نضيف هنا فقرات من الكتاب لكونها مطبوعة بيدنا سابقا ونعدكم بعدها (ان شاء الله تعالى ) اذا تيسر الوقت الكافي ... باعادة الترتيب بشكل يوافق مكانها من الكتاب كما وردت ونتركها مؤقتا بين ايدكم لما فيها من عظة وعبرة ,,
(ابو نعيم )
___________________________________
العلماء ومحن الحكام
لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه ان يفتنهم ويختبرهم , ليميز الخبيث من الطيب .
(ألم . أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمّن الله الذين صدقوا وليعلمّن الكاذبين ) (1)
ولقد اعتاد الظالمون من الحكام ان يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف , ويناهضونهم في افكارهم الباطلة , ولم يسايروهم في اهوائهم , وينزلوا بهم , انواع المحن , بعد ان أعرضوا عن كل اشكال المنح التي قدمها الحكام اليهم , في ذلة وصغار , ولكن انّى للنفوس الكريمة , ذات المعدن الطيب أن تغرى بمال , او يسيل لعابها على فتات الدنيا, او تستمال بعرض زائل من الحياة .
اما المحن فقد استعّدوا لها . وتحملوا نارها بصبر وجلد , وصابروا شدة بأسها بعزم واحتساب لأنهم فقهوا قول الله تعالى : ( قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) وآمنوا بقول الخالق العظيم :
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاة مرضاة الله والله رؤوف بالعباد ) (2)
وكان ائمة المسلمين من السادة العلماء الذين أشرأبت الاعناق اليهم اجلالا وتقديرا وولاء , في مقدمة الذين اصابتهم المحن ونزلت بهم الشدائد الصعاب فخرجوا منها ظافرين طاهرين , مصداقا لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ( ولا تزال طائفة من امتي على امر الله لايضرها من خالفها ) (3)
وقوله : ( لاتزال طائفة من امتي قائمة على الحق الى ان تقوم الساعة ) (4)
نعم انتصروا بعدما ظلموا . وظفروا من بعد محنتهم وظهر الحق الذي آمنوا به . ولو استشهد بعضهم في سبيل ذلك , لان النصر الحقيقي , هو نصر العقيدة أو ظهور الحق جليا للعيان , الذي كان سببا في تلك المحن ولان البقاء في الدنيا هو للعقيدة والحق اما الممتحنون فلهم بقاء الذكر الجميل لهم على مر الدهور . وهذا كائن ولو لم يخطر ببالهم لأنهم اخلصوا العمل والتضحية لله وحده , بل البقاء الاكبر الذي يرجونه هو بقاء السعادة واستمرار النعيم في دار الخلد والتفيؤ بظلال الجنة ونوال رضوان الله في الاخرة وهذا هو البقاء الحق وللنصر المبين المنشود .
ولقد صدق الامام ابن القيم في نونيته حيث يقول : الحق منصور ومستحسن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن وبذاك يظهر حزبه من حربه لاشك ذاك , الناس طائفتان .
ان المراد بهذا الفصل _ العلماء ومحن الحكام _ هو بيان المحن التي انزلها الحكام بالعلماء ظلما وعدوانا , اما بتحرش منهم , لان الحكام يزعجهم وتكرب نفوسهم ان يكون بين ظهرانيهم علماء لهم من الاحساس المرهف, والتفكير المستنير ما يجعلهم واقفين بالمرصاد لكل تصرفاتهم , قادرين على كشف تلك التصرفات للامة لتعرفها , فتحدد موقفها من ذلك , فينزل لحكام بهم المحن , للقضاء على جانب المعارضة والانكار . واما ان يسمع (ضم الميم ) العلماء مقالة الاسلام بكل جراءة وشجاعة , فتضيق بذلك صدورهم , ويبطشون بهم .
واما الحكام يحملون العلماء على شيئ , فيابى إيمانهم ذلك , فيكون العقاب ويقع الاذى . واما العلماء يعلنون مخالفتهم لنهج معين من سلوك الحكام , فيغضب الحكام وتثور ثائرتهم , وتنتهي هذه الثورة بالحبس او الضرب المبرح . واما العلماء فيرفضون منحة حاكم , او قربا دعوا اليه فيحصل التعذيب لان طلب الحكام لايرد مهما كان , ذلك هو فهمهم السقيم .
