الامريكيون لا يعرفون عن الاسلام الا من خلال الصور المقلوبة عنه في الف ليلة وليلة
الكتب المدرسية الامريكية حافلة بالفصول عن المعاناة اليهودية ولا تذكر شيئا عن الفلسطينيين
عرض وتقديم: ابراهيم درويش
في الجزء الثاني من مراجعتنا لكتاب ازبوزيتو نعرض لتحليله لصعود الاسلام المتطرف بعد الهزيمة العربية في عام 1967 وتجربة الانفتاح في عهد السادات. كما نعرض لتحليله لظاهرة التنوع في تعريف الجهاد وتمثلاته، في فكر الجهاد الاسلامي المصرية، وحماس، والانقاذ الجزائرية. كما تستعرض المراجعة رؤية الكاتب عن المستقبل ودعوته للحوار والتعايش بدلا من الصدام.


جند الله

الايديولوجية الثورية التي دعا اليها سيد قطب في كتابه الشهير معالم في الطريق اثمرت ثمارها حينما نشأ جيل من الثوريين الاسلاميين علي اطلال الهزيمة التي اطاحت بجيوش الدول العربية وخسارة فلسطين كاملة مع مناطق جديدة في قلب العالم العربي. وهذا هو المنعطف الهام الذي يشير الي اشكالية النفسية العربية المحطمة وتراجع الحلم القومي العربي، بكل تنوعاته العلمانية والاشتراكية، ووفاة جمال عبد الناصر، حيث بدأ التيار النخبوي الثقافي بالبحث عن الذات، ومساءلة الهزيمة نفسها، فيما اتخذ البحث عن الذات عند الجماهير العربية صورة العودة للدين والتدين. ولكن وبعيدا عن التيار الشعبي الذي سيجد في الحقبة الساداتية في مصر اطارا اخر هامشيا ولكنه ثوري ذو نزعة تكفيرية، حيث نلاحظ ظهور العديد من التيارات الاسلامية الجديدة مثل شباب محمد، جند الله، جماعة المسلمين او جماعة التكفير والهجرة، الجماعة الاسلامية التي صارت عباءة لكل الجماعات والحركات المصرية في عهد الانفتاح الساداتي، والجهاد الاسلامي بكل فرقه وطلائعه وجماعاته المختلفة. ومن ابرز ما انتج هذا التيار، كتاب الفريضة الغائبة التي بني عليها شباب الجهاد الذين اغتالوا الرئيس المصري السادات رؤيتهم الشرعية للعملية. والكاتب هو محمد عبد السلام فرج الذي قام باعادة صياغة لافكار المودودي وحسن البنا وبالطبع افكار سيد قطب، حيث اكد فرج علي اهمية الجهاد كفرض من فروض الاسلام الغائبة والمغيبة، مع ان الجهاد هو سنام الاسلام والركن السادس له. وقام فرج بتوسيع مفهوم الجهاد وتطبيقه علي السياق الاسلامي المعاصر ومصر تحديدا، وربط فرج بين تراجع الامة ونسيانها فريضة الجهاد، وانتقد فرج علماء العصر المتخصصين بالشريعة لتجاهلهم هذه الفريضة الهامة. واعتبر فرج الحكام المسلمين مرتدين، تربوا علي موائد الاستعمار، مهما كان صليبيا ام شيوعيا ام صهيونيا . ويري ازبوزيتو ان خروج مثل هذا الكتاب، وظهور مثل هذا التنظير علي خلفية الهزيمة يعتبر مرحلة من مراحل انتشار الاسلام الجهادي او الراديكالية الاسلامية في كل انحاء العالم الاسلامي. ومن هنا مثل تصاعد هذا الاتجاه بتفسيره الضيق والانتقائي للاسلام والجهاد تحديا للحكومات القائمة وللجماعات الاسلامية المعتدلة.
