لا يجب على المرأة أن تغطي وجهها
القول بأن الحجاب مفروض على النساء في الإسلام يسترن به وجوههن ما عدا عيونهن هو رأي إسلامي ، قاله بعض الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب . والقول بأن الحجاب غير مفروض على النساء في الإسلام ، فلا يجب على المرأة المسلمة أن تستر وجهها مطلقاً لأنه ليس بعورة ، هو أيضاً رأي إسلامي ، قاله بعض الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب . وبما أن هذه المشكلة هي من المشاكل الاجتماعية الهامة ، وتبني أي رأي من هذين الرأيين يؤثر على طراز الحياة الإسلامية ، لذلك كان لا بد من عرض شامل للأدلة الشرعية في هذه المشكلة ، بدراستها ، وتتبعها ، وتطبيقها على المشكلة . حتى يتبنى المسلمون الرأي الأقوى دليلاً ، وحتى تتبنى الدولة الإسلامية الرأي الأرجح برجحان الدليل .
نعم قامت منذ ما يقرب من أكثر من نصف قرن مناقشات حول المرأة ، أثارها الكفار المستعمرون في نفوس المفتونين بالغرب ، المضبوعين بثقافته ، ووجهة نظره في الحياة . فحاولوا أن يدسوا على الإسلام آراء غير إسلامية ، وحاولوا أن يفسدوا وجهة نظر المسلمين ، وابتدعوا فكرة الحجاب والسفور ، ولم يتصد لهم العلماء المفكرون ، بل تصدى لهم كتاب ، وأدباء ، ومتعلمون جامدون ، مما مكن لآراء هؤلاء المضبوعين ، وجعل أفكارهم محل بحث ومناقشة ، مع أنها أفكار غربية ، جاءت لغزو الإسلام وإفساد المسلمين ، وتشكيكهم في دينهم . نعم قامت هذه المناقشات ولا تزال بقياها وآثارها ماثلة ، ولكنها لا تستأهل البحث ، ولا ترقى إلى درجة الأبحاث التشريعية والاجتماعية . لأن البحث إنما هو في أحكام شرعية استنبطها مجتهدون واستندوا فيها إلى دليل ، أو إلى شبهة دليل ، وليس البحث في آراء كتاب ، أو تسميات مأجورين ، أو سفسطات مخدوعين ، أو ترهات مضبوعين . فما يقوله المجتهدون مستنبطين إياه من الأدلة الشرعية هو الذي يوضع موضع بحث ، ويناقش مناقشة تشريعية . وكذلك يلتحق بأقوال المجتهدين مما يوضع موضع البحث أقوال بعض الفقهاء والمشايخ والمتعصبين للحجاب فتبحث لإزالة الشبهة من نفوسهم . ولهذا سنعرض لأقوال المجتهدين ولأدلتهم ، حتى يتبين القول الراجح ، فيلزم كل من يراه راجحاً بالعمل به ، والعمل لتطبيقه .
لقد ذهب الذين قالوا بالحجاب إلى أن عورة المرأة جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ، إنما هو في الصلاة فحسب ، أما في خارج الصلاة فقالوا إن جميع بدنها عورة ، بما في ذلك وجهها وكفاها . واستندوا في قولهم هذا إلى الكتاب والسنة .
أما الكتاب فلأن الله تعالى يقول : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } وهو صريح في ضر الحجاب عليهن ، ويقول الله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } وقالوا إن معنى يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن . ويرون أن النساء كن في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار ، لا فرق بين الحرة والأمة ، وكان الفتيان من أهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان ، وريما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف ، وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع . وهذا أجدر وأولى أن يعرفن فلا يتعرض لهن . ولا يلقين ما يكرهن . ومنهم من يقول ذلك أدنى أن يعرف هنالك " لا " محذوفة أي ذلك أجدر أن لا يعرفن جميلات أو غير جميلات فلا يؤذين . ويقول الله تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } وقالوا إن أمر الله للنساء أن يقرن في بيوتهن دليل على الحجاب .
وأما السنة فلما روي عن النبي r : " إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي لتحتجب منه " ولما روي عن أم سلمة قالت : " كنت قاعدة عند النبي r أنا وحفصة فاستأذن ابن أم مكتوم فقال النبي r : " احتجبن منه . فقلت يا رسول الله إنه ضرير لا يبصر ، قال : أفعمياوان أنتما لا تبصرانه " ولما رواه أبو داود " كان الفضل بن عباس رديف رسو الله r فجاءته الخثعمية تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فصرف رسول الله r وجهه عنها " . وعن جرير بن عبد الله قال : " سألت رسول الله r عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري " . وعن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله r : لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة " .
هذه هي أدلة القائلين بالحجاب ، والقائلين إن جميع بدن المرأة عورة . وهي أدلة لا تنطبق على المشكلة المستدل عليها بها ، لأنها جميعها ليست في هذا الموضوع . أما آية الحجاب وآية { وقرن في بيوتكن } فلا علاقة لنساء المسلمين بها مطلقاً . وهما خاصتان بنساء الرسول r بصريح الآية إذا تليت جميعها ، وهي آية واحدة مرتبطة ببعضها لفظاً ومعنى . فإن نص الآية هو { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، ولكن إذا دعيتم فادخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث ، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم ، والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أنت تنكحوا أزواجه من بعده أبداً . إن ذلكم كان عند الله عظيما } فالآية نص في نساء النبي ، وخاصة بهن ، ولا عالقة لها بنساء المسلمين ، ولا علاقة لآية نساء غير نساء رسول الله بهذه الآية . ويؤيد كون هذه الآية خاصة بنساء الرسول عليه السلام ما روي عن عائشة قالت : " كنت آكل مع النبي r حيساً في قصعة ، فمر عمر فدعاه فأكل ، فأصابت إصبعه اصبعي ، فقال عمر : أواه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين ، فنزل الحجاب " . وما روي عن عمر رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين ، فأنزل الله آية الحجاب " وما روي أن عمر مر على نساء النبي r وهن مع النساء في المسجد فقال : " إن احتجبتن فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل ، فقالت زينب رضي الله عنها يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فلم يلبثوا يسيراً حتى نزلت " . فنص الآية وهذه الأحاديث قطعية الدلالة بأنها نزلت في حق نساء النبي عليه السلام ولم تنزل في غيرهن .
وأما الآية { وقرن في بيوتكن } فهي أيضاً خاصة بنساء الرسول r ونص الآية كاملاً هو { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولاً معروفاً . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، ويطهركم تطهيراً } فصدر الآية صريح بأنها نزلت في نساء النبي خاصة بهن ، لأن الخطاب لنساء النبي ، ولأنه تخصيص بهن { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } ولا يوجد أبلغ ولا أدل من هذا النص على أن هذه الآية نزلت بنساء الرسول وأنها خاصة بهن . وقد أكد هذا المعنى بآخرها في قوله تعالى في ختام الآية نفسها {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} عقب ذلك فقال { واذكرنا ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، إن الله كان لطيفاً خبيراً } فذكرهن بأن بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من القرآن .