ومحن لحكام لعلماءنا الابرار التي سنذكرها هي من هذه الانواع, وهي التي يحتاجها اليوم الصنفان من النااس العلماء والحكام , لاخذ العبرة . وهل هناك عبرة اعظم من ان نذكر علماءنا الابرار الذين ضحوا بانفسهم وتحملوا العنت والسوء , فنترحم عليهم ونذكرهم بخير كلما ذكرت اسماؤهم , اما اولئك الحكام الذين ساموا علماءنا سوء العذاب , فلهم الخزي وعليهم الاثم .. ( وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون ) . ان العلماء الذين امتحنوا في دينهم ومن اجل اسلامهم كثيرون فذكر بعضهم يغني , وان كانت النفس والفكر تتوقان الى تعدي البعض والمزيد فيه ...
لذا فقد اخترت _ اولا _ ذكر المحن التي اصابت الائمة الكرام الذين اجمعت الامة الاسلامية على اتباع نهجهم في فهمهم للاسلام , وهم الامام جعفر الصادق , الامام ابو حنيفة النعمان , الامام مالك بن انس , الامام محمد بن ادريس , الشافعي , الامام احمد بن حنبل , الامام البخاري , الامام احمد بن تيمية , ليرى المعتقدون بصحة نهجهم , والسالكون طريقهم في الفهم , ما كان عليه ائمتهم الكرام رضوان الله عليهم , ليكون الايمان بنهجهم كله وبجميع جوانبه , وذلك هو الاقتداء بالحق , والاتباع الصحيح .
ثم اني _ثنيت _ بذكر محنة امامين من الذين سبقوهم بالايمان وهما سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومثلهما من الذين اتبعوهم بإحسان العز بن عبد السلام واحمد السرهندي لتكمل العبرة , وتحسن الذكرى , وان كانت المحن بقيت قائمة يصبها الظالمون من الحكام على علمائنا (الرجال ) اذ لم يخل منها عصرا مما فات , ولعلها لن تنقطع حتى قيام الساعة والخروج من هذه الدنيا , ما دام في الحياة علماء ابرار يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم . وما دام الحكام ظالمون , يعملون لإضلال الامة ويفسدون في الارض .
وأرى من الامانة العلمية للتأريخ الاسلامي ان أؤكد المعنى الذي أشرت اليه , واني على ذكر حوادث مهمة من التاريخ الاسلامي , اذ انها تتعلق برؤساء الدولة الاسلامية وعلمائها الابرار , في فترات من عصورها الزاهرة ,هي ان الحكام الذين انزلوا المحن الشديدة بالسادة العلماء , ما كانوا في الحقيقة, وواقع الامر , يكرهون الاسلام , ولا يابون السير وفق هداه , اذا انهم لم يطبقوا غيره وان أساء بعضهم فيه , ولكن قد اصابتهم فتنة الحكم والسلطان وما اعظمها وما اكثرها ..
وان الانسان سوى الانبياء غير معصوم من الوقوع في الخطأ, وارتكاب الاثم لذلك فقد تعثر هؤلاء في سيرهم وأصابهم بعض التنكب في سلوك النهج الصحيح , والعلماء تجاه هذا انكروا عليهم تعثرهم , وعارضوا تنكبهم اذا قاسوهم بالخلفاء الراشدين , الذين هم المثل الاعلى للحكام المسلمين بعد الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم , فظهر البون بينهما , فكان الصراع بين الحكام والعلماء وكانت المحن ...
فعلى كل فهم حكام مسلمون , ودولتهم التي كانوا عليها دولة اسلامية , ولم تشقى الامة الاسلامية , ولم يتمكن اعداء الاسلام من النيل منه الا حين ذهبت دولة الاسلام , وانطمست معالمها من الوجود .
والعلماء مأجورون على مواقفهم الصلبة تجاه الاسلام , ومشكورون على تضحيتهم في سبيل اعزاز الدين ورفع لوائه خفاقا بالنصر المبين .
والحكام الذين اساءوا اليهم وظلموهم نكل امرهم الى الله تعهالى مرددين قوله الكريم : ((تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون )) . (5)
******** ( يتبع ان شاء الله ) *********
هوامش :
(1 ) الاية 2 العنكبوت
(2 ) 207 من سورة البقرة
(3) رواه ابن ماجه
(4) رواه الحاكم بسند صحيح .
( 5) آية 141 سورة البقرة