ابتلي الكمبيوتر بالعبء الأكبر من أخطاء الناس هذه الأيام. فإن ألغى حجزك أو تضاعفت فاتورتك أو تأخرت معاملتك ستجد العذر دائماً: «خطأ في الكمبيوتر».. وعلى نفس النمط وفر «علم الوراثة» مجالاً واسعاً لتبرير الأخطاء الفردية والسلوكيات الشاذة؛ فكما أصبح الكمبيوتر شماعة الأخطاء الأولى في القضايا المالية والادارية أصبحت الجينات (أو المورثات) الحجة السائدة في القضايا القانونية والجنائية!!
فمن المعروف أن معظم القضايا الجنائية تسقط إن كان مرتكبها مجنوناً أو صغيراً وفعلها تحت ظروف قاهرة.. ولكن بعد أن كثرت الفرضيات التي تدعي بأن (معظم السلوكيات الخاطئة) يمكن أن تورث أصبح من الشائع اعتمادها لتبرير التصرفات المخالفة للقانون.. ففي أمريكا مثلاً أصبح من المألوف أن يقف أحد المحامين ويدعي أن موكله «قتل زوجته بالمطرقة بسبب السلوك العنيف الذي ورثه من والديه» أو أن «الواقفة أمامكم أحرقت ابنها بالجازولين بسبب مورثة إجرامية تسري في عروق العائلة».
والعجيب أنه حتى أصحاب المصالح الخاصة «دخلوا على الخط» واستغلوا هذا الموضوع لتحقيق مكاسب مادية واقتصادية دنيئة. فشركات الخمور مثلاً تتبنى الأبحاث التي تدعي أن الإدمان على المسكرات يعود لأسباب وراثية لا دخل لهم فيها. وفي كاليفورنيا طالبت نقابة الأفلام الإباحية بمزيد من الحرية لمواكبة دوافع الشبق التي تفرضها المورثات الشاذة - أما شركات التأمين في نيويورك فقررت رفع الأقساط على من يتضح امتلاكه خلفية وراثية عنيفة....
.. الكارثة هنا أن الجينات تحولت الى عذر مادي لقضايا غير مادية بطبعها كالأخلاق والعواطف.
فاليوم أصبحت الأجيال الجديدة في الغرب تؤمن بأن العنف والشذوذ والخيانة والأنانية والانغماس في الخطايا ؛ تعود لأسباب وراثية لا دخل للفرد فيها .وتصديق هذه العلاقة سيغير بالتأكيد النظرة الاجتماعية والقانونية لسلوكيات كانت مستهجنة حتى وقت قريب؛ فالشذوذ الجنسي مثلاً - وزواج المثيلين - كان مستهجناً وغير قانوني في جميع الدول؛ ولكن الوضع تغير الآن نحو مزيد من التسامح - والاعتراف رسمياً بزواج المثيلين - بحجة وجود دافع وراثي لا ذنب للشخص فيه!!
وهناك بروفيسور يدعى دين هامر (يرأس المعهد الأمريكي للسرطان) اكتشف عام 1993 مورثة خاصة ادعى مسؤوليتها عن الانحراف الجنسي لدى الشاذين. وهذا العام عاد الى الأضواء باكتشاف آخر غريب يدعي فيه أن التدين (وتحديداً التعصب الديني) يعود لدوافع جينية موروثة. ويقول هامر إنه توصل الى هذه النتيجة بعد مراجعة خارطة المورثات ل2000 شخص اتضح من خلالها أن المتدينين يملكون جينة قوية (تدعى VMAT2) يفتقر اليها الملحدون أو غير المتدينين من البشر!!
ورغم أن هذه الفرضية سبقتها فرضيات مشابهة - بخصوص موقفنا من الظواهر الخارقة مثلاً - إلا أن مسألة وجود جينة خاصة بالتدين (كبيرة شوي) وتطرح أسئلة محرجة.. فهل هناك مثلاً مورثات خاصة بالتعصب المسيحي واليهودي والاسلامي - وربما البوذي والهندوسي!؟..
وهل يعود السبب في إلحاد البعض - بعد تدين - وتدين البعض - بعد إلحاد - إلى انخفاض وارتفاع فعالية الجينة ( VMAT2).. وحتى لو صدقنا بوجود مورثة من هذا النوع ألا يعيدنا هذا الى فكرة وجود خالق يتحكم بمصائر البشر بواسطة «جينة» تقرر مصيرهم في الآخرة!؟ الله اعلم.
منقول من مقال