ولان الكاتب معني بالجذور والاصول وتقديم تمثيل وفهم محايد للاسلام فهو يقول ان الاصوليين او الارهابيين الاسلاميين قد يقومون باختطاف الاسلام والجهاد وفهمه، تماما كما قامت الجماعات الاصولية المسيحية واليهودية باختطاف دينهما الا ان هذا لا يعني البقاء عند حدود التعميم وعدم موضعة هذا الفهم في جذوره التاريخية والاجتماعية. فالاشكالية كما يبدو من تحليل ازبوزيتو لطبقات وصور الفهم التي يقدمها الفكر الاسلامي المعاصر لمفهوم الجهاد، لا تنبع بالفهم نفسه ولكن في السياق التاريخي الذي ولد فهما كهذا، لان فهم السياق هذا يجعلنا قادرين علي فهم عقل بن لادن وعلي بناء جسور للعلاقات المستقبلية بين عالمي الاسلام والغرب. وهنا يعود بنا الكاتب الي المنظورين اللذين يتسيدان التحليل السياقي التاريخي والديني للجهاد، وهما الجهاد دفاعا عن النفس والجهاد من اجل نشر كلمة الله. ويبدو ان الجهاد لنشر الاسلام كان وراء الفهم السييء الذي ارتبط بالذهنية الغربية عن الاسلام كونه دينا عنيفا، وعدائيا وانتشر بحد السيف، وقد ادي هذا الفهم بعدد من العلماء المسلمون لتقديم عدد من الصيغ الاعتذارية، وتقديم رؤي تشير الي ان الاسلام ليس دينا يدعو للعنف. ويري ازبوزيتو ان طيف الافكار التي يقدمها العلماء المسلمين حول مفهوم الجهاد واختلافهم حول شروطه واساليبه له علاقة بالسياقات الاجتماعية والسياسية. فالكثير من الحكام والعلماء استخدموا المفهوم لتحشيد الجماهير او دعوتهم للثورة ضد حكامهم تماما كما فعل آية الله الخميني، وبنفس السياق قامت حركة المقاومة الاسلامية، وحركة الجهاد الاسلامي بنفس الامر حينما استخدمتا فكرة الجهاد في سياق مقاومة الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. ولان الحديث الحالي حاول ربط الجهاد بفكرة المقاومة، فان الشهادة اكتسبت بعدا جديدا، خاصة في الحرب الايرانية العراقية، ففكرة الشاهد والشهادة استخدمت بشكل لافت للنظر للحشد وجمع المتطوعين.
يقول ازبوزيتو ان هذا التنوع في استخدام فكرة الجهاد او قل حضورها في المدي الاسلامي، لم يكن معروفا لدي الكثير من الامريكيين والغربيين بشكل عام، ففي الوقت الذي اعتبرت فيه امريكا جهاد الامام الخميني والثورة الاسلامية في ايران جهادا سيئا وارهابا اعتبرت واشنطن الجهاد الافغاني جهادا نافعا وجيدا، لان الاخير كان يدافع عن مصالح امريكا ويقوم بدور المحارب عنها في جبهة الحرب الباردة بعيدا عن كونه جهادا مقدسا ام غير مقدس. ويشير هذا الموقف، كما يري ازبوزيتو الي السطحية في التعامل مع قضايا العالم الاسلامي والذي ما زال مستمرا حتي الان، خاصة في دوائر صنع القرار. وخلال صفحات الكتاب، يدعو الكاتب الذي ينتمي الي جيل من المهاجرين الايطاليين الذين عانوا من تحيزات وعنصرية الواسب (الانكلو ـ ساكسون الابيض البروتستانتي) الي الفهم والتفهم والتعمق والاقتراب من العالم الاسلامي بعيدا عن الاخبار والحوادث التي تصنعها اعمدة الصحف والعناوين الرئيسية فيها.
ويري ازبوزيتو والحالة هذه ان هناك ضرورة لفهم دينامية السياسة في العالم الاسلامي واسس وشروط الجهاد والتحديات والمشاكل التي تواجهها المجتمعات الاسلامية من اجل فهم ما يدعو اليه بن لادن وغيره. وهذا الفهم هو من اجل امريكا ولمصلحتها.
