاريخ ، على مقربة من منى ، حيث بيعة العقبة الأولى والثانية ، وعمادها : السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره ، وعلى قول الحق ، وعدم الخوف في الله لومة لائم . يشهد المسلم في حجه دورة سلمية ، يدخلها ويتدرب عليها ، مع نفسه ، ومع المخلوقات من حوله ، حيوانها ونباتها ، يعيش في الحرم آمنا ومن دخله كان آمنا (آل عمران : 97) حيث لا يزال العالم عاجزا عن تأمين بقعة من الأرض ، محايدة آمنة . يشهد مؤتمر المسلمين العام ، حيث ينحدر المسلمون من شتى أنحاء الدنيا ، من كل فج عميق .
يدخل مكة ، فيذكر دخول الرسول صلى الله عليه وسلم ، عندما دخلها فاتحا ، ويكاد رأسه يلامس سرج راحلته ، تواضعا وشكرا لله أن فتح له مكة ، لأن ذلك اليوم ، هو يوم المرحمة ، فلم تعصف بنفوس المسلمين نشوة الظفر ، وصلف المنتصرين ، وما يمكن أن يستدعي ذلك من تجاوز . يسمع ، كلام أبي سفيان للعباس رضي الله عنه: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ، ويسمع جواب العباس ، وكيف يصحح المفاهيم ، فيقول: يا أبا سفيان إنها النبوة ، وليس الملك .
إن كل حبة رمل في تلك البقاع ، تحمل تاريخا مشرقا ، وتنطق بحضارة ، ما زال عطاؤها للبشرية مستمرا . لقد شهدت هذه الأماكن ، لحظات الانتصار ، للمعاني الإسلامية ، المعاني الإنسانية ، شهدت انتصار ، الصبر ، والحلم ، والإيثار ، والصدق ، والأمانة ، هذه المعاني ، التي تجسدت في حياة المسلمين الأوائل ، على طريق الدعوة ، وصاغت سلوكهم من جديد ، حتى أصبحوا مؤهلين لدولة الإسلام .
يعيش ولو مرة في العمر ، على أرض الدولة الإسلامية ، التي تربى أفرادها على عين الله ، وتسديد وحيه ، لتبقى الدولة القدوة ، والخلافة الراشدة... يعيش المساواة الكاملة ، فلا تمييز ولا امتياز... يهيج اشتياقه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الحاكم المسلم العادل ، يقول لجبلة بن الأيهم الأمير الغساني ، عندما كان يطوف حول الكعبة ، لكنه يطوف في الحقيقة حول نفسه ، وأمارته ، وداس الأعرابي على ثوبه ، فضربه جبلة فهشم وجهه ، فشكا الأعرابي جبلة ، إلى عمر رضي الله عنه ، فحكم للأعرابي بأن يقتص منه ، فاستنكر جبلة هذه القيم ، وقال: كيف يا أمير المؤمنين ، وأنا أمير وهو سوقة ، فتكون كلمة عمر التي تربى عليها في الإسلام: (الإسلام سوى بينكما) ، فيفضل جبلة العمالة للروم ، حيث ضمان التميز على الإسلام ، الذي يحكم بالمساواة ... يشتد اشتياق المسلم لسيدنا عمر رضي الله عنه ، أكثر ، عندما يتفلت من ذكرياته وتاريخه ، ويعود إلى واقعه الذي يحاول الهروب منه ، حيث المآسي ، والظلم ، والتمييز ، والامتيازات وكل ما أنتجته العقول الظالمة ، يصدر إلى عالم المسلمين . إذ يعود الإسلام غريبا كما بدأ ، ويغيب عمر ، ويحضر جبلة ، ويصبح حالنا كحال الغاص بالماء ، وفي أمننا يخاف البريء ... (وشر الملوك من خافه البريء) يشهد المسلم في عبادة الحج ويقف على الأرض التي سقطت فيها قيم الجاهلية ونخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، لأول مرة في تاريخ البشرية حتى باتت تحت الأقدام ، إلا عند الذين نكسوا على رؤوسهم ، وأخلدوا إلى الأرض ، ينبشون ما تحت الأقدام، يبعثونها من جديد .
يشهد يأس الشيطان ، وقافلة الشيطان من دين الإسلام ، قال تعالى : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وأخشون (المائدة: 3) يشهد كمال الدين ، واكتمال التشريع اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة 3)
يشهد أرض خطبة حجة الوداع ، حيث الرسول صلى الله عليه وسلم ، يضع المعالم الرئيسة للدولة الإسلامية عبر التاريخ ، بقوله: إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ويقول: واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله ، ومناصحة أهل الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، ألا أن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع... قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله (رواه مسلم وأبو داود والنسائي)
يشهد الطواف حول البيت العتيق ، الذي بني على التوحيد ، من أول يوم لتتأكد هذه الحقيقة في نفسه ، أكثر من مرة بكثرة طوافه . يستعرض بطوافه عكس عقارب الساعة ماضيه ، وما فرط في جنب الله ، ويقابله بماضي هذا البيت ، وهذه الأرض ، فيلتجئ إلى غافر الذنب ، وقابل التوب ، ليتجدد في حياته ، وينخلع من كل ما لا يرضي الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (البخاري وأحمد والنسائي)