وهناك مصلحة اخري في فهم الاسلام والجهاد، لان اسامة بن لادن استخدم نفس المصطلح لتبرير موقفه، فكلماته وصوره تشير دائما الي رجل يجسد الجهاد، يقف امامنا حاملا القرآن في يد والكلاشينكوف في يد اخري. ولكن المعارض السعودي ليس ظاهرة معزولة عن سياقها، بل هو عرض ونتاج لواقع اوسع من هذا الذي يمثله الان، وعليه فان اختفاءه عن المسرح السياسي والجهادي لن يمحو مخاطر الاسلام العالمي.

الذاكرة المرة

في قلب محاولة ازبوزيتو لفهم الوضع الذي يمثله ثوار مثل بن لادن، توجد فكرة التجديد، والطبقات المتعددة التي يعبر عنها الجهاد، حيث منح التنوع في الفهم والنظر، الجماعات والافراد في المجتمع الاسلامي فرصة لقولبة واعادة تفسير المفهوم من اجل اضفاء الشرعية علي الفكر الذي يدعو اليه هذا الفريق او ذاك. ولكن الجهاد المعاصر اليوم يرتبط بالأزمة التي تمر بها المجتمعات الاسلامية منذ القرن التاسع عشر، وهي اشكالية الهجمة الغربية علي العالم الاسلامي، وتحطيمه للامبراطوريات والدول التي كانت تمثل الاسلام بفرعيه السني والشيعي. ولهذا يموضع الكاتب الفكرة في سياقها التاريخي، هذا السياق الذي يشير للخيبة والالم والتخلف والتراجع، والذاكرة الاستعمارية التي ما زالت تلعب وتحضر في مخيلة المسلمين اليوم، وهي الذاكرة المليئة بكل الصور والالام التي تعود للحملات الصليبية والحملة الاستعمارية في القرون الماضية. وكمثال عن هذه يتحدث الكاتب عن حادثة احتلال الحرم في مكة المكرمة من قبل جماعة جهيمان العتيبي عام 1979، حيث يقول ان ثواراً مسلمين احتلوا الحرم وقاموا بتحدي شرعية دولة قامت علي الفكر السلفي. والذي لا يعرفه الناس حتي اليوم ان حركة جهيمان العتيبي لم تكن سعودية خالصة ولكنها تمثلت علي عدد من المشاركين من عدد كبير من الدول الاسلامية، لا يهم في هذا السياق كيف بدأ جهيمان العتيبي فكرته وحركته المهدوية، ولا الطريقة التي انتهت فيها، بالاعدام والقتل والموت، ولكن من ناحية تقديمها صورة عن عالمية فكرة الجهاد، التي تمظهرت في اعوام قليلة في ساحة افغانستان ومن ثم تنظيم القاعدة. ولكن بخلاف العتيبي وجماعته، فقد كان تنظيم القاعدة شكلا جديدا من الجهاد الاسلامي المتأثر بالعولمة والذي اتقن قيم التكنولوجيا الحديثة واستخدامها، فنحن كما يقول ازبوزيتو نقف امام جماعة هامشية اسلامية قامت باتقان فكرة العولمة وتحييدها او تدجينها واستخدامها لصالحها ولضرب المصالح الغربية. مما يجعل خطر هذه الجماعة كبيرا علي استقرار امريكا والعالم كما يقول الكاتب. ولكن الكاتب لا يعزل هذا التطور عن الذاكرة الاسلامية المثقلة بالجراح والاحزان والمآسي، فما يحدث في العالم الاسلامي اليوم، يثير الكثير من الغضب ويزيد من مشاعر معاداة امريكا في العالم، وهذه الذاكرة ترتبط بالضرورة بمجمل قاموس الخيبة، والتجربة الاستعمارية التي زرعت في قلب العالم الاسلامي اسرائيل .
وفي حديث الكاتب هنا عن هذه التجربة، يضع اصابعه علي اماكن الوجع الاسلامي ويثير المواجع، ويتحدث في هذا السياق عن الذاكرة المفقودة او المثقوبة للغرب، والفكر المتمركز حول ذاته، ففي الوقت الذي ترتبط فيه التجربة الصليبية بالوعي الغربي بالمحارب الفذ، والفدائي والشرف فان الصليبي في المخيلة الاسلامية مرتبط ببحار الدم والقتل والدمار. ومن هنا فان استخدام الرئيس الامريكي جورج بوش لمصطلح الصليبيين والاحتجاج ومن ثم الاعتذار الذي تبعه يشير الي رؤيتين في التفكير، وموقفين من الذاكرة البعيدة، ففي الوقت التي اصبحت فيه التجربة الصليبية جزءاً من التراث الماضي للغرب، فالتجربة ما زالت حية وطازجة في الوعي الاسلامي، لانها تتواصل كل يوم من خلال التجربة الاستعمارية القديمة. فالتهديد الاوروبي، للهوية الاسلامية ادي لولادة الكثير من الاسئلة الدينية والسياسية العميقة في داخل الدوائر المسلمة، وهذا ما يمكن رده الي ردود الفعل الاسلامية، الشعبية والنخبوية منها لقوي الحداثة، فحسب الكثير من الباحثين، فالرد الاسلامي اتخذ عددا من المحاور، منها المقاومة الشعبية والجهاد، كما حدث في القرن التاسع عشر، العزلة وعدم التعاون مع قوي الغرب التي تمثل الحداثة، الدعوة للعلمنة والتحديث، والدعوة لتحديث الاسلام. ويبدو ان هذه المحاور هي التي تسيدت النقاش في العالم الاسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتي الان، اي مرورا بالقرن العشرين. ومع ان الحداثة الاسلامية او الدعوة لتحديث الاسلام وهي الافكار التي دعا اليها جمال الدين الافغاني ومحمد عبده، كانت في سياق من سياقاتها نجاحا، من ناحية اسهامها في حل الاشكال الفكري حول العلاقة بين الاسلام والغرب، الا انها اتسمت بالنخبوبة، ولم تقم بمأسسة عملها. ولهذا السبب انفصمت افكارهم عن الواقع وادي المشروع الاستعماري الذي اعاد رسم العالم الاسلامي وانشأ دولا وكيانات وكينونات جديدة لظهور رد جديد مختلف علي هذه الهجمة، يمكن ان نسميه الاسلام الشعبي الذي كان مقدمة لظهور الاسلام الثوري المؤدلج والمتمركز حول فكرة الجهاد والتكفير، العزلة بين المجتمع والحاكم. ويبدو ان ازمة المسلم المعاصر لا ترتبط فقط بالذاكرة التاريخية بقدر ما تشير الي فشل الحكومات الاسلامية الحديثة، بتقديم رؤية تجمع بين مظاهر الحداثة والاصالة والتقاليد. وهنا نعثر علي عدد من التنوعات في داخل الدولة التي نشأت في العالم الاسلامي، الدولة الحديثة العلمانية مثل تركيا، والدولة الاسلامية مثل السعودية، ودولة مسلمين، وهذه الاخيرة جاءت في منتصف الطريق بين الدولة الحديثة والدولة التي قامت بتجميل دستورها بعدد من الملامح الاسلامية مثل الاقرار بان دستور الدولة هو الاسلام. وهذه الدول كانت المركز الاساسي للتجريب والدعوة للاصلاح سواء من خلال الاطروحات الليبرالية او الاشتراكية او الاسلامية الشعبية، وكل هذه التجارب تعرضت للمساءلة والتحييد من قبل الانظمة وجاءت هزيمة عام 1967 لتقضي علي كل هذه الايديولوجيات وتعبد الطريق لتيار جديد.

مصر ووجوه الاسلام السياسي

فالحركات الاسلامية المعاصرة، رغم فشلها في تقديم اطار سياسي او السيطرة علي الحكم الا في عدد من الحالات الا انها كما يري الكاتب كانت قوة دافعة تقف خلف تصاعد الاسلام السياسي والجهادي. وتظل جماعة الاخوان المسلمين التي نشأت في مصر عام 1928 في ظرف كانت فيه مصر خاضعة للاحتلال البريطاني، والجماعة الاسلامية في الباكستان التي ظهرت في سياق الحرب في شبه القارة الهندية واكدت حضورها في الباكستان بعد الانفصال او التقسيم عام 1947. وكما اشرنا فتأسيس الجماعتين، والظروف التي تحركتا بهما، تشير الي علاقة متجادلة بين السياسة والواقع، وتظل الحكومات في الدول العربية والاسلامية عاملا هاما في تحول هذه الجماعات من الجهاد السلمي الاصلاحي الي الجهاد المسلح. ويري الكاتب ان تجربة الاسلاميين في مصر تقدم نموذجا هاما عن وجوه الاسلام السياسي المتنوعة. وهنا نري مصر قدمت قائمة طويلة من الاصلاحيين، الناشطين الاسلاميين، والمجاهدين والمتطرفين او باللغة الامريكية ارهابيين ، فمصر كانت محل الولادة للاخوان المسلمين، ولمؤسسها حسن البنا وسيد قطب، ومحمد عبده، ومحمد عبد السلام فرج وايمن الظواهري.
ويعتقد الكاتب ان الحقبة الساداتية تمثل حلقة هامة في تطور الاسلام السياسي، حيث اراد السادات التأكيد علي رؤيته المستقلة بعيدا عن ظلال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي تحضر صوره وذكرياته في داخل المخيلة العربية اكثر من حضور صور لزعماء الدول العربية. كما ان السادات اراد كما تقترح بعض الكتابات استخدام الاسلام السياسي لمواجهة التيارات الشيوعية، ومهما يكن من امر، فالكاتب يشير الي الرأي الذي يري في محاولات السادات، اطارا لخلق صورة حاكم مطلق، ومن هنا قام بسيدتة مصر، وسيدتة تاريخها واعادة رمز الفرعون المتمثل به لها. في داخل هذه الحقبة نشأت جماعة الجهاد بتفكيرها الرافض للمؤسسة الحاكمة، من هنا جاء نجاحها في اغتيال السادات، الذي اثار غضب الشارع المصري والعالم العربي بتوقيعه معاهدة مع اسرائيل، ليعبد الطريق امام مواجهتها الحكومة، حيث اعلنت جماعة الجهاد التي قامت بالعملية عن حربها ضد الحكومة الجديدة التي رأسها حسني مبارك، وقامت في الثمانينات بعدد من العمليات ضد مراكز الحكومة، وفي التسعينات وبعد عودة الظواهري من افغانستان قامت الجماعة بعدد كبير من العمليات منها محاولة اغتيال مبارك في اديس ابابا. وحتي تواجه الحكومة المصرية خطر الجماعات الاسلامية، فقد اتخذت سياسة اسكات المعارضة السياسية او المعتدلة والمعارضة المتطرفة، ونجحت الحكومة المصرية بعد عدد من العمليات المثيرة، بقمع الطرفين، واجبرت قادة الجهاد الذين اعتقلتهم علي الاعلان عن وقف اطلاق النار، وهو الامر الذي رفضته جماعات الخارج بقيادة ايمن الظواهري. لكن الكاتب يشير الي ان النجاح الظاهري للرئيس مبارك بقمع الجهاد الاسلامي لا يعني ان التيار الاسلامي انتهي في مصر، فما حدث خاصة في داخل التيار المعتدل، هو عملية مأسسة للعمل الاسلامي، ومن هنا تقوم الكثير من مؤسسات العمل الاسلامي في مصر اليوم بمساعدة قطاعات واسعة من المجتمع المصري ما زال محروما. يري الكاتب ان قصة مصر، المتحالفة مع امريكا، تشير الي الطريقة التي اندفع فيها الاسلام الجهادي نحو افعال متطرفة لاسباب اقتصادية وسياسية.
يقدم ازبوزيتو مثالا اخر عن الاسلام السياسي، متحدثا عن الحركة الاسلامية في فلسطين، وحماس بالتحديد، مشيرا الي ايديولوجيتها، وموقفها من الاحتلال، وكيف تحول الجهاد لمقاومة، كما يناقش الموقف من العمليات الاستشهادية مشيرا الي التبرير الفلسطيني لها والنقاش الفقهي الدائر في دوائر الفقه والتشريع الاسلامي بشأنها. ويشير ازبوزيتو لبعد اخر في فكر حماس ونشاطها، وهو الاعمال الاجتماعية والخيرية التي تقوم بها في داخل فلسطين، ويعتقد الكاتب ان حماس، علي خلاف القاعدة واسامة بن لادن اظهرت نوعا من المرونة والقدرة علي ايجاد نوع من التوازن بين الايديولوجية والنشاطات البراغماتية السياسة . وبنفس السياق يتحدث ازبوزيتو عن الحركة الاسلامية في الجزائر، حيث استطاعت الحركة الاسلامية قبل تطور الاحداث لعنف مستمر حتي الان الوصول الي صناديق الاقتراع، وقد اعتبر نجاحها في هذا خطرا، لانه جاء خلافا للتوقعات بان الديمقراطية تعتبر مقتلا للحركات الاسلامية. ويقول ازبوزيتو في الوقت الذي كان ينظر قادة العالم بحذر من ولادة ايران اخري، فان انتشار الجبهة الاسلامية للانقاذ فتح الباب امام حركة اسلامية تستطيع الوصول للسلطة من خلال صناديق الاقتراع وليس عبر الدبابة . ولكن ما حدث في الجزائر يظل مثالا عن الطريقة التي تداخلت فيها العوامل السياسية والمحلية والاقليمية في دفع الاسلام السياسي نحو الغابة بدلا من احتوائه.

التهديد الوهابي

يخصص ازبوزيتو مساحة لمناقشة ما يسميه التهديد الوهابي ، حيث يشير الي عدد من الاستخدامات الخاطئة التي ارتبطت بهذا المصطلح والظلال السلبية التي يشير اليها، ولهذا السبب يفضل اعضاء هذا التيار، الرسمي والشعبي منه التحدث عن انفسهم باعتبارهم سلفيين. وفي ثقافة القرن العشرين استخدم المصطلح لوصف طيف من الحركات الاسلامية من السعودية الي القوقاز ومن الهند الي وسط آسيا.
يعتقد ازبوزيتو ان الرؤية الوهابية، انطلقت نحو العالمية في اعوام الستينات في القرن الماضي كرد علي التهديد الذي مثلته الاشتراكية العربية وحركات اليسار في العالم العربي، فقد قامت السعودية، الدولة بدعم قيام مؤسسات ومراكز دولية اسلامية لمواجهة هذه المخاطر التي تمثلت تحديدا بالتيار الناصري، كما تحالفت السلفية في السعودية مع عدد من التيارات الاسلامية مثل الاخوان المسلمين والجماعة الاسلامية الباكستانية رغم اختلاف الرؤية الفكرية والاسلوبية. وقد اصبح البترودولار واحدا من عوامل دولنة العمل الاسلامي وانطلاقه نحو العالمية، حيث تمت ترجمة كل اعمال البنا وسيد قطب والمودودي بكافة اللغات العالمية. وقد ادي البترودولار، لنمو العمل الاسلامي وتزايد جماعاته ونشر افكاره. ووصلت مظاهر التأثير السلفي او الوهابي الي افغانستان التي تحولت لساحة لتجريب العمل الاسلامي وافكاره، علي الرغم من اختلاف الرؤية بين طالبان والوهابية الا ان السلفية دعمت المدارس الديوبندية التي قامت عليها ايديولوجية طالبان، عبر انشاء شبكة من المدارس الدينية. يشير ازبوزيتو الي المفهوم الذي يربط الوهابية بالتشدد والتطرف ويرميها بالارهاب وهذا المفهوم كانت روسيا مسؤولة عن ترويجه واستخدمته عدة قيادات ودول اسلامية في منطقة آسيا الوسطي لوصم النشاط الاسلامي بالوهابية والتطرف.

من اجل الحوار والتعايش

بعد هذا العرض الموجز والسهل العبارة عن تصاعد الاسلام السياسي وعلاقته بأحداث ايلول (سبتمبر) الماضية، يتساءل الكاتب عن المستقبل، والطريق اليه، فقد اعادت الهجمات علي امريكا الكثير من الاسئلة القديمة عن صدام الحضارات، ومدي الكراهية لامريكا واسبابها وغير ذلك.
للاجابة عن هذه التساؤلات يكرس ازبوزيتو الفصل الاخير من كتابه للحديث عن ما يسميه الجهل الامريكي بالاسلام والمعايير المزدوجة، واعتبار الاسلام دينا خارجا او دينا لا ينتمي الي التقاليد المسيحية اليهودية التي يتربي عليها ابناء المجتمع الامريكي، ورغم حضور المجتمع الاسلامي ومشاركته الفاعلة في الحياة الامريكية، الا ان المسلمين حاضرون غائبون، يركز ازبوزيتو في اطروحته علي التراث الديني المتشارك بين الاسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها اديانا تنتمي الي نفس المصدر الابراهيمي . ويعتقد ازبوزيتو ان الاسلام علي الرغم من تصاعده وكونه ثاني اكبر دين في العالم الا ان معرفة الامريكيين به غير موجودة. وظل المسلمون باعتبارهم صورة عن الاخر، نتاجا للقولبات المأخوذة من عالم الف ليلة وليلة. وفي الوقت الذي تمتليء به الكتب المدرسية بالحديث عن المعاناة اليهودية وانشاء اسرائيل فان هذه المقررات لديها القليل للحديث عن معاناة الفلسطينيين، الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ملايين اللاجئين. وكمثال عن جهل المؤسسة الامريكية الحاكمة بالاسلام يشير الكاتب الي قول احد النواب الامريكيين اعرف كثيرا عن اشياء كثيرة الا انني لا اعرف عن الاسلام او العالم الاسلامي . ومن الاشياء التي يتحدث عنها الكاتب قوله ان الغربيين يحاولون تفسير العديد من الاحداث التاريخية العنيفة والقسوة والوحشية التي ارتكبت باسم الدين في سياقها التاريخي، اما حينما يتعلق الامر بالمسلمين فتتم ممارسة نوع من المعايير المزدوجة. وبعيدا عن هذا الموقف يقول الكاتب ان هناك امكانية للتعايش بين الاديان الثلاثة في السياق الامريكي، لان التعايش والاعتراف بالاسلام كمكون من مكونات الثقافة الامريكية سيجعل الكثيرين يتعرفون علي صورة اخري من الاسلام. يرفض الكاتب اطروحة صدام الحضارات التي عادت للحضور في فترة ما بعد الهجمات، ويعتقد ان هناك سوقا للصدام وليس صداما حقيقيا. ويشير الي ان النقاش الحالي يعمي الانظار عن التنوع في الاسلام، وفي داخل الحركات الاسلامية، فوضع الاسلام والاسلاميين وجماعات الجهاد بسلة واحدة، يظلم التجربة الاسلامية الحضارية. ويقول ان الاشكالية في العالم الاسلامي ليست في الرأسمالية، ولكن في الهيمنة الغربية، ويقدم الباحث دفاعا جيدا وجميلا عن موقف الاسلام من الرأسمالية، حيث يحتوي الاسلام علي هذا البعد، ويذكر هذا الدفاع بالدراسات التي انتشرت في الستينات حول علاقة الاسلام بالاشتراكية. وفي اطار الحديث عن الرؤية الواحدية عن الاسلام يقول ان هذه الفكرة التي تنتجها الالة الاعلامية كانت ستصح لو نجح الامام الخميني وبعده اسامة بن لادن في تحشيد العالم الاسلامي لصالح الافكار التي كانا يدعوان اليها.
ويحاول ازبوزيتو معالجة عدد من الموضوعات التي تشير لهذا الفهم المنقوص عن الاسلام، حيث يعتقد ان الكتاب الذي الفه احد السفراء المسلمين في الامم المتحدة الاسلام الدين الذي اسيء فهمه ينطبق علي الواقع الحالي. فهو هنا يحلل الموقف من المرأة والنمطيات التي يحتوي عليها الاعلام الغربي، متوصلا لنتيجة مفادها ان هناك تنوعا في المواقف والافكار حتي في الموقف من المرأة التي تشارك اليوم في التعليم الديني وفي النشاط السياسي، ويناقش الاراء المتنوعة من حجاب المرأة المتوفرة في المجتمع الاسلامي، والتي لا تتوافق مع الموقف الاحادي الواضح الذي يحمله الغرب عن المرأة المسلمة باعتبارها مضطهدة.
وفي محاولة لافتة تدعو للحوار بدلا من الصدام، والتعايش بدلا من الانفصام والانفصال، والتفاهم بدلا من سوء الفهم، والتعددية بدلا من الفهم الضيق، يشير الكاتب هنا الي اصوات الحوار المضطهدة في السياق الاسلامي والتي يغطي عليها تركيز الاعلام علي دعاة الصدام من الطرفين بدلا من التفاهم، وفي هذا الاطار يقدم مناقشة هادئة لافكار نائب رئيس الوزراء الماليزي انور ابراهيم، الداعي للتفاهم العالمي، وعبد الرحمن واحد رئيس اندونيسيا الداعي للاسلام الكوزموبوليتي والتعددية العالمية، ومحمد خاتمي رئيس ايران الحالي الذي دعا لحوار الحضارات، وهي اصوات جديرة بالانتباه اليها بدلا من التعتيم عليها والتركيز علي الصور النمطية عن الاسلام الغاضب التي يمثلها دعاة المواجهة مع الغرب.
ينطوي كتاب ازبوزيتو علي موقف محايد، ومعتدل، ويفهم حركية الاسلام في العالم المعاصر، وتشعر بحماسة وعاطفية الكاتب في دعوته للحوار والفهم وشجبه للجهل الغربي بالاسلام الذي يحمل في طياته نوعا من التطرف الاعمي، فحامل البندقية لا يفترق عن النائب الامريكي الذي قال ان عقله مبرمج علي مجموعة من الافكار ولهذا لا يريد التغيير او معلومات تشوش عليه افكاره الحالية. واعتقد ان كتاب ازبوزيتو من اهم الكتب التي صدرت بعد الأزمة التي نتجت عن احداث ايلول، فهو قراءة هادئة بعيدة عن الصحافية والتوتر والاثارة، والتحيز التي مثلت كتابات اخري، كما ان الكاتب موجز في عرضه يبتعد عن لغة الشجب والاحكام المسبقة عن الاسلام، فهو يري ان القوالب الجاهزة عن الاخر هي السبب الرئيسي وراء الذاكرة التاريخية المريرة في العالم الاسلامي والتي دفعت لظهور شخصيات متطرفة ومتشددة تريد تغيير الواقع واعادته للنبع الاصلي.


عنوان الكتاب:

Unholy War
Terror in the Name of Islam

John L. Esposito
Oxford University Press
2002

http://www.alquds.co.uk/alquds/artic.../05-22/g13